جاءَ رجلٌ يتخطَّى رقابَ الناسِ يومَ الجمعةِ، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ، فقال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «اجلسْ فقد آذيتَ وآنيت».
رواه أحمد برقم: (17674)، وابن ماجة برقم: (1115) واللفظ لهما. ورواه أبو داود برقم: (1118)، والنسائي برقم: (1399)، من حديث عبد الله بن بُسر -رضي الله عنه- غير ابن ماجة فقد رواه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (155)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (714).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يتخطَّى»:
تخطَّى النَّاس واختطاهم: رَكِبهم وجاوزهم. المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده (5/ 285).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
لا يتخطَّى رقاب الناس: بأنْ يَشُقَّ صفوف القاعدين بِخُطاه، يُقال: خطا يخطو: إذا مشى، وتخطَّى الشيء تخطيًّا: إذا مشى عليه. إتحاف السادة المتقين (3/ 257).
«آذَيْت»:
أَيْ: آذَيْت الناس بِتَخَطِّيك. النهاية، لابن الأثير (1/ 78).
«آنَيْتَ»:
أَي: أخَّرت الْمَجِيء وأبطأت. غريب الحديث، لأبي عبيد (1/ 75).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
معنى: «آنيت»: أبطأت في المجيء، وأخرته عن أوانه. فتح الباري (8/ 107).
شرح الحديث
قوله: «جاء رجل يَتَخَطَّى رقاب الناس يوم الجمعة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الزين ابن المنير: التفرقة بين اثنين (أي: لا يتخطى رجلين) يتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما، والقعود مكانه، وقد يطلق على مجرّد التخطِّي، وفي التخطِّي زيادة رفع رجليه على رؤوسهما، أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه، وقد استُثْنِيَ من كراهة التخطِّي: ما إذا كان في الصفوف الأول فرجة، فأراد الداخل سدَّها، فيُغْتَفَرُ له؛ لتقصيرهم. فتح الباري (2/392- 393).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قد فرق النووي بين التّخطي، والتفريق بين الاثنين، وجعل ابن قدامة في المغني التّخطي هو التفريق.
قال العراقي: والظاهر الأول؛ لأن التفريق يحصل بالجلوس بينهما، وإن لم يتخطّ. نيل الأوطار(3/301)
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
التخطي المراد به: تخطِّي الرقاب من صفٍّ إلى صفٍّ، وأما المشي بين الصفوف فجائز، ولو في حال الخطبة. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري(10/ 88).وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«يتخطَّى رقاب الناس» جمع رقبة، ويشبه أن يراد بها: الذات؛ كما في عتق الرقبة، يُسْتَثْنَى من التخطِّي: ما إذا كان إمامًا. شرح سنن أبي داود (5/ 634- 635).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«رقاب الناس يوم الجمعة» وفي كل صلاة جماعة. شرح سنن أبي داود (5/ 635).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الظاهر: أنَّ التقييد يكون (الإمام على المنبر)، وبـ «يوم الجمعة» خرج مخرج الغالب؛ لكثرة الناس في ذلك الوقت، فلا يفهم منه: جواز التخطِّي في سائر الصلوات، وكذا حِلَق الذكر، والعلم؛ لوجود العلة، وهي الأذى. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 211).
قوله: «والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب» يعني: في أثناء خطبته. شرح سنن أبي داود (5/ 635).
قوله: «فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: اجلس»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله: «اجلس» أي: لا تُجاوِزْهم ولا تَتَخَطَّ رقابهم. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 177).
وقال أحمد حطيبة -رحمه الله-:
قوله: «اجلس» أمره أن يجلس، وفي قوله هذا: زجر وتأديب له ولغيره من الناس، وأنه لا ينبغي هذا الفعل طالما الإمام على المنبر وبدأت الموعظة، فلا ينبغي لأحد أن يُشَوِّشَ على الناس. شرح الترغيب والترهيب (16/ 8).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
يشبه أن يكون هذا الحديث محمولًا على من صلى تحية المسجد قبل أن يتخطَّى، ثم تخطَّى ليجلس بالقرب من الإمام، ويسمع صوته ويشاهده، ويحتمل: أن يكون المراد: اجلس بعد التحية، وَتَرَكَ ذِكرَها؛ لأنه كان معهودًا عندهم. شرح سنن أبي داود (5/ 635).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أما حديث ابن بسر فهو أيضًا واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل: أن يكون تَرَكَ أمره بالتحية قبل مشروعيتها، وقد عارض بعضهم في قصة سُلَيْكٍ بمثل ذلك، ويحتمل: أن يجمع بينهما بأن يكون قوله له: «اجلس» أي: بشرطه، وقد عُرف قوله للداخل: «فلا تجلس حتى تصلي ركعتين» فمعنى قوله: «اجلس» أي: لا تَتَخَطَّ، أو تَرَكَ أمره بالتحية؛ لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة؛ بحيث ضاق الوقت عن التحية، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة، ويحتمل: أن يكون صلى التحية في مؤخرة المسجد، ثم تقدَّم لِيَقْرُبَ من سماع الخطبة، فوقع منه التخطِّي، فأنكر عليه. فتح الباري (2/ 409).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وليس لأحد أن يشُقَّها (أي: الصفوف) بالدخول والناس جلوس قبل الصلاة؛ لما في ذلك من الجفاء على الناس، والأذى لهم، ولهم ذلك بعد تمام الصلاة؛ لأنهم ممن أباح الله لهم الانتشار بعد الصلاة؛ فلذلك سقط أذى التخطِّي عن الخارج؛ لأنهم مختارون للجلوس بعد الصلاة، ومأمورون بالجلوس قبلها، وقد خرج -صلى الله عليه وسلم- بعد تَقَضِّي الصلاة يتخطَّى رقاب الناس، فقال: «تذكرت ذهبية كانت عندي فخشيت أن تحبسني». التوضيح لشرح الجامع الصحيح (32/ 559).
قوله: «فقد آذيت»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فقد آذيت» -بمد الهمزة- أي: آذيت نفسك وآذيت المصلين. شرح سنن أبي داود (5/ 635).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فقد آذيت» يعني: بتخطِّي رقاب الناس. شرح سنن أبي داود (4/ 463).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقد آذيت» الفاء للتعليل، أي: لأنك قد آذيت الناس. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 212)
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
«آذيت» تخطيت رقاب الناس، وحرمة الناس عظيمة، فكذلك هذا المسبوق، هذا الذي تأخر يضطرُّ إلى أن يُدْرِكَ بعض ما فات بالجري. شرح بلوغ المرام (89/ 6).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمتخطِّي يوم الجمعة: «آذَيتَ وآنيتَ»: بيان أن التخطِّي أَذَىً، ولا يحل أذى مسلم بحال؛ في الجمعة وغير الجمعة. التمهيد (1/ 561).
قوله: «وآنيت»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
زاد في رواية: «آذيت وآنيت» بِمَدِّ الهمزة، أي: أخَّرتَ المجيء وأبطأت فيه، ومنه قيل للمتمكِّث في الأمور: مُتَأَنٍّ، وقال: «آنيت» وأنَّيت بالتشديد بمعنى واحد. شرح سنن أبي داود (5/ 636).
وقال العيني -رحمه الله-:
وهذا الحديث يدل على أنه- عليه السلام- لم يأمر لذلك الرجَل بالصلاة، بل أَمرهُ بالجلوس. شرح سنن أبي داود (4/463)
وقال النووي -رحمه الله-:
فرْعٌ في مذاهب العلماء في التخطِّي: قد ذكرنا أن مذهبنا: أنه مكروه؛ إلا أن يكون قدَّامهم فرجة لا يَصِلُها إلا بالتخطِّي فلا يكره حينئذ، وبهذا قال الأوزاعي وآخرون، وحكى ابن المنذر: كراهته مطلقًا عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعيد بن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل، وعن مالك: كراهته إذا جلس الإمام على المنبر، ولا بأس به قبله، وقال قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه، وعن أبي نصر: جواز ذلك بإذنهم، قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك عندي؛ لأن الأذى يحرم قليله وكثيره، وهذا أذى كما جاء في الحديث الصحيح قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن يراه يتخطَّى: «اجلس فقد آذيت» المجموع (4/ 546- 547).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وأكثر العلماء على كراهة تخطِّي الناس يوم الجمعة، سواء كان الإمام قد خرج أو لم يخرج بعد، وقالت طائفةٌ: لا يُكره التخطِّي إلا بعدَ خروجهِ...
فإن وجد فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، ففيه قولان:
أحدهما: يجوز له التخطي حينئذٍ...
والثاني: أنه يكره...
وعن أحمد روايتان في ذلك، كالقولين.
وعنه روايةٌ ثالثةٌ: إن كان يتخطى واحدًا أو اثنين جاز، وإن كان أكثر كره.
وحمل بعض أصحابنا رواية الجواز عن أحمد على ما إذا كان الجالسون قد جلسوا في مؤخر الصفوف، وتركوا مقدمها عمدًا، ورواية الكراهة على ما إذا لم يكن منهم تفريطٌ... فتح الباري (8/ 204- 207).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
التخطّي يوم الجمعة على ضربين:
أحدهما: قبل أنْ يجلسَ الإمامُ على الْمِنْبَرِ، والثّاني: بعد ذلك، فأمّا التَّخطِّي قبل الجلوس لمن رأى فُرْجَةً لجُلُوسِه، فإنّه مباحٌ، ورواهُ ابنُ القاسم عن مالكٍ؛ لأنّ للدَّاخِلِ حقًّا في الجلوس في الفُرْجَةِ ما لم يجلس فيها غيره؛ لأنَّ جلوس الجَالِسِ دونهما لا يمنعُ هذا الدّاخل من الجلوس فيها؛ لأنّه لم يتَأخَّر عن وقتِ الوُجوب، ولا بُدَّ له من طريق إليها، إلَّا أنَّه يُؤْمر بالتَّحَفُّظِ من إذاية النَّاسِ، والرِّفْقِ في التَّخطِّي إليها.
وأمّا الدَّاخلُ بعد جلوس الإمام على المنبر فلا يتخطَّى إلى فُرْجَةٍ ولا غيرها؛ لأنّ تأخيره عن وقت وجوب السَّعْي قد أبطلَ حقَّه من التَّخَطِّي إلى الفُرْجَةِ، بَيَّن ذلك مَا رُوِيَ عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-؛ أنّه قال للداخل يوم الجمعة: «اجْلسْ فَقَد أَذَيْتَ»، ويُرْوَىْ: «آذَيتَ وآنيْتَ»...
قال الشّافعيّ: أَكرَهُ التَّخَطِّيَ قبل دخولِ الإمام وبعدَهُ...
وأمّا مذهب مالكٍ، فإنّه قال: لا يُكْرَهُ التخطِّي إلَّا إذا كان الإمام على المنبر، ولا بَأسَ به قَبْل دخول الإمام إذا كان بين يديه فَرْجٌ. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 467-469).
وقال النووي -رحمه الله-:
المختار: أنَّ تخطِّي الرقاب حرام؛ للأحاديث فيه. روضة الطالبين (11/ 224).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
أحاديث الباب تدل على كراهة التخطِّي يوم الجمعة، وظاهر التقييد بيوم الجمعة: أن الكراهة مختصَّةٌ به، ويحتمل: أن يكون التقييد خرج مخرج الغالب؛ لاختصاص الجمعة بكثرة الناس، بخلاف سائر الصلوات، فلا يختص ذلك بالجمعة، بل يكون حكم سائر الصلوات حكمها، ويؤيد ذلك: التعليل بالأذية، وظاهر هذا التعليل: أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها، ويؤيِّده أيضًا ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تخطَّى حِلَق قوم بغير إذنهم فهو عاصٍ»، ولكن في إسناده جعفر بن الزبير، وقد كذبه شعبة، وتركه الناس. نيل الأوطار (3/ 301).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
تخطِّي رقاب الناس غير جائز؛ لحديث عبد الله بن بُسْر، ولا فرق بين القليل والكثير منه؛ لأن الأذى لا يجوز منه شيء أصلًا، وإذا جاء فوسَّعوا له، فتخللهم، ولم يتخطَّاهم فهو غير داخل فيما نُهِيَ عنه، والله أعلم. الأوسط (4/ 86).
قال ابن رجب -رحمه الله-:
فظاهر كلامه (أي: ابن المنذر): تحريمه بكل حال، والأكثرون جعلوا كراهته كراهة تنزيهٍ. فتح الباري (8/ 206).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي قاله ابن المنذر -رحمه الله تعالى- حسن جدًّا، وحاصله: أن التخطِّي مطلقًا غير جائز؛ لتحريم أذى المسلمين، فإن أَذِنوا له جاز؛ لانعدام العلة، وهي الأذى. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 214).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
متى احتاج إلى التخطِّي لحاجة لا بد منها من وضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعًا للصلاة بدونه، أو كان إمامًا لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطِّي- لم يكره، وقد سبق حديث عقبة بن الحارث في قيام النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- من صلاته مسرعًا، يتخطَّى رقاب الناسِ.
وكذا لو ضاق الموضع وآذتهم الشمسُ، فلهم -إذا أقيمت الصلاة- أن يشُقُّوا الصفوف، ويدخلوا لأذى الشمس، نص عليه أحمد في روايةٍ الأثرمِ، وحكى ابن المنذر عن أبي نضرة: جواز تخطِّيهم بإذنهم، وعن قتادة: يتخطَّاهم إلى مجلسه. فتح الباري (8/ 205).
وقال يحيى العمراني -رحمه الله-:
حكى الطبري: أنَّ القفال قال: إذا كان الرَّجل محتشمًا أو مخوفًا لم يُكره له أن يتخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة في الجامع؛ لما ذكرناه من حديث عثمان حين جاء وعمر يخطب؛ ولما رُوِيَ: «أن النبي -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- جِيْءَ به حين مرض يُهَادَى بين رجلين حتى دخل المحراب». البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 591).
قال العيني -رحمه الله- معلقًا:
هذا ليس بشيء، والأصل عدم التخصيص، وقال المتولي: إذا كان له موضع يألفه، وهو مُعَظَّم في نفوس الناس، لا يكره له التخطِّي، قلتُ: فيه نظر. عمدة القاري (6/ 208-209).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وأجمعوا أن التخطِّي لا يفسد شيئًا من الصلاة. الاستذكار (2/ 50).
وللاستفادة من الراوية الأخرى ينظر (هنا)