الإثنين 19 جمادى الأولى 1447 | 2025-11-10

A a

«مَن صامَ يومًا في سبيلِ اللهِ باعدَ اللهُ وجهَه عن النارِ سبعين خَرِيفًا»


رواه البخاري برقم: (2840) ومسلم برقم: (1153) واللفظ له، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
وفي رواية عند النسائي برقم: (2254) من حديث عُقبة بن عامر -رضي الله عنه-: «باعدَ اللهُ منه جهنمَ مسيرةَ مائةِ عامٍ».
ورواه الترمذي برقم: (1624) من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-: «جعلَ اللهُ بينَه وبينَ النارِ خَنْدَقًا، كما بينَ السماءِ والأرضِ».
حديث عُقبة في:
صحيح الجامع برقم: (6330) سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2565).
وحديث أبي أُمامة في:
صحيح الجامع برقم: (6333)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (563).


مختصر شرح الحديث


.


غريب الحديث


«خَرِيفًا»:
أي: سَنةً. المفهم، للقرطبي (3/ 217).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الخريف: الزمان المعروف من فصول السَّنة ما بين الصيف والشتاء. النهاية، لابن الأثير (2/ 24).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«الخريف»: فعيل بمعنى: مفتعل؛ أي: مُخْترف، وهو الزمان الذي تخترف فيه الثمار (أي: تجتني). المفهم (3/ 217).


شرح الحديث


قوله: «مَن صامَ يومًا في سبيلِ اللهِ»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«مَن صام يومًا» من الأيام؛ من صيف أو شتاء «في سبيل الله» وفي لفظ: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله». كشف اللثام (4/ 17).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
قوله: «يومًا» إنْ أُريد به واحد الأيام، كان دليلًا على استحباب صومه، سواء أردنا بسبيل الله: الجهاد والطاعة؛ حيث لا يحصل به ضعف المجاهد عن جهاده ولا طاعته، وإن أردنا به: جنس الصوم، وأنه لا يتقيد بعدد، فينبغي أن يكون بحيث لا يضعف به عن مقصوده من عمله في الجهاد أو الطاعة، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 911).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله» أي: في طاعة الله؛ يعني بذلك: قاصدًا به وجه الله تعالى، وقد قيل فيه: إنه الجهاد ‌في ‌سبيل ‌الله. المفهم (3/ 217).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قلتُ: ويحتمل أن يكون ما هو أعمّ من ذلك، ثم وجدتُه في فوائد أبي الطاهر الذهلي من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: «ما من مرابط يرابط ‌في ‌سبيل ‌الله فيصوم ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله...» الحديث. فتح الباري (6/ 48).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله: «‌في ‌سبيل ‌الله» العُرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد، فإذا حُمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين -أعني: عبادة الصوم والجهاد-، ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت، ويعبَّر بذلك عن صحة القصد والنية فيه، والأول: أقرب إلى العُرْف.
وقد ورد في بعض الأحاديث: جعْل الحج أو سفره ‌في ‌سبيل ‌الله، وهو استعمال وضعي. إحكام الأحكام (2/ 37).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله» أي: في الجهاد، أو في طريق الحج أو العمرة أو طلب العلم، أو ابتغاء مرضاة الله. مرقاة المفاتيح (4/ 1425).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
هذا الذي قاله ابن دقيق العيد من ترجيح كون المراد بسبيل الله هو الجهاد هو الظاهر عندي، والله تعالى أعلم. ذخيرة العقبى (21/ 125).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: قد روى البخاري: «ليس من البر الصوم في السفر».
قلتُ: ذلك فيمَن لم يعتد على الجهاد مع الصوم، واتفقوا على أن الصوم أفضل من الإفطار لمن كان قويًّا. الكوثر الجاري (5/ 428).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «في سبيل الله» هل المراد في شريعة الله، أو المراد في سبيل الله، أي: في الجهاد في سبيل؟
يحتمل المعنيين، يحتمل: «في سبيل الله» أي: في شريعة الله، ويكون في هذا تنبيه على الإخلاص والمتابعة؛ لأن العمل لا يكون في سبيل الله إلا إذا جمع بين الإخلاص والمتابعة، ويحتمل أن يكون المراد: «في سبيل الله» أي: في الجهاد في سبيل الله؛ لأن الصوم في هذه الحال دليل على قوة رغبة الإنسان فيه، فيمتاز بزيادة الأجر، كما كونه يقع خالصًا لله، متَّبِعًا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أي مكان وفي أي زمان، فهذا شرط للعبادة.
على كل حال: حتى لو لم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «في سبيل الله»، فإن مَن صام لا في سبيل الله، لا أجر له، فالذي يظهر أن المراد: «في سبيل الله» يعني: الجهاد في سبيل الله؛ لأنه إذا أطلق الصوم الشرعي فهو الذي يكون في سبيل الله، وحينئذٍ يكون التقييد ضعيفًا، أما إذا قيدناه فإنه لا بد أن يفيد معنى قويًّا مفيدًا أكثر من الإطلاق، وهو الظاهر أنه في سبيل الله، أي: في الجهاد في سبيل الله، ولكن يشترط لذلك ألا يكون مخالفًا للشرع، فإن كان مخالفًا للشرع فلا شك أن الإنسان لا ينال به أجرًا كما لو كان الصوم يضعفه عن القتال فحينئذٍ لا يصوم؛ ولهذا لما كان المسلمون مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح رغَّبهم في الفطر؛ فمنهم مَن أفطر ومنهم مَن صام، ولما نزلوا المنزل الذي يلاقون فيه العدو من عنده، قال لهم: «إنكم لاقو العدو غدًا، والفطر أقوى لكم فأَفْطِروا»، فأمرهم بالفطر وعلَّل ذلك بأنه أقوى، وعلى هذا فإذا كان الإنسان في القتال فالمشروع له أن يفطر، وحينئذٍ لا يمكن أن يرغِّب الشرع في أمر يطلب من المسلمين أن يَدَعُوه، إذن كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله، ويصوم هذا اليوم الذي فيه الأجر العظيم، مع أنكم تقولون: لا يصوم وقت ملاقاة العدو؟
يمكن أنْ يكون مرادفًا، (و) يمكن أن يكون إلى الآن لم يلتحم القتال ويستعد والصوم لا يشقُّ عليه فهذا أمر ممكن. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 263).

قوله: «باعدَ اللهُ وجهَه عن النارِ»: وفي رواية النسائي: «باعدَ اللهُ منه جهنمَ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«باعد» أي: أَبْعَدَ، فليست المفاعلة مرادة. البحر المحيط الثجاج (21/ 382).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«بعَّد الله وجهه عن النار» أي: نجاه منها، أو عجَّل الله إخراجه منها قبل أوان الاستحقاق. التيسير (2/ 425).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله في فضل الصوم ‌في ‌سبيل ‌الله: «باعد الله وجهه عن النار...» مبالغة في الإخبار عن البعد عنها، والمعافاة منها. إكمال المعلم (4/ 115).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
معنى المباعدة من النار: المعافاة منها -عافانا الله منها بمنّه وكرمه-. رياض الأفهام (3/ 489).
وقال العيني -رحمه الله- معقبًا:
قلتُ: لا مانع من الحقيقة على ما لا يخفى، ثم هذا يقتضي إبعاد النار عن وجه الصائم، وفي أكثر الطرق إبعاد الصائم نفسه، فإذا كان المراد من الوجه الذات، كما في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} القصص: 88، يكون معناهما واحدًا، وإن كان المراد حقيقة الوجه يكون الإبعاد من الوجه فقط، وليس فيه أن يبقى الجسد أن يناله النار، إلا أن الوجه كان أبعد من النار من سائر جسده؛ وذلك لأن الصيام يحصل منه الظمأ ومحله الفم؛ ولأن الرِّيَّ يحصل بالشرب في الفم. عمدة القاري (14/ 134).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
ثم المراد بالوجه: جملة الشخص الصائم في سبيل الله، وعبَّر به عن الجملة لأنه أشرف ما فيه...، وأما المباعدة عن النار في هذا الحديث فهي بحيث لا يحس بها، ولا يجد ألمها. العدة في شرح العمدة (2/ 911- 912).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«بعَّد الله وجهه» أي: ذاته، والعرب تقول: وجه الطريق، تريد به عينه، «عن النار» أي: نجَّاه منها، أو عجَّل إخراجه منها قبل أوان الاستحقاق، عبر عنه بطريق التمثيل ليكون أبلغ؛ لأن مَن كان مُبْعَدًا عن عدوه بهذا القدر لا يصل إليه ألبتة. فيض القدير (6/ 161).

قوله: «سبعين خريفًا» وفي رواية النسائي: «مسيرةَ مائةِ عامٍ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «سبعين خريفًا» أي: سَنة، وهو على جهة المبالغة في البعد عن النار. المفهم (3/ 217).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«سبعين خريفًا» أي: مدة سَيْرِ سبعين سَنة. دليل الفالحين (7/ 30).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أطلق الخريف على العام من إطلاق الجزء على الكل. سبل السلام (1/ 213).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
كثيرًا ما جاءت السبعون عبارة عن التكثير، واستعارة للنهاية في العدد، قال الله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} التوبة: 80. إكمال المعلم (4/ 115).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وكثيرًا ما يجيء السبعون عبارة عن التكثير، وفي النسائي من حديث عقبة: «مسيرة مائة عام». التوضيح (17/ 473).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: فما حكم بعد السبعين؟
قلتُ: هذا مذكور للمبالغة لا للتحديد، كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} هود: 108. الكواكب الدراري (12/ 130).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «سبعين خريفًا» هل المراد بالسبعين حقيقتها أو المراد المبالغة؟ الظاهر: أن المراد حقيقتها؛ لأنه لا وجه للمبالغة هنا. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 264).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومعني «سبعين خريفًا» سبعين سَنة، وكان العرب يطلقون الخريف وهو أحد فصول السنة على السنة كاملة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذا تعبير معروف عند العرب، فإن قال قائل: لِمَ خصَّ ذلك بسبعين خريفاً؟
قلنا: إن مثل هذه الأمور لا يمكن الإجابة عليها؛ لأن عقولنا قاصرة عن إدراك الحكمة في تقييد ذلك بسبعين خريفًا، ولو قدَّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأقل وأكثر لم يكن لدينا علم عن الحكمة في ذلك، فمثل هذه الأمور يُسَلِّم الإنسان فيها تسليمًا كاملًا لما جاء به الشرع خبرًا أو طلبًا. فتاوى نور على الدرب (210/ 3).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
إنَّما عبَّر بالخريف؛ لأنه وقت الثمار، وكان العرب يوقتون الأمور به. الكوثر الجاري (5/ 428).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وكنَّى عنها بالخريف؛ لأنه ألطف فصولها؛ لما فيه من اعتدال البرودة والحرارة؛ ولأنه يجري فيه الماء في الأغصان. دليل الفالحين (7/ 30).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
ويجوز أيضًا أن يكون -عليه الصلاة والسلام- عبر بذلك لَمَّا كان الخريف نصفه الأول فيه الحر؛ إذ هو معاقب لفصل الصيف، ونصفه الآخر فيه البرد؛ إذ كان يليه فصل الشتاء؛ ليتذكر العبد بذلك حر النار وزمهريرها، والله تعالى أعلم. رياض الأفهام (3/ 489- 490).

وفي رواية الترمذي: «جعلَ اللهُ بينَه وبينَ النارِ خَنْدَقًا كما بينَ السماءِ والأرضِ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض» حقيقة هذا مثل قوله: «الصوم جنة» يعني: يصير صومه خندقًا بينه وبين النار، فكما أن الرجل إذا كان بينه وبين عدوه خندق لا يصل إليه عدوه، فكذلك الصائم لا تصل إليه النار. المفاتيح (3/ 46).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «خندقًا» هو استعارة تمثيلية عن الحاجز المانع، شبَّه الصوم بالحصن، وجعل له خندقًا حاجزًا بينة وبين النار التي شُبِّهت بالعدو، ثم شُبِّه الخندق في بُعْد غَوْره بما بين السماء والأرض. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1614).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض» أي: يصير صومه خندقًا بينه وبين النار؛ فكما أن الرجل إذا كان بينه وبين عدوه خندقًا لا يصل إليه عدوه، فكذا الصائم لا تصل إليه النار. شرح المصابيح (2/ 550).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«جعل الله بينه وبين النار خندقًا» أي: حجابًا شديدًا، ومانعًا بعيدًا بمسافة مديدة «كما بين السماء والأرض» أي: مسافة خمسمائة سنة. مرقاة المفاتيح (4/ 1425).
وقال العيني -رحمه الله-:
اختلفت الروايات في مقدار المباعدة من النار، ففي حديث عُقبة بن عامر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجه النسائي: «مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله باعد الله منه جهنم مائة عام»، وفي حديث عمرو بن عنبسة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجه الطبراني في الكبير كذلك مائة عام، وكذا في حديث عبد الله بن سفيان أخرجه الطبراني أيضًا، وفي حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجه ابن عدي في الكامل: «‌مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله تباعدت عنه جهنم مسيرة خمسمائة عام»، وفي حديث أبي أمامة أخرجه الترمذي وتفرد به عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «‌مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض» وكذا رواه الطبراني في الصغير عن أبي الدرداء، وكذا رواه عن جابر، وفي رواية ابن عساكر: «أَبْعَدَه الله من النار مسيرة مائة سَنة حَضْرُ الجَوَادِ (أي عَدْوُهُ)»، وفي حديث عتبة بن النذر أخرجه الطبراني أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «‌مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله فريضة باعد الله منه جهنم كما بين السموات والأرضين السبع، ومَن صام ‌يومًا تطوعًا باعد الله منه جهنم ما بين السماء والأرض»، وفي حديث سلامة بن قيصر، أخرجه الطبراني أيضًا في الكبير، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَن ‌صام ‌يومًا ابتغاء وجه الله بعَّده الله من جهنم بُعْدَ غراب طار وهو فرخ حتى مات هرمًا»، وفي حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي أنه قال: «مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله زحزحه الله عن النار سبعين خريفًا» والآخر يقول: «أربعين» وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي حديث سهل بن معاذ عن أبيه، أخرجه أبو يعلى الموصلي: «مَن ‌صام ‌يومًا ‌في ‌سبيل ‌الله متطوعًا في غير رمضان بعّد من النار مائة عام سير المضمر المجيد»، وفي حديث ابن عساكر عن ابن عمر: «مَن صام يومًا في سبيل الله متطوعًا فهو بسبعمائة يوم».
فإن قلتَ: ما التوفيق بين هذه الروايات؟
قلتُ: الأصل أنْ يرجَّح ما طريقته صحيحة، وأصحها رواية: «سبعين خريفًا»؛ فإنها متفق عليها من حديث أبي سعيد، وجواب آخر: أنَّ الله أعْلَمَ نبيه -صلى الله عليه وسلم- أولًا بأقل المسافات في الأبعاد، ثم أعلمه بعد ذلك بالزيادة على التدريج في مراتب الزيادة، ويحتمل أن يكون ذلك بحسب اختلاف أحوال الصائمين في كمال الصوم ونقصانه، والله أعلم. عمدة القاري (14/ 134).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
خلاصة ما تقدم: أن قوله: «سبعين خريفًا» ليس للتحديد، وإنما هو للتكثير، بدليل روايته بلفظ: «مائة عام»، والحاصل: أنه لا تعارض بين رواية: «سبعين» ورواية: «مائة»؛ لكون المراد التكثير، لا التحديد.
ويحتمل أنَّ الله تعالى وعد الصائم في سبيل الله بإبعاد جهنم عنه مسيرة سبعين خريفًا، ثم تفضل الله تعالى بالزيادة على ذلك، حتى كان مسيرة مائة عام، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (21/ 383).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني (الحديث): مَن جمع بين تحمُّل مشقة الصوم ومشقة الغزو يكون له هذا التشريف، وهذا إذا اتفق الغزو في البلد، أما إذا كان في السفر فإن لم يلحقه ضعف يمنعه عن الجهاد فالصوم أفضل له من الإفطار، وإن لحقه ضعف فالإفطار أولى. المفاتيح (3/ 43).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الصيام في سائر أعمال البر أفضل إلا أن يخشى الصائم ضعفًا عند اللقاء؛ لأنه قد ثبت عن الرسول أنه قال لأصحابه في بعض المغازي حين قرب من الملاقاة بأيام يسيرة: «تقوَّوا لعدوكم» فأمرهم بالإفطار؛ لأن نفس الصائم ضعيفة، وقد جَبَل الله الأجسام على أنها لا قوام لها إلا بالغذاء؛ ولهذا المعنى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: «أفضل الصوم صوم داود؛ كان يصوم ‌يومًا ويفطر ‌يومًا، ولا يفرّ إذا لاقى» فلا يكره الصوم ألبتة إلا عند اللقاء وخشية الضعف عند القتال؛ لأن الجهاد وقتل المشركين أعظم أجرًا من الصوم لمن فيه قوة. شرح صحيح البخاري (5/ 48).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: فضيلة الصيام ‌في ‌سبيل ‌الله، وهو محمول على مَن لا يتضرر به، ولا يفوِّت به حقًّا، ولا يختلّ به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه. المنهاج شرح صحيح مسلم (8/ 33).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
في الحديث: الحث على الصوم المطلق في كل موطن، حتى في الجهاد وغيره، على ما بيَّناه.
وفيه: الحث على اجتماع الفضل في الطاعات، وأنه إذا أمكن الجمع فيها كان أفضل؛ تكثيرًا للأجور.
وفيه: جواز التعبير عن الكل بالجزء إذا كان له وجه فضيلة وشرف، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 912).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يؤخذ من الحديث:
- يقيَّد استحباب الصيام ‌في ‌سبيل ‌الله بعدم الإضعاف عن الجهاد، فإنْ أَضْعَفَه فالمستحب له تركه؛ لأن الجهاد من المصالح العامة، والصوم مصلحة مقصورة على الصائم، وكلما عمَّت مصلحة العبادة، كانت أولى. تيسير العلام (ص: 346).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
1. منها: بيان فضيلة الصيام في سبيل الله.
2. ومنها: جواز الصوم في السفر، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوِّت به حقًّا، ولا يختل به قتاله، ولا غيره من مهمات غزوه؛ وإنما حملناه على هذا؛ جمعًا بينه وبين حديث: «ليس من البرِّ الصيام في السفر» متفق عليه، وحديث: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» رواه مسلم.
3. ومنها: بيان سعة فضل الله تعالى ورحمته؛ حيث يعطي على العمل قليل الأجر الجزيل. البحر المحيط الثجاج(21/ 384).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)


إبلاغ عن خطأ