«إنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإنَّ اللَّه إذا أحبَّ قومًا ابتلاهُمْ، فمَنْ رضِيَ فله الرِّضا، ومَنْ سَخِطَ فله السُّخَطُ».
رواه الترمذي برقم: (2396)، وابن ماجه برقم: (4031)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (9325) من حديث أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (3407)، مشكاة المصابيح برقم: (1566).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«عِظَم الجزاء»:
بضم العين وسكون الظاء، وقيل: بكسر ثم فتح، أي: عظمة الأجر، وكثرة الثواب. مرقاة المفاتيح (3/ 1142).
«البلاء»:
الاختبار، ويكون بالخير والشر. الصحاح، للجوهري (6/ 2285).
وقال الرازي -رحمه الله-:
البلاء واحد، والجمع البلايا، وبلاه جربه واختبره، وبابه عدا وبلاه الله اختبره يبلوه بلاء بالمد، وهو يكون بالخير والشر. مختار الصحاح (ص: 40).
«الرضا»:
الرضا، مقصور: ضد السَّخط. لسان العرب، لابن منظور (14/ 323).
وقال الجرجاني -رحمه الله-:
الرضا: سرور القلب بِمُرِّ القضاء. التعريفات (ص: 111).
«سخط»:
السُّخْط والسَّخَطُ: نقيض الرضا، والفعل: سخط يسخط. وتسخطه: لم يرض به. العين، للفراهيدي (4/ 192).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
السَّخْطُ والسُّخْطُ: الكراهية للشيء وعدم الرِّضا به. النهاية في غريب الحديث(2/ 350).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«إن عظم الجزاء» أي: كثرة الثواب «مع عظم البلاء» أي: يحصل بحسب كثرة البلاء. شرح المصابيح (2/ 324).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «إن عظم الجزاء» أي: إن كثرة الثواب تحصل بوصول كثرة البلاء إلى الرجل. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 408).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إن عظم الجزاء» بضم العين وسكون الظاء، وقيل: بكسر ثم فتح أي: عظمة الأجر وكثرة الثواب مقرون «مع عظم البلاء» كيفية وكمية، جزاء وفاقًا، وأجرًا طباقًا. مرقاة المفاتيح (3/ 1142).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البلاء» بكسر العين وفتح الظاء ويجوز ضمها مع سكون الظاء أي: فمن كان بلاؤه أكثر أو أكبر فجزاؤه أتم وأوفر. شرح الشفا (2/ 378).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إن عِظَم» بكسر العين المهملة وفتح الظاء «الجزاء» المكافأة والمقابلة، «مع عظم البلاء» و«إن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم» كما سلف لفظه مرارًا. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 11).
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ -رحمه الله-:
ولما كان الأنبياء -عليهم السلام- أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء، كما في حديث سعد: «سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» رواه الدارمي وابن ماجه والترمذي وصححه.
وقد يحتج بقوله: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء» من يقول: إن المصائب والأسقام يثاب عليها غير تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا إن كانت سببًا لعمل صالح كالتوبة، والاستغفار والصبر والرضا، فإنه حينئذٍ يثاب على ما تولد منها كما في حديث: «إذا سبقت للعبد من الله منْزلة لم يبلغها، أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبَّره حتى يبلغه المنْزلة التي سبقت له من الله -عز وجل-» رواه أبو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم، وعلى هذا فيجاب عن الأول: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء» أي: إذا صبر واحتسب. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص: 448-449).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء» أي: يتقابل عظم الجزاء مع عظم البلاء، فكلما كان البلاء أشد، وصبر الإنسان صار الجزاء أعظم؛ لأن الله عدل لا يجزي المحسن بأقل من إحسانه، فليس الجزاء على الشوكة يشاكها كالجزاء على الكسر إذا كسر، وهذا دليل على كمال عدل الله، وأنه لا يظلم أحدًا، وفيه تسلية المصاب. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (10/ 700-701).
قوله: «وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإن الله -عز وجل- إذا أحب» أي: إذا أراد أن يحب «قومًا ابتلاهم» فإن البلاء للولاء، والابتلاء للأولياء. مرقاة المفاتيح (3/ 1142).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ابتلاهم» أي: اختبرهم بالمحن والرزايا. مرعاة المفاتيح (5/ 260).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
العلل والأمراض كفارات لأهل الإيمان، وعقوبات يمحص الله بها عمن شاء منهم في الدنيا؛ ليلقوه مطهرين من دنس الذنوب. شرح صحيح البخاري (9/ 391).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
فالبلاء دليل إرادة الخير أو عقوبة الذنب، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الأخرى، من عظم بلاؤه عظم أجره وهو دال على محبة الله تعالى لعبده إذ عجّل عقوبته في الدنيا وآجره في العقبى. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (13/ 382).
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ -رحمه الله-:
قوله: «وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم» صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله؛ ولما كان الأنبياء -عليهم السلام- أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء، وأصابهم من البلاء في الله ما لم يصب أحدًا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسىي بهم من بعدهم، ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم.
فإن قلتَ: كيف يبتلي الله أحبابه؟! قيل: لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرًا لهم كما صحت بذلك الأحاديث، وفي أثر إلهي: «أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب» ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في حديث: «إذا سبقت للعبد من الله منْزلة...» الحديث؛ ولأن ذلك يدعو إلى التوبة فإن الله تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب كما قال تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الروم:41، فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه؛ ولأن ذلك يحصل به دعاء الله والتضرع إليه؛ ولهذا ذم الله من لا يستكين لربه، ولا يتضرع عند حصول البأساء كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} المؤمنون:76، ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم، فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين، فإن صلاح الدين في أن يعبد الله وحده ويتوكل عليه، وأن لا تدعو مع الله إلهًا آخر لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده، وتطيع رسله بفعل المأمور، وترك المحظور، كنتَ ممن يعبد الله، وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضر به، كان هذا من أعظم نعم الله عليك، وهذا كثيرًا ما يحصل بالمصائب، وإذا كانت هذه النعم في المصائب، فأولى الناس بها أحبابه، فعليهم حينئذٍ أن يشكروا الله. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص:449-450).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم» أي: اختبرهم بما يقدر عليهم من الأمور الكونية، كالأمراض، وفقدان الأهل، أو بما يكلفهم به من الأمور الشرعية، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} الإنسان:23-24، فذكره الله بالنعمة وأمره بالصبر؛ لأن هذا الذي نزل عليه تكليف يكلف به.
كذلك من الابتلاء الصبر على محارم الله، كما في الحديث «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله» فهذا جزاؤه أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (10/ 701).
قوله: «فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: بالبلاء وصبر عليه «فله الرضا» أي: يحصل له رضا الله ورحمته.
«ومن سخِط» بكسر الخاء؛ أي: كره البلاء وجزع ولم يرضَ بحكم الله «فعليه السخط» من الله والغضب عليه، والرضا والسخط يتعلقان بالقلب لا باللسان، فكثير ممن له أنينٌ من وجعٍ وشدةِ مرضٍ مع أن في قلبه الرضا والتسليم بأمر الله تعالى. شرح المصابيح (2/ 324):
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فمن رضي فله الرضا» أي: فمن رضي بالبلاء وصبر عليه، يحصل له رضا الله تعالى.
«ومن سخط» أي: ومن كره البلاء وجزع، ولم يرض بحكم الله، يحصل له سخط الله وغضبه، والسخط من العبد: يتعلق بالقلب لا بالأنين باللسان، فكم من رجل له أنين من شدة المرض، وفي قلبه الرضا والتسليم بأمر الله، فلا تقل عمن سمعته يئن: إنه غير صابر؛ لأن الرضا والسخط محلهما القلب، وأنت لا تطلع على قلب أحد. [المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 408).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فمن رضي فله الرضا» فإن قلتَ: إذا كانت الفاء تفصيلية، فالتفصيل غير مطابق للمفصل؛ لأن المفصل اشتمل على فريق واحد، وهو أهل المحبة، والتفصيل على فريقين: أهل الرضا وأهل السخط.
قلتُ: هو من أسلوب قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} النساء:172-173 الآية.... فكذا ها هنا، أي: إذا أحب الله تعالى قومًا وأبغض قومًا ابتلاهم جميعًا. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1350).
وقال الطيبي -رحمه الله- أيضًا:
وقوله: «فمن رضي فله الرضا» شرط وجزاء، فُهم منه أن رضا الله تعالى مسبوق برضا العبد، ومحال أن يرضى العبد عن الله إلا بعد رضا الله عنه، كما قال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} البينة:8، ومحال أن يحصل رضا الله ولا يحصل رضا العبد في الآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} الفجر:27-28، فعن الله الرضا أزلًا وأبدًا، سابقًا ولاحقًا. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1350).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فمن رضي» أي: بالبلاء «فله الرضا» أي: فليعلم أن له الرضا من المولى، أو فيحصل له الرضا في الآخرة والأولى، قيل: رضا العبد محفوف برضاءين لله تعالى سابقًا ولاحقًا، وأنا أقول: إنما اللاحق أثر السابق، والله أعلم بالحقائق «ومن سخط» بكسر الخاء أي: كره بلاء الله، وفزع ولم يرض بقضائه «فله السخط» من الله أولًا والغضب عليه آخرًا.
واعلم أن الرضا والسخط حالان متعلقان بالقلب، فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض وقلبه مشحون من الرضا والتسليم لأمر الله. مرقاة المفاتيح (3/ 1142).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«فَمَنْ رضي» بالقضاء «فله الرّضا» من الله تعالى وجزيل الثواب وجميل المآب «ومن سخط» بكسر الخاء أي: كره «فله السّخط» بفتحتين أي: الغضب واليم العذاب ودوام الحجاب. شرح الشفا (2/ 378).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «فمن رضي فله الرضا» أي: رضا الله تعالى عنه جزاء لرضاه، أو فله جزاء رضاه وكذا قوله: «فله السخط» ثم الظاهر أنه تفصيل لمطلق المبتلين لا لمن أحبهم فابتلاهم؛ إذ الظاهر أنه تعالى يوفقهم للرضا فلا يسخط منهم أحد. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 493).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فمن رضي» بالبلاء «فله الرضا» من الله تعالى «ومن سخط فله السخط» وفيه أنه لا يعظم الجزاء إلا مع الرضا عن الله تعالى. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 11).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
المقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه. مرعاة المفاتيح (5/ 260).
وقال سليمان آل الشيخ -رحمه الله-:
قوله: «فمن رضي فله الرضا» أي: من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء فله الرضا من الله جزاءً وفاقًا، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} البينة:8، وهذا دليل على فضيلة الرضا، وهو أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولا يكرهه، وقد وصى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا فقال: «لا تتهم الله في شيء قضاه لك» فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة الله ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه، دعاه ذلك إلى الرضا، قال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط...
وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر، وقد يُستدل به على إيجاب الرضا، كما هو اختيار ابن عقيل، واختار القاضي (أبو يعلى ابن الفراء) عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام، وابن القيم.
قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم.
قال: وأما ما جاء من الأثر: «من لم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي فليتخذ ربًّا سواي» فهذا إسرائيلي ليس يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قلتُ: قد روى الطبراني في الأوسط معناه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعًا: «من لم يرض بقضاء الله ويؤمن بقدر الله، فليلتمس إلهًا غير الله» قال الهيثمي: فيه حزم بن أبي حزم وثقه ابن معين، وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات، فإن ثبت هذا دل على وجوبه.
قال شيخ الإسلام: وأعلى من ذلك، أي: من الرضا أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله تعالى عليه بها. انتهى.
واعلم أنه لا تنافي بين الرضا وبين الإحساس بالألم فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض قلبه مشحون من الرضا والتسليم لأمر الله.
فإن قيل: ما الفرق بين الرضا والصبر؟
فالجواب: قال طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز، والفضيل، وأبو سليمان، وابن المبارك، وغيرهم: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر، وقال الخواص: "الصبر دون الرضا، الرضا أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذاك كان، والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر". تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص:450-452).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قال ابن عون: ارضِ بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر، فإن ذلك أقل لهمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم أنَّ العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء، كرضاه عند الغنى والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك؟ ثم تسخط إنْ رأيتَ قضاءه مخالفًا لهواك؟! ولعل ما هويتَ من ذلك لو وفق لك، لكان فيه هلاكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؛ وذلك لقلة علمك بالغيب، وكيف تستقضيه إن كنت كذلك؟ ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا.
وهذا كلام حسن، ومعناه: أنَّ العبد إذا استخار الله -عز وجل-، فينبغي له أن يرضى لما اختاره له من موافق لهواه، أو مخالف له؛ لأنه لا يدري في أيهما الخيرة له، والله سبحانه غير متهم في قضائه لمن استخاره، ومن ها هنا كان طائفة من السلف كابن مسعود وغيره يأمرون مَن يخاف أو لا يصبر على ما يخالف هواه، مما يختار له أنْ يقول في استخارته: في عافيةٍ، فإنه قد يختار له البلاء ولا يصبر عليه، وقد روي هذا مرفوعًا من وجهٍ ضعيف. نور الاقتباس في وصية النبي لابن عباس (ص: 114).
وقال الشيخ فيصل بن المبارك -رحمه الله-:
في هذا الحديث: الحثُّ على الصبر على ما تجري به الأَقدار، وأَنه خيرٌ للناس في الحال والمآل، فمن صبر فاز، ومن سخط فاته الأَجر وثبت عليه الوِزْر، ومضى فيه القدر. تطريز رياض الصالحين» (ص:47).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (مَن): شرطية، والجواب: «فله الرضا» أي: فله الرضا من الله، وإذا رضي الله عن شخص أرضى الناس عنه جميعًا، والمراد بالرضا: الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله، وهذا واجب بدليل قوله: «ومن سخط» فقابل الرضا بالسخط، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية.
ولم يقل هنا: «فعليه السخط» مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه، كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} فصلت:46.
فقال بعض العلماء: إن اللام بمعنى على؛ كقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} الرعد:25، أي: عليهم اللعنة.
وقال آخرون: إن اللام على ما هي عليه، فتكون للاستحقاق، أي: صار عليه السخط باستحقاقه له، فتكون أبلغ من (على) كقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أي: حقت عليهم باستحقاقهم لها، وهذا أصح.
ويستفاد من الحديث:
إثبات المحبة، والسخط والرضا لله -عز وجل-، وهي من الصفات الفعلية لتعلقها بمشيئة الله تعالى؛ لأن «إذا» في قوله: «إذا أحب الله قومًا» للمستقبل، فالحب يحدث، فهو من الصفات الفعلية.
والله تعالى يحب العبد عند وجود سبب المحبة، ويبغضه عند وجود سبب البغض، وعلى هذا، فقد يكون هذا الشخص في يوم من الأيام محبوبًا إلى الله، وفي آخر مبغضًا إلى الله؛ لأن الحكم يدور مع علته.
وأما الأعمال، فلم يزل الله يحب الخير والعدل والإحسان ونحوها، وأهل التأويل ينكرون هذه الصفات، فيؤولون المحبة والرضا بالثواب، أو إرادته، والسخط بالعقوبة أو إرادتها، قالوا: لأن إثبات هذه الصفات يقتضي النقص ومشابهة المخلوقين، والصواب ثبوتها لله -عز وجل- على الوجه اللائق به كسائر الصفات التي يثبتها من يقول بالتأويل.
ويجب في كل صفة أثبتها الله لنفسه أمران:
1 - إثباتها على حقيقتها وظاهرها.
2 - الحذر من التمثيل أو التكييف. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين(10/ 701-702).