«إذا قرأَ ابنُ آدمَ السجدةَ فسجدَ، اعتزلَ الشيطانُ يبكي، يقولُ: يا وَيْلَهُ -وفي روايةٍ أبي كُرَيبٍ: يا ويلي- أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسجودِ فسجدَ فله الجنةُ، وأُمِرْتُ بالسجودِ فأَبَيْتُ، فَلِيَ النارُ».
رواه مسلم برقم: (81)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«اعتزل»:
أي: تباعد، وكل من عَدَلَ إلى جانب، فهو مُعْتَزِل. الكاشف عن حقائق السنن، للطيبي (3/1026).
«يا ويله»:
الويل: الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل.
ومعنى النداء فيه: يا حزني، ويا هلاكي، ويا عذابي، احضر، فهذا وقتك وأوانك، فكأنه نادى الويل أن يحضره؛ لما عرض له من الأمر الفظيع، وهو الندم على ترك السجود لآدم -عليه السلام-.
وأضاف الويل إلى ضمير الغائب؛ حملًا على المعنى، وعَدَلَ عن حكاية قول إبليس: «يا ويلي» كراهة أن يُضِيف الويل إلى نفسه.
وقد يَرِدُ الويل بمعنى: التعجب، ومنه: الحديث في قوله لأبي بصير: «ويلُ أُمِّه مِسْعَرُ حرب» تعجبًا من شجاعته وجُرْأته وإقدامه. النهاية، لابن الأثير (5/ 236).
«فأَبَيْتُ»:
أي: امتنعت تكبُّرًا. مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (2/722).
شرح الحديث
قوله: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد»:
قال موسى شاهين -رحمه الله-:
«إذا قرأ ابن آدم السجدة» المراد من ابن آدم: المؤمن، فهو من العامِّ المراد به مخصوص، وفي الكلام مضاف محذوف، والتقدير: إذا قرأ ابن آدم آية السجدة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/262).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «إذا قرأ ابن آدم السجدة» يعني: إذا قرأ آية فيها سجدة، كآية آخر الأعراف وما أشبهها. المفاتيح في شرح المصابيح (2/152).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا قرأ ابن آدم السجدة» أي: الآية التي هي سبب السجدة، فهو من إطلاق المسبَّب على السبب. التنوير شرح الجامع الصغير (2/167).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إذا قرأ ابن آدم» ذكر تلميحًا لقصة أبيه آدم مع الشيطان التي هي سبب العداوة بينهما. مرقاة المفاتيح (2/722).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فسجد» لتلاوتها امتثالًا لأمره تعالى، وخضوعًا وطاعة له تعالى. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/583).
قوله: «اعتزل الشيطان يبكي»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«اعتزل الشيطان يبكي» المفعول محذوف، أي: اعتزل الشيطانُ ابنَ آدم، أو الفعل لازم، أي: صار الشيطان في عُزْلَة وبُعْدٍ عن ابن آدم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/262).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«اعتزل» أي: انفصل وانحرف من عند الرجل الذي يريد وسوسته، وبَعُدَ إلى جانب آخر. المفاتيح في شرح المصابيح (2/152).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اعتزل الشيطان» أي: انصرف وانحرف من عند القارئ الذي يريد وسوسته إلى جانب آخر؛ لِتَحَلِّيه بذلك القُرْب، وتحلِّي الشيطان بأقبح البُعد، وكل من عدل لجانب فهو معتزل، ومن ثَمَّ سميت المعتزلة معتزلة؛ لاعتزال أوائلهم الحسن البصري لما سمعوه يُقَرِّر خلاف معتقدهم الفاسد- إلى ناحية من المسجد يُقَرِّرون عقيدتهم، فقال: مَنِ المعتزلة؟ وفي رواية: اعتزلوا عنَّا، فسُمُّوا بذلك. مرقاة المفاتيح (2/722).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وليس اعتزاله (يعني: الشيطان) مستمرًّا مجانبة للمؤمن وخصامًا، بل هو مؤقت، نفورًا من المؤمن المطيع وانزعاجًا من السجود لله، ثم لا يلبث أن يعود موسوسًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/262).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الشيطان» إبليس، فـ(أل) عهدية. فيض القدير (1/415).
وقال محمد الأُبي -رحمه الله-:
والأظهر في الشيطان: أنه إبليس؛ لقوله: «فعصيتُ». إكمال إكمال المعلم (1/187).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ظاهر الحديث: أن المراد بالشيطان: إبليس؛ لأنه أُمِرَ بالسجود فأبى، لكن يُبْعِد هذا الظاهر استحالة قيام إبليسٍ واحدٍ بإغواء جميع الناس، فكان المقصود بالشيطان: أحد جنود إبليس، وقوله: «أمرتُ بالسجود» يعني: أُمِرَ أبوه الأكبر به. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/262).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«يبكي» على خسارته. المفاتيح في شرح المصابيح (2/152).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
جملة «يبكي» في محل النصب على الحال. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/262).
وقال محمد الأُبي -رحمه الله-:
ولم يَبْكِ نَدَمًا، بل حسدًا أنْ دخل الجنة بالسبب الذي عصى هو به، ولا يمتنع أن يكون بكاؤه حقيقة؛ لأنه جسم، ولا يتفق له هذا (البكاء) دائمًا؛ لأن «إذا» ليست من ألفاظ العموم. إكمال إكمال المعلم (1/187).
قوله: «يقول: يا ويله -وفي رواية أبي كُرَيب: يا ويلي-»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «يقول» حال من فاعل يبكي، فيكون حالًا متداخلة، أي: حالة كونه يقول في بكائه، أو من الشيطان فيكون حالًا مترادفة، أي: حالة كون الشيطان يقول: «يا ويله» أي: يا ويلي، ويا هلاكي احضر إليَّ لأتعجب منك فهذا أوانك. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/583).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «يا ويله» الضمير للشيطان؛ جعل نفسه غائبًا طردًا له وغضبًا عليه؛ حيث أَوْقَعَتْهُ في هذا المهلك.
ويحتمل: أن الحاكي لكلامه حكاه غائبًا احترازًا عن الإيهام القبيح.
ويحتمل: أن الضمير لابن آدم، فهذا منه دعاء عليه بسبب مباشرته الخير على مقتضى خبث طبعه. حاشية على ابن ماجه (1/325).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«يا ويله» «يا» حرف نُدْبَةٍ، و«ويل» مَنْدُوْبٌ متوجَّع منه، وله حكم المنادى، وأصل المقول من الشيطان: (يا ويلي) بإضافة الويل إلى ياء المتكلم كما صرح به في الرواية الثانية. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/262).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«يا ويله» في رواية مسلم: «يا ويلتي»، وفي أخرى: «يا ويلي»، وفي أخرى: «يا ويلنا»، وأَلِفُهُ للنُّدْبَةِ والتَّفَجُّع. فيض القدير (1/415).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ومعنى النداء فيه «يا ويله»: يا حزني ويا هلاكي ويا عذابي احضر؛ فهذا وقتك وأوانك؛ فكأنه نادى الويل أن يحضره؛ لِمَا عرض له من الأمر الفظيع، وهو الندم على ترك السجود لآدم، وأضاف الويل إلى ضمير الغائب حملًا على المعنى، وعَدَلَ عن حكاية قول إبليس: (يا ويلي) كراهة أن يضيف الويل إلى نفسه. التنوير شرح الجامع الصغير (2/167).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «يا ويله» هو من آداب الكلام، وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء، واقتضت الحكاية رجوع الضمير إلى المتكلم- صَرَفَ الحاكي الضميرَ عن نفسه تَصَاوُنًا عن صورة إضافة السوء إلى نفسه، وقوله في الرواية الأخرى: «يا ويلي» يجوز فيه فتح اللام وكسرها. شرح مسلم (2/71).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
هذا (يعني: عدم إضافة الراوي الضمير لنفسه في قوله: «يا ويله») إذا لم يوقع في لبْس، أما إذا أوقع في لبس فلا بد من التصريح باللفظ، قصة ماعز كل الرواة يقولون: قال ماعز: «إني زنيت» ما قالوا: إنه زنى؛ لئلا يُظَنّ أن هذا لفظ ماعز، وحينئذٍ لا يلزم التصريح وإضافة الفعل إلى النفس لإقامة الحد، كلهم يقولون: «إني زنيت» الرواة كلهم؛ لأن هذا يترتب عليه لو جيء بقوله: (إنه زنى) لترتب عليه دَرْءُ الحدِّ؛ لأنه لم يصرِّح بإضافته إلى نفسه، وأما في مثل هذا فلا داعي لِأَنْ ينسب الشر إلى نفسه، واللفظ القبيح إلى نفسه، مع أنه لو نسبه إلى نفسه فالحاكي لا يأخذ حكم القائل، وحاكي الكفر ليس بكافر. شرح المحرر في الحديث (31/12).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
لعل نداء الويل للتحسُّر على ما فاته من الكرامة، وحصول اللعن والطرد، والخيبة في الدارين، وللحسد على ما حصل لابن آدم من القُرْب والكرامة والفوز في الدارين. الكاشف عن حقائق السنن (3/1027).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«في رواية أبي كُرَيب» فهو «يا ويلِي» بكسر اللام على الأصل في كسر ما قبل ياء المتكلم للمناسبة؛ مثل: يا أبِي ويا أمِّي، وبفتحها بقلب ياء المتكلم ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحة ليسهل القلب، وهذه الألف ضمير المتكلم في محل الجر مضاف إليه مبني على السكون. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/583).
قوله: «أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«أُمِرَ ابن آدم بالسجود» ببناء الفعل للمفعول. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(2/595).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أُمِرُ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة» هي جملة استئنافية بيانية تفيد وجه نداء الويل والهلاك. التنوير شرح الجامع الصغير (2/167-168).
وقال المناوي -رحمه الله-:
هذا استئناف جواب عمَّن سأله عن حاله. فيض القدير (1/415).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أُمِرَ ابن آدم» أي: أمره ربه «بالسجود» للتلاوة أَمْرَ ندب عند قراءة آية السجدة، «فـ» أجاب ربه و«سجد» السجود الذي هو من شُعَبِ الإيمان. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/583-584).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد» يعني: أُمِرْنَا بالسجود سواءً كان في الصلاة، أو في التلاوة، أو في غيرهما من أنواع السجود. شرح المحرر في الحديث (31/12).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فسجد» أي: ابن آدم التَّالي والمستمع؛ امتثالًا لأمر الله، ورغبة في طاعته. مرقاة المفاتيح (2/722).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«فسجد» يعني: امتثل، والذي يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي هذا هو التقي، له الجنة. شرح المحرر في الحديث (31/12).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فله الجنة» التي هي دار الكرامة؛ جزاء له على طاعته وسجوده. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/584).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله في حديث أبي هريرة: «فسجد فله الجنة» علم إبليس بأن الانقياد للطاعة سبب دخول الجنة، كما أن عصيانه سبب دخول النار، فينبغي للعبد أن لا يترك سجود التلاوة بحال، لو لم يكن إلا لإغاظة عدو الله إبليس. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/574).
قوله: «وأُمِرْتُ بالسجود فأَبَيْتُ فلي النار»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وأُمرْتُ بالسجود» ببناء الفعل للمفعول...، أي: أمرني الله تعالى بالسجود لآدم -عليه السلام-؛ مع الملائكة الكرام -عليهم السلام- «فأبيتُ». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(2/595).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأُمِرْتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار»، لم يسلك بقوله: «فلي» مسلك قوله: «يا ويله» في الإتيان بدعائنا؛ مع أن النكتة في العدول حاصلة هنا أيضًا؛ لأنه عارضها هنا إبهام عوده إلى ابن آدم، ولو جاء بدعائنا فكان الإتيان به على صيغة المتكلم على وفق الحكاية أولى.
وفيه: فضيلة سجود التلاوة، وأنه إغاظة لعَدُوِّ الله. التنوير شرح الجامع الصغير (2/168).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فأبيتُ» السجود، أي: امتنعتُ من إجابة أمر ربي بالسجود وعاندتُه، وكفرتُ به واستكبرتُ عن السجود لآدم؛ «فَلِيَ النار» دار الذُّلِّ والهوان؛ جزاء على إِبَائِي وكفري وامتناعي من السجود الذي هو من شعب الإيمان. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/584).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فلي النار» نار جهنم خالدًا فيها؛ لعصيانه واستكباره.
قال بعضهم: وإنما لم ينفعه هذا البكاء والحزن مع أنه ندم والندم توبة؛ لأن له وجهين: وجه يمد به العصاة؛ فلا يعصي أحد إلا بواسطته، فهذا لا يمكن توبته منهووجه يؤدي به عبوديته مع ربه؛ لكونه يرى أنه منصرف تحت مشيئته وإرادته في أصل قبضة الشقاء، والتوبة إما تصح من الوجهين معًا ولا يمكنه التوبة منهما جميعًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/120-121).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«فلي النار» لأنه عصى ورفض الأمر الإلهي فهو في النار، ومعصيته بترك واجب أُمِرَ به وهو السجود، وآدم عصى {رَبَّهُ فَغَوَى} طه: 121، عصى بماذا؟ بالأكل من الشجرة، إذا كان إبليس معصيته بترك واجب فآدم معصيته بارتكاب محظور، وأيهما أشد معصية آدم أو معصية إبليس؟ معصية إبليس أشد، ويطَّرد القول بأن ترك المأمور أعظم وأشد من فعل المحظور، وشيخ الإسلام ابن تيمية نظرًا إلى معصية آدم ومعصية إبليس، يقول: إبليس عصى بترك مأمور، وآدم عصى بارتكاب محظور، ومعصية إبليس أشد، لكن معصية إبليس بترك المأمور اقترنت بِكِبْرٍ وغرور وإصرار، ومعصية آدم حُفَّت بانكسار وتوبة، ففرق بين هذا وهذا. شرح المحرر في الحديث (31/13).
وقال المازري -رحمه الله-:
احتج به أصحاب أبي حنيفة في أن سجود التلاوة واجب؛ لتشبيه إبليس إياه بسجوده لآدم، قلنا: يحتمل أن يكون لم يُرِدِ المشابهة في الأحكام؛ بل في كونه سجودًا فذكر به ما سلف له، ولكن إنما تصح لهم الحجة إذا وجب التعلق بما قال بقوله: «أُمِرَ ابنُ آدم» على قول الأشعري وغيره: إنَّ المندوب إليه لا يكون مأمورًا به. المعلم بفوائد مسلم (1/301).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أصل السجود في اللغة: الميل والخضوع، قال يعقوب (ابن السكيت): أسجد الرجل إذا طأطأ رأسه، وسجد إذا وضع جبهته في الأرض.
وقال ابن دريد: أصل السجود إدامة النظر مع إطراق إلى الأرض، وكذلك أسجد.
وقال غيره: سجدت النخلة: مالت، وسجدت الناقة: طأطأت رأسها.
وقال المفسرون أيضًا: كان سجود الملائكة لآدم تحية لا عبادة له وطاعة لله، وقد كان -فيما ذكر قبل- السجود للتحية، والتكرمة مباحًا، وقيل ذلك في قوله تعالى: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} يوسف:100، أي: ليوسف، وقيل: لله، والهاء في {لَهُ} عائدة عليه تعالى.
وقيل: أمرهم الله تعالى بالسجود ليظهر فضله عليهم، إذ ظنت الملائكة أنه لا يفضلهم أحد، وقيل: هو معنى قوله: {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون} البقرة:33 ذُكِرَ هذا عن قتادة، فلما خلق الله آدم، وأعلمه من الأشياء بما لم يعلموه، بَانَ أنه أعلم منهم، فلما أمرهم بالسجود له بان فضله عليهم. إكمال المعلم (1/341-342).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقول الإمام (يعني به: المازري) في تصحيح الحجة للحنفي على قول الأشعري: إن المندوب غير مأمور به؛ فلا ينتزع من هذا الحديث جملة؛ لأن ذلك إنما هو فيما ورد من أمر الله ورسوله، أو حكاه الرسول عن ربه، وأما هذا فإنما هو حكاية عن قول إبليس، وقد يكون مخطئًا في تعبيره عن ذلك بالأمر، فلا يحتج بقوله، كما أخطأ في قوله محتجًا لفضله بزعمه: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} الأعراف:12، إلا أن يقول قائل: إن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك عنه ولم ينكره كالإقرار له، فما ذلك ببين، فقد حكى الله تعالى، وحكى هو عليه -صلى الله عليه وسلم- عن أهل الكفر مقالات كثيرة، ولم يكن ذلك تصويبًا لها، وكذلك ليس في قوله: «فله الجنة» دليل على وجوبها؛ إذ ليس كل ما يدخل بفعله الجنة واجبًا، فالمندوب يثاب عليه بالجنة وليس بواجب. إكمال المعلم (1/342-343).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد اختُلِفَ في حكمه (يعني: سجود التلاوة) فذهب الجمهور إلى أنه مندوب وفضيلة، وصار أبو حنيفة إلى أنه واجب؛ مستدلًّا بهذا الحديث، ووجهه: أن إبليس عصى بترك ما أُمِرَ به من السجود فذُمَّ ولُعِن، وابن آدم أطاع بفعله فمُدِحَ وأُثِيْب بالجنة، فلو تركه لعصى، إذ السجود نوع واحد؛ فلزم من ذلك كون السجود واجبًا.
والجواب: أن ذم إبليس ولعنه لم يكن لأجل ترك السجود فقط، بل لترك السجود عتوًّا على الله وكبرًا وتسفيهًا لأمره تعالى، وبذلك كفر لا بترك العمل بمطلق السجود، ألا ترى قوله تعالى مخبرًا عنه بذلك حين قال: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} البقرة: 34، وقال: {لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُون} الحجر: 33، وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} الأعراف: 12.
سلمنا أنه ذُمَّ على ترك السجود؛ لكن لا نسلم أن السجود نوع واحد، فقد قال بعض المفسرين: إن السجود الذي أمر الله به الملائكة إنما كان طأطأة الرأس لآدم تحية له وتعظيمًا وتشريفًا، وسجود التلاوة وضع الجبهة على الأرض على كيفية مخصوصة فافترقا.
سلمنا أنه نوع واحد؛ لكن منقسم بالإضافة ومتغاير بها، فيصح أن يُؤْمر بأحدها ويُنْهى عن الآخر، كما يُؤْمَر بالسجود لله تعالى، ويُنْهَى عن السجود للصنم، فما أُمِرَ به الملائكة من السجود لآدم محرم على ذريته؛ كما قد حُرِّم ذلك علينا، وكيف يُسْتَدَلُّ بوجوب أحدهما على وجوب الآخر.
فسجود الملائكة لآدم كان عبادة لله وطاعة لأمره، كما أُمِرْنا نحن بالسجود للكعبة -أي: لجهتها- تعظيمًا من الله تعالى لشأنها، وسيأتي الكلام في سجود القرآن في بابه -إن شاء الله تعالى-.
وبكاء إبليس المذكور في الحديث ليس ندمًا على معصيته، ولا رجوعًا عنها، وإنما ذلك لفرط حسده وغيظه وألمه مما أصابه من دخول أحد من ذرية آدم الجنة ونجاته، وذلك نحو ما يعتريه عند الأذان والإقامة ويوم عرفة. المفهم (1/273-274).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
اختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم -عليه السلام- بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور: كان هذا أمرًا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة؛ لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريمًا لآدم، وإظهارًا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا، ومعنى {لآدَمَ} البقرة: 34: إلى آدم، كما يقال: صلِّ للقبلة، أي: إلى القبلة.
وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض، ولكنه مُبْقَىً على أصل اللغة؛ فهو من التذلل والانقياد، أي: اخضعوا لآدم، وأَقِرُّوا له بالفضل، {فَسَجَدُواْ} البقرة: 34، أي: امتثلوا ما أُمِرُوا به.
واختُلِفَ أيضًا: هل كان ذلك السجود خاصًّا بآدم -عليه السلام- فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزًا بعد إلى زمان يعقوب -عليه السلام-؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} يوسف: 100، فكان آخر ما أُبِيْح من السجود للمخلوقين؟
والذي عليه الأكثر: أنه كان مباحًا إلى عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: «نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين»، روى ابن ماجه في سننه، والبستي في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: «لما قَدِمَ معاذ من الشام سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما هذا يا معاذ؟! قال: أتيتُ الشام، فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فَوَدِدْتُ في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فلا تفعلوا، فإني لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه». الجامع لأحكام القرآن (1/293).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث: يدل على فضيلة السجود، ومما يزيد المؤمن رغبة فيه أنه يحزن به الشيطان ويسوؤهُ.
وفيه: أنه يُكَمِّد إبليس من حيث إنه الذي كان سبب بُعْدِه وطرده هو الامتناع عن السجود، فلما وفق الله لذلك المسلمين عند ذكر كل سجود كان أَنْكَأ لقلبه؛ لأنه تجديد لمصابه، فهو كنكأ للجرح.
وفيه: أن السجود من الملائكة كان لله -عزَّ وجلَّ- من أجل آدم، ومعنى قوله سبحانه: {لآدَمَ} البقرة:34 أي: من أجل آدم، والدليل عليه قوله -عزَّ وجلَّ-: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} الحجر:30، وفيهم حملة العرش، ومن تتباعد المسافة بين مقامات عباداتهم، فلم يكن سجودهم إلا لله سبحانه، وهذه اللام: (لام) من أجل، وهذا مما ذكره الشيخ محمد بن يحيى (الزبيدي) -رحمه الله-. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/69-70).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من فوائد الحديث: بيان فضل السجود لله تعالى، حيث يكون سببًا لدخول الجنة.
ومنها: بيان شؤم التكبر والإباء لأمر الله تعالى؛ فإنه سبب لحرمان الجنة ودخول النار...
ومنها: أن فيه إشارة إلى قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} البقرة: 34. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (2/597).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وفيه: بيان فضيلة السجدة، ودليل على كُفر إبليس. فيض القدير (1/415).