أَوْصَى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عند موتِهِ بثلاثٍ: «أخرجوا المشركين من جزيرةِ العربِ، وأَجِيْزُوا الوفدَ بنحوِ ما كنتُ أُجِيْزُهُم»، ونَسِيتُ الثالثةَ.
رواه البخاري برقم: (3053)، ومسلم برقم: (1637)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَوْصَى»:
أي: عَهِدَ، يقال: أَوْصَى ووصَّى؛ وهما لغتان، والوصية في اللغة: عبارة عن كلِّ قول يُلقيه أحدهما إلى الآخر؛ ليَعمل به، وهو مخصوص في الغائب والميت، مِن جملة ما يُلقى من قول، وقوله -صلى الله عليه وسلم: «له شيء يُوصِي فيه» كذا الرواية، وأكثر ما تقول العرب: أوصى بكذا، فيُعَدُّونَ هذا الفعل بالباء. الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب، لليَفُرَني (2/ 281).
والوصيّة: مَا أَوْصَيْتَ بِهِ، وسُميتْ وَصِيةً لاتصالها بِأَمْر الميّت. تهذيب اللغة، للأزهري (12/ 187).
«أَجِيْزُوا»:
أي: أعطوهم الجِيْزَةَ، والجائزة: العَطِيَّة، يقال: أَجَازَهُ يُجِيزُه، إذا أعطاه. النهاية، لابن الأثير (1/ 314).
«الوَفْدُ»:
واحد الوَفْد: وافِدٌ، وهو الذي يَفِدُ عن قوم إلى مَلِكٍ في فتحٍ أو قضيةٍ أو أَمْرٍ، والقوم أوْفَدَه. العين، للفراهيدي (8/ 80).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الوَفْدُ هم القوم يجتمعون ويَرِدُونَ البلاد، واحدُهم: وَافِد، وكذلك الذين يَقْصدون الأمراء؛ لزيارةٍ واسْتِرْفَادٍ وانْتِجاعٍ وغير ذلك. النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 209).
شرح الحديث
قوله: «أَوْصَى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عند موتِهِ بثلاثٍ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
تُطلق (الوصية) على فعل الموصِي، وعلى ما يُوصي به من مالٍ أو غيره مِن عَهْدٍ ونحوه، فتكون بمعنى المصدر، وهو الإيْصَاء، وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم، وفي الشرع: عَهْدٌ خاصٌّ مضافٌ إلى ما بعد الموت، وقد يصْحَبه التبرع. فتح الباري (5/ 355).
قوله: «أَخْرِجُوا المشركين من جزيرة العرب»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
المراد بالمشركين هنا: اليهود، وكذا جاء مُفَسَّرًا في غير هذا الحديث، وقد كان المشركون قُوتِلُوا ودخلوا في الإسلام...
وإنما سميت جزيرة؛ لإحاطة البحار بها وانقطاعها من الماء، وأصل الجَزْر: القَطْع، وأضيفت إلى العَرب؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وذكر الهروي عن مالِك: جزيرةُ العرب: المدينة. وقال المغيرة المخزومي: جزيرة العرب: مكة والمدينة واليمامة، بإخراج مَنْ كان على غير الإسلام من هذه البلاد، ولا يُمنع من التردُّد فيها مسافرين، وقاله مالك والشافعي وغيرهما، إلا أن الشافعي خصّ هذا الحكم بالحجاز وحده من أرض العرب، والحجاز عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن، قالوا: ويُضْرَبُ لهم حيث حَلُّوا منه أجَل ثلاثة أيام؛ لينظروا في حوائجهم، كما ضَرَبَ لهم ذلك عمر -رضي الله عنه- حين أجْلَاهم، ولا يَدْفِنون فيها عند الشافعي موتاهم، ويَخْرُجون إلى الدفن لغيرها ما لم يتغيروا، وأجاز أبو حنيفة استيطانهم هذه البلاد.
قال الطبري: سنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأُمَّتِه إخراج كل من دان بغير الإسلام من أي بلد للمسلمين كانت، مما أَسْلَمَ عليها أهلُها، أو من بلاد العَنْوَة إذا لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم، يريد إما لعمَارة أرض ونحوها، كما أبقى عمر -رضي الله عنه- مَنْ أقرَّ مِن ذمة الشام والعراق لعمارة أرضها.
وإنما خصَّ في هذا الحديث جزيرة العرب؛ لأنه لم يكن يومئذٍ للإسلام ظهور في غيرها، فأما إقرارهم مع المسلمين في مصرٍ لم يتقدم لهم عَقْدُ صلحٍ قبل عَقْدِ الإقرار به فما لا نعلمه عن أئمة الهدى. إكمال المعلم (4/ 216).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
يعني بالمشركين: اليهود؛ لأنه ما كان بقي مُشرك في أرض العرب في ذلك الوقت غيرهم فتَعَيَّنُوا، وقد جاء في بعض طُرُقِهِ: «أَخْرِجُوا اليهود من جزيرة العرب» مُفَسَّرًا...المفهم (4/ 561-562).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أراد بالمشركين: اليهود والنصارى. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 458).
وقال العيني -رحمه الله-:
«أَخْرِجُوا» أَمْرٌ من الإخراج، ولم يتفرَّغ أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- لذلك، فأجلاهم عمر -رضي الله تعالى عنه-، قيل: كانوا أربعين ألفًا، ولم يُنقل عن أحد من الخلفاء أنه أجلاهم من اليمن، مع أنها من جزيرة العرب.
وروى أحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله تعالى عنه-: «أَخْرِجُوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب»، وإنما أخرج أهل نجران من الجزيرة وإن لم تكن من الحجاز؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- صالَحَهم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه، رواه أبو داود من طريق ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-....
وقال أبو إسحاق الحربي: أخبرني عبد الله بن شبيب عن زبير عن محمد بن فضالة: إنما سُميت جزيرة: لإحاطة البحر بها والأنهار من أقطارها وأطرافها؛ وذلك أن الفرات أقْبَل من بلاد الروم فَظَهَر بناحيةِ قِنَّسْرِيْن، ثم انحطَّ عن الجزيرة -وهي ما بين الفرات ودجلة- وعن سواد العراق حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأيلة، وامتد البحر من ذلك الموضع مغربًا مُطْبِقًا ببلاد العرب مُنْقَطعًا عليها، فأتى منها على سَفْوَان وكاظِمة، ونَفَذَ إلى القَطِيفِ، وهجروا أسْيَاف عُمان والشّحر، وسال منه عُنُقٌ إلى حضرموت إلى أَبْيَن وعَدَن ودَهْلَك، واستطال ذلك العُنُق فطَعَن في تهايم اليمن بلاد حكم والأَشْعَريين وعَكَّ، ومضى إلى جدَّة ساحل مكة، وإلى الجاد ساحل المدينة، وإلى ساحل تيما وإيلة، حتى بلغ إلى قُلْزُم مِصْرَ وخالط بلادها، وأقبل النِّيْلُ في غربي هذا العُنق من أعلى بلاد السودان مستطيلًا مُعارضًا للبحر حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين، ومرَّ بعسقلان وسواحلها، وأتى على صُوْرَ بساحل الأردن، وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حِمْصٍ وسواحل قِنَّسْرِين حتى خالط الناحية التي أَقْبَلَ منها الفرات مُنْحَطًا على أطراف قِنَّسْرِين والجزيرة إلى سوار العراق، فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوها على خمسة أقسام: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن. عمدة القاري (14/ 299).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-:
«أَخْرِجُوا المشركين من جزيرة العرب»، وهو عام شامل للمشركين الذين يعبدون الأصنام، وكذلك لكل من كان كافرًا بالله العظيم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 238).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
وفي مرض موته -صلى الله عليه وسلم- أوصى أُمَّته فقال: «أَخْرِجُوا المشركين من جزيرة العرب»، وعلى هذا فالواجب على المسلمين إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وإخراج المشركين من جزيرة العرب، وقد ذكرنا آنفًا الحكمة في ذلك.
فإن قال قائل: يرد على هذا: أن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- عامَلَ أهل خيبر بِشَطْرِ ما يَخْرُج منها من ثَمَر أو زرع، وأَقَرَّهُم ، ولم يجْلهم إلا عمر بن الخطاب لسبب من الأسباب؟
فالجواب أن نقول: إن إقامة اليهود والنصارى في الجزيرة على نوعين:
النوع الأول: على وجه الإذلال، وأنهم عُمَّال من جملة العاملين، فهذا لا بأس به لكن بشرط: أن نأمَنَ شرَّهم؛ فإنه لا يجوز أن يبقوا.
والثاني: إقامة استيطان، فهذا هو الذي مَنَعَ منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمر بإخراجهم. بقاء اليهود في خيبر من النوع الأول، فلهذا قال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في العَقْدِ الَّذي جرى بينهم: «نُقِرُّكُم على ذلك ما شِئْنَا»، ولما استغنى المسلمون عنهم في عهد عمر -رضي الله عنه-، ولِمَا حَصَل منهم مِن الغدر أجْلَاهُم إلى أَذْرعَات في الشام، وإلى مواطن أخرى.
فالحاصل أن نقول: إن المراد: استيطان اليهود والنصارى والمشركين في المدينة هذا ممنوع، ويجب على ولي الأمر مَنْعُه؛ لأنهم إذا استوطَنُوا سوف يطالِبون بطلب المواطن؛ من المدارس والمعابد وغيرها من الحقوق، لا سيما الدِّين، وهذا يوجب إشكالاً كبيرًا؛ لأنهم إما أن يُجَابوا فيجتمع دِينَان في جزيرة العرب، وإما ألَّا يُجَابُوا فيحصل منهم شر وبلاء؛ لهذا يُمنع استيطان اليهود والنصارى والمشركين في الجزيرة مطلقًا بأي حال من الأحوال، أما بقاؤهم بأنهم عُمَّال فهذا لا بأس به ما لم يؤد إلى شر وفساد، فإن خِيْفَ شرهم وفسادهم فإنهم لا يمكَّنون من البقاء مطلقًا، يعني: لو أنهم بقوا على أنهم عُمَّال ولكنهم يصنعون الخمر ويُسوِّقُونها عند الناس خفاءً أو علنًا، أو يُظهِرون الصليب على صدورهم أو في سياراتهم، فهؤلاء لا شك أنهم معتدون فيجب رَدْعُهُم أو ترحيلهم...
هل نستفيد من هذا: أنهم إذا لم يخرجوا إلا بقتال فإننا نقاتلهم؟
نعم، إذا لم يكُفُّوا عن الاستيطان إلا بالقتال قاتَلْنَاهُم. فتح ذي الجلال والإكرام (5/ 503-504).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قلتُ: وتخصيص الحُكم بجزيرة العرب هو قول المتقدمين والسلف الماضِين، فلا يُعْدَل عنه.
ولم يُعَرِّج أبو حنيفة على هذا الحديث، فأجاز استيطان المشركين بالجزيرة، ومخالفة مثل هذا جريرة. المفهم (4/ 561-562).
قوله: «جزيرة العرب»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
وإنما سميت جزيرة؛ لإحاطة البحار بها وانقطاعها من الماء، وأصل الجَزْر: القَطْع، وأضيفت إلى العَرب؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وذكر الهروي عن مالِك: جزيرةُ العرب: المدينة. وقال المغيرة المخزومي: جزيرة العرب: مكة والمدينة واليمامة، بإخراج مَنْ كان على غير الإسلام من هذه البلاد، ولا يُمنع من التردُّد فيها مسافرين، وقاله مالك والشافعي وغيرهما، إلا أن الشافعي خصّ هذا الحكم بالحجاز وحده من أرض العرب، والحجاز عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن. إكمال المعلم (4/ 216).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «من جزيرة» سُميت بذلك: لإحاطة البحار بها، يعني: بحر الهند، وبحر القُلْزُم، وبحر فارس والحبشة، «العرب» أضيف إلى العرب: لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام وبها أوطانهم ومنازلهم، لكن الذي يُمنع المشركون من سُكناه منها: الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يُطلق عليه اسم العرب؛ لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها مع أنها من جزيرة العرب؛ هذا مذهب الجمهور، وعن الحنفية يجوز مطلقًا إلا المسجد الحرام، وعن مالك: يجوز دخولهم الحَرَم للتجارة.
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلًا إلا بإذن الإمام؛ لمصلحة المسلمين خاصة.
والصحيح عن مالك: أن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة واليمن. شرح سنن أبي داود (13/ 108).
قوله: «من جزيرة»:
قال أبو عبيدة (معمر بن المثنى): هي ما بين حَفْرِ أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العَرض: ما بين رَمْلِ يَبْرِينَ إلى مُنْقَطَع السَّمَاوَة.
وقال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصَى عدن أَبْيَن، إلى ريف الْعِرَاق في الطول، وأما العرض: فمِن جدَّة وما والاها مِن ساحل البحر إلى أطوار الشَّام.
قال أبو عُبيدٍ (القاسم بن سلام):
فأمر النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بإخراجهم من هذا كله، فيرون أنَّ عُمَر إنَّما استجاز إخراج أهل نجران من اليمن -وكانوا نصارى- إلى سَواد العراق لهذا الحديث، وكذلك إجلاؤه أهل خيبَر إلى الشَّام، -وكانوا يهودًا-. غريب الحديث (2/ 67).
وقال الخليل الفراهيدي -رحمه الله-:
الجزيرة: أرضٌ في البحر يَنْفَرِجُ عنها ماء البحر فتَبْدُو(تغدو بادية)، وكذلك الأرض لا يعلوها السَّيْل فيُحْدِقُ بها فهي الجزيرة...، وجزيرة العرب: محلتها؛ لأن البحرين بحر فارس الحَبَش، ودِجْلَة والفرات قد أحاطت بجزيرة العرب، وهي أرضها ومعدنها. العين (6/ 62).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله (أبو عبيدة): حَفْرُ أبي موسى هو بفتح الحاء المهملة وفتح الفاء أيضًا،...
وحكى الهروي عن مالِك: أن جزيرة العرب هي المدينة، والصحيح المعروف عن مالك: أنها مكة والمدينة واليمامة واليمن، وأخذ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سُكْنَاها، ولكن الشافعي خصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز، وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليلٍ آخر مشهور في كُتُبه وكُتُب أصحابه.
قال العلماء: ولا يُمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولا يمكَّنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، قال الشافعي ومُوَافِقُوه: إلا مكة وحَرَمَها فلا يجوز تمكِين كافرٍ من دخوله بحالٍ، فإن دَخَلَه في خفية وجب إخراجه، فإن مات ودُفن فيه نُبِشَ وأُخْرِج ما لم يتغيَّر، هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء، وجوَّز أبو حنيفة دخولهم الحَرَم.
وحُجة الجماهير: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} التوبة:28، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (11/ 93-94).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«جزيرة العرب» هي ما بين العذِيب إلى حضرموت، سميت جزيرة: لأن بحر فارس وبحر الحَبَشة والفرات ودجلة أحاطت بها. التوشيح شرح الجامع الصحيح (5/ 2016).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«جزيرة العرب» هي من أقصى عَدَن إلى ريف العراق طولًا، ومن جدَّة إلى أطراف الشام عرضًا. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (7/ 384).
وقوله: «وأَجِيْزُوا الوَفْدَ بنحو ما كنتُ أُجِيْزُهُم»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الوَفْدُ جمع وافِد، كصَحْبٍ وصاحِب، ورَكْبٍ وراكِب، وجمع الوفد: أَوْفَادٌ، ووُفُود، والوِفَادة الاسم، وهو القادم على القوم والرسول إليهم، يقال: أَوْفَدْتُه أَرْسَلْتُه.
والإجازة: العطيَّة، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- عهد ووصية لولاة المسلمين بإكرام الوفود والإحسان إليهم؛ قضاء لحق قصدهم، ورفقًا بهم، واستئلافًا لهم.
قال القاضي أبو الفضل: وسواء في ذلك عند أهل العلم كانوا مسلمين أو كفارًا؛ لأن الكافر إنما يَفِدُ في مصالح المسلمين. قال: وهذه سُنَّة لازِمَة للأُمَّة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. المفهم (4/ 562).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: هذا أمرٌ منه -صلى الله عليه وسلم- بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم؛ تطييبًا لنفوسهم، وترغيبًا لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم، وإعانة على سفرهم. شرح النووي على مسلم (11/ 94).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
أي: أَقِيْمُوا للرسل مُدَّة إقامتهم ما يحتاجون إليه كفاءة ما كنتُ أعطيهم من الجائزة وهي العطاء، وتخصيص ذلك بالوصية: لما فيه من المصلحة العظيمة؛ لأن الوافِد إذا لم يُقَم ولم يُكرم رجع إلى قومه بما يُفتر رغبتهم عن الإسلام، ويُحرِّشُ صدورهم. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 67).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«أجاز» إذا أعطى صِلَةً، و«الوَفْد» الرسول ومَن أتى لحاجة؛ يعني: إذا أتاكم رسولُ قومٍ أو جماعةٍ لحاجة فأَعْطُوهم مِن النفقة وما يحتاجون إليه كما كنتُ أُعطيهم. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 458).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
أي: أَقِيموا لهم مدة إقامتهم ما يَقُوم بحاجتهم، وقد مضى القول في بيان الجائزة، وإنما أخرج ذلك بالوصية عن عموم المصالح: لما فيه من المصلحة العظمى؛ وذلك أن الوافد سفير قومه، وإذا لم يُكرم رَجَع إليهم من سفارته بما يفتر دونه رغبة القوم في قبول الطاعة والدخول في الإسلام، ثم إنَّ الوافد إنما يَفِدُ على الإمام، فتجِب رعايته من مالِ الله الذي أُقيم لمصالح العباد والبلاد، وإضاعته تُفضي إلى الدناءة التي أجار الله عنها أهل الإسلام. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 932).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «وأَجِيْزُوا الوفد» أي: أعطوهم، والجائزة العطية، يقال: أجازه يُجيزه إذا أعطاه، والوفد هم الذين يقصدون الأمراء لزيارةٍ أو اسْتِرْفَادٍ وانتجاعٍ (أي طَلَبٍ للمعروف) وغير ذلك، يقال: وَفَدَ وَفْدًا فهو وافِدٌ، وأَوْفَدْتُه فَوَفَد. الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2796).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وأَجِيْزُوا الوَفْدَ» أي: أَحْسِنُوا معاملتهم وأعْطوهم؛ لأن الجائزة هي العطية، ويقال: إنّ أصله: أن ناسًا وفدوا على بعض الملوك وهو قائم على قَنْطَرة، فقال: أَجِيْزُوهم فصاروا يعطون الرجل ويطلقونه فيجوز على القنطرة متوجهًا، فسُميت عطيَّة مَن يَفِدُ على الكبير جائزة، ويستعمل أيضًا في إعطاء الشاعر على مدحه ونحو ذلك.
«بنحو مما كنت أُجِيْزُهم» أي: بقريب منه، وكانت جائزة الواحد على عهده -صلى الله عليه وسلم- أوْقِية مِن فضة، وهي: أربعون درهمًا. شرح سنن أبي داود (13/ 109).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«وأَجِيْزُوا الوَفْدَ» أي: أعطوهم الجائرة، وهي: العطية التي يجوز بها إلى بلاده. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (7/ 384).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وأَجِيْزُوا الوَفْدَ بنحو ما» ولأبي الوقت: «بنحوٍ ممَّا كنتُ أُجِيْزُهم» قال ابن المنير: والذي بقي من هذا الرسم: ضيافات الرسل، وإقطاعات الأعرابي، ورسومهم في أوقات منه إكرام أهل الحجاز إذا وفدوا. إرشاد الساري (5/ 169-170).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأَجِيْزُوا الوَفْدَ» أي: أَكْرِموا الوافدين عليكم، والواصلين إليكم مِن حَوَالَيْكُم، وأَعْطُوهم الجائزة والعطية فيما لديكم، «بنحو ما كنتُ أُجِيْزُهم» أي: كميَّةً وكيفية، والتمييز فيما بينهم بحسب ما يليق بهم. مرقاة المفاتيح (9/ 3853).
قوله: «ونَسِيتُ الثالثةَ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
القائل: «ونسيتُ الثالثة» هو ابن عيينة، بيَّنه الإسماعيلي في روايته هنا، وقد بيَّنه البخاري بعدُ في الجزية، وفي مسند الحميدي أنه سليمان شيخ ابن عيينة.
والثالثة وقع في صحيح ابن حبان ما يشير إلى أنها الوصية بالأرحام. فتح الباري (1/ 293).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله (في رواية): «وسكَتَ عن الثالثة، أو قالها فأُنْسِيتُها» الساكِتُ ابن عباس، والناسي سعيد بن جبير.
قال المهلب: الثالثة هي تجهيز جيش أسامة -رضي الله عنه-. شرح النووي على مسلم (11/ 94).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
وكان المسلمون اختلفوا في ذلك على أبي بكر، فأَعْلَمهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عهدَ بذلك عند موته. مصابيح الجامع (6/ 380).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد يُحتمل هذا قوله -عليه السلام-: «لا تتخذوا قبري وثنًا يُعْبَد»؛ فقد ذكر مالك في الموطأ معناه، مع إجلاء اليهود من حديث عمر -رضي الله عنه- وقال: آخِر ما تَكَلَّم به رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قوله: «قاتَلَ الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يَبْقَيَنَّ دِينَان بأرضِ العرب». إكمال المعلم (5/ 383).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهَلَّبُ: فيه (أي الحديث): سُنة إجازة الوفد، وهو من باب الاسْتِئْلَافِ.
قال غيره: هذا عام في جميع الوفود الواردين على الخليفة من الروم كانوا أو من المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا من الروم فإنهم لا يأتون إلا بأمرٍ فيه منفعة وصلاح للمسلمين، فلذلك أَمَر -صلى الله عليه وسلم- بالوِصَاة بإجازتهم، وأيضًا فإنهم ضيف، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الضيف: «جَائزته يوم وليلة»، ولم يُخَصَّ فهو عام. شرح صحيح البخاري (5/ 215).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)