«ما مِن ذَنبٍ أَجْدرُ أنْ يُعجِّلَ اللهُ تعالى لصاحبِهِ العُقوبةَ في الدنيا مع ما يَدَّخرُ له في الآخرةِ مثلُ: البَغيِ وقطيعةِ الرحمِ».
رواه أحمد برقم: (20398)، وأبو داود برقم: (4902) واللفظ له، والترمذي برقم (2511)، وابن ماجه برقم: (4211)، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5705)، صحيح الترغيب والترهيب برقم:(2537).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَجدرُ»:
بالجيم أي: أحقُّ وأَوْلى. عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي (13/167).
«يَدَّخِر»:
بتشديد الدّال المهملة وكَسرِ الخاء المعجمة أي: مع ما يؤجَّل من العقوبة. مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (7/ 3091).
«البَغْي»:
هو الظلم، أو الخروج على السلطان، أو الكِبْر. عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي (13/167).
«وقطيعة الرَّحِم»:
أي: هجْرُ القريبِ، وترْكُ وصْلِهِ والإحسان إليه. معجم لغة الفقهاء (ص: 367).
من الاقتطاع من الرحمة، والرَّحِم: القرابة. التيسير شرح الجامع الصغير (2/360).
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وذلك بالإيذاء والصد والهجر. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 466).
شرح الحديث
قوله: «ما مِن ذَنبٍ أَجدرُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ما» نافية، و«مِن» زائدة للاستغراق. مرقاة المفاتيح (7/ 3091).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ذَنْبٍ» اسم «ما»، «أَجْدر» خبرها. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/12).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ما من ذنب أَجْدر» بسكون الجيم: أحقّ، والذي رأيتُه في أصولٍ صحيحة من (الأدب المفرد) بدل «أَجْدر» «أحْرَى». فيض القدير (5/478).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «أَجْدر» أي: ألْيَقُ وأحَقُّ وأَوْلَى وأَحْرى. حاشية سنن ابن ماجه (2/552).
قوله: «أن يُعَجِّلَ الله تعالى لصاحبه العُقوبة في الدنيا»:
قال السندي -رحمه الله-:
«أن يُعَجِّلَ» أي: بأن يُعَجِّلَ الله، وهو من التعجيل. حاشية سنن ابن ماجه (2/552).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أن يُعَجِّلَ الله» سبحانه صلة «أَجْدر» على تقدير الباء، أي: ما ذَنْبٌ أحقُّ وأَوْلى بتعجيل الله سبحانه «لصاحبه». مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/12).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لصاحبه» أي: لمرتكب الذنب. مرقاة المفاتيح (7/ 3091).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«العقوبةَ» بالنصب، مفعول «يُعَجِّلَ» أي: أولى بتعجيل الله عقوبته. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/12).
قوله: «مع ما يَدَّخَر له في الآخرة»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«مع ما يَدَّخر» أي: مع ما يُعَدُّ ويُهَيَّأ من عذاب الآخرة. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 210).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«مع ما يَدَّخر» اللهُ -بتشديد الدال المهملة وكسر الخاء المعجمة- بالبناء للفاعل، أي: حالة كون عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر اللهُ «له» أي: لصاحب ذلك الذنب من العقوبة مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/12).
قوله: «مثلُ: البَغي وقطيعة الرَّحِم»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«البَغْي»: الظلم والتكبر. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 210).
قال السندي -رحمه الله-:
«البَغْي» أي: الظلم والإساءة إلى المخلوقات. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/552).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«البَغْي» أي: مِن بَغْيِ الباغي، وهو الظلم، أو الخروج على السلطان، أو الكِبر. مرقاة المفاتيح (7/ 3091).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وقطيعة الرحم» أي: ومِن قَطْعِ صلة ذوي الأرحام. مرقاة المفاتيح (7/ 3091).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والقطيعة: الهجران والصدُّ، وقطيعة الرحم: ضد وصْلِها، وصلة الرحم معروفة، وهي الإحسان إلى الأهل والأقارب، والرفق والبِرُّ بهم. الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 141).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «البَغْي وقطيعة الرحم»؛ لما فيهما من إيذاء الخلق، وتضييع حقهم، أفْحَشُ من غيرهما من الذنوب. لمعات التنقيح (8/ 221).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«البَغْي وقطيعة الرحم»؛ لأن البَغْيَ من الكِبْر، وقطيعة الرحم: من الاقتطاع من الرحمة، والرَّحم القَرابة، ولو غير محرم؛ بنحو إيذاء أو صَدٍّ أو هَجْرٍ، فإنه كبير كما يفيده هذا الوعيد الشديد، أما قطيعتُها بترك الإحسان فليس بكبير. فيض القدير (5/478).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
وذَكَر هنا: البَغْيَ وقطيعة الرحم، وفي حديث آخر: «البَغْي واليمين الفاجرة»، وفي آخر: «البَغْي وعقوق الوالدين»، فدلَّ على عدم الانحصار في عددٍ، وإنما كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يُخاطِب كل إنسانٍ بما يليق بحاله، وبما هو مُتَلبِّسٌ به، أو يريد العزم عليه؛ فلذلك اختلفت الأجوبة. فيض القدير (1/ 505).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من البَغْيِ وقطيعة الرحم» فهما أسرع الذنوب عقوبة في الدنيا، وعقوبة الآخرة على أصلها. التنوير شرح الجامع الصغير (9 /465).
وقال أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله-:
فإنْ قال قائل: أفتكون العقوبة على البَغْيِ، والعقوبة على قطيعة الرحم أسرع من العقوبة على الكفر بالله -عز وجل- لمن كفر به؟
فكان جوابنا له في ذلك: أنَّ ما في هذين الحديثين اللذين ذكرناهما في هذا الباب لم يرد به ما ظنَّ هذا القائل، وليس شيء أشد عند الله تعالى من الكفر، ولا عقوبة أشد من العقوبة عليه، إلا أنْ تُدْرِكَ التوبةُ من كان منه ذلك، وإنما أُريد بما في الحديثين اللذين ذكرناهما في هذا الباب: عقوبة مَن كان منه البَغْي وقطيعة الرحم من أهل الشريعة التي لم يَخْرُجْ منها بذلك، وكان ما تُوُعِّدَ به من ذلك عقوبةً على بَغْيِهِ، وقطيعة الرحم التي أَمَره الله تعالى بِصِلَتِهَا، وأما العقوبة على الكفر فأَغْلَظُ من ذلك، وبالله التوفيق. شرح مشكل الآثار (15/ 262).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«ما من ذنب أَجْدر أن يُعَجِّلَ اللهُ له العقوبة في الدنيا مع ما يَدَّخر له في الآخرة مثل البَغْيِ وقطيعة الرحم» يعني: أنه تَحْصُل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيُجْمَعُ له بين العقوبة الدنيوية والأخروية؛ حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يَدَّخر له في الآخرة، فيَجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة، وهذا يدل على عِظَمِ وخطورة شأن البَغْيِ وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذَكَر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يُجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البَغْيِ وقطيعة الرحم. شرح سنن أبي داود (558/20).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فأما البَغْيُ: فهو سبب إفساد الحال، وقطيعة الرحم أشد الفساد؛ لأن سوء ذات البَين دليل على أنه أفسد في الأجانب؛ لفساد العقيدة التي تحمل على ذلك؛ ولذلك قال النبي -عليه السلام-: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، وأصل بِدْءِ الصلاح بين الناس: إفشاء السلام، وإطعام الطعام. عارضة الأحوذي (9/316).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لأن فاعل ذلك (أي: البَغْي وقطيعة الرحم) لَمَّا افترى باقتحام ما تطابَقَت على النهي عنه الكتب السماوية، والإشارات الحكمية، وقَطَع الوَصْلَ التي بها نظام العالَم وصلاحه، أسْرَعَ إليه الوبال في الدنيا، مع ما ادُّخِرَ له من العقاب في العُقبى. فيض القدير (1/ 505).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقد دل الحديث: أن قطْعَ الرحم من الكبائر، وأن ذلك من معاظم الذنوب. البدر التمام (10/198).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة. شرح سنن أبي داود (18/650).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
اتفقت الملَّة على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرمة. الجامع لأحكام القرآن (5/ 6).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
واختلفوا في حدِّ الرَّحِم التي يَحْرُمُ قطيعتُها، فقيل: هو كل ذي رحم محرم، بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حَرُمَتْ مُنَاكَحَتُهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال.
وقيل: هو عام في كل ذي رحم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي فيه المحرم وغيره. شرح سنن أبي داود (18/650).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ولكن الصِّلة درجات، بعضها فوق بعض، وأدناها: تَرْكُ الْمُهاجَرة، وصِلَتُها ولو بالسلام، كما قال -عليه الصلاة والسلام-، وهذا بحكم القدرة على الصلة، وحاجتها إليها، فمنها: ما يتعين ويلزم، ومنها: ما يُسْتَحَبُّ ويُرَغَّبُ فيه، وليس مَن لم يبلغ أقصى الصِّلة يُسمى قاطعًا، ولا مَن قصَّر عما ينبغي له، ويَقْدر عليه، يُسمى واصلًا. إكمال المعلم (8/ 20)
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
عَدُّوا قطع الرحم من الكبائر، وضبَطُوا ذلك: بترك ما أَلِفَهُ من إحسان، أو نحوه، كمكاتبةٍ ومراسلة، ونحوها. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 587).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
واختُلف في المراد بالقطيعة، فقال أبو زرعة: ينبغي أن تختص بالإساءة، وقال غيره: هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة؛ لأن الأحاديث آمرةٌ بالصلة، ناهيةٌ عن القطيعة، ولا واسطة بينهما، والصلة: إيصال نوع من الإحسان، كما فسرها بذلك غير واحد، فالقطيعة ضدها، فهي تَرْكُ الإحسان. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 11).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: أن قاطِعَ الرحم يُعجَّلُ له العقوبة بقِلَّة المال، وعدم البركة في النَّسْل. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 466).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ويدخل في قطيعة الرحم: جميعُ حقوق المسلمين ومَظَالمهم، وقد بيَّنا أنَّ الرحم ضربان: رَحِمُ الإسلام، ورَحِمُ القرابة. المفهم (7/ 63).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
فالرَّحِم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رَحِمُ الدِّين، ويجب مواصلتها؛ بملازمة الإيمان، والمحبة لأهله، ونصرتهم، والنصيحة، وترك مُضَارَّتهم، والعدل بينهم، والنَّصَفَةِ في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، وحقوق الموتى؛ مِن غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم.
وأما الرَّحِم الخاصة: وهي رَحِمُ القرابة مِن طَرَفَي الرجل -أبيه وأمه-، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرّحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بُدئ بالأقرب فالأقرب. تفسير القرطبي (16/247- 248).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
وقال بعض أهل العلم: إنَّ الرحم التي تجب صلتها هي كل رَحِمٍ محرم، وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال.
وقيل: بل هذا في كل رَحِمٍ ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث، محرمًا كان أو غير محرم، فيخرج من هذا: أن رَحِمَ الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم، ولا يحرم قطعهم.
وهذا ليس بصحيح، والصواب: أنَّ كل ما يشمله ويَعُمُّه الرَّحم تجب صلته على كل حال، قُرْبَةً ودينية، على ما ذكرناه أولًا، والله أعلم. تفسير القرطبي (16/247- 248).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فيه: أن البلاء بسبب القطيعة في الدنيا لا يدفع بلاء الآخرة. التيسير شرح الجامع الصغير (2/360).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: عَظَمة شأن البَغْيِ وقطيعة الرحم، فكل واحدة كبيرة من أمهات الكبائر، فكيف إذا اجتمعتا كما يقع ذلك كثيرًا لملوك الدنيا؟ فلا أكثر من اجتماع البَغْيِ فيهم وقطيعة الرحم؛ ولذا قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم} محمد:22. التنوير شرح الجامع الصغير (9 /465).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1. الحث على التواضع.
2. تحريم البَغْيِ.
3. أنه لا يليق بالمسلم أن يَفْخَر على أحد، بسبب لونه، أو جنسه أو نَسَبه، أو نحو ذلك. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (10/ 299).
وللاستفادة من الراوية الأخرى ينظر (هنا)