الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إنَّ أثقلَ صلاةٍ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجرِ، ولو يعلمون ما فيهما لأَتَوْهُمَا ولو حَبْوًا، ولقد هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بالصلاةِ فتُقَامَ، ثم آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بالناسِ، ثم انطلقُ معي برجالٍ معهم حُزَمٌ من حَطَبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصلاةَ فأُحرَّقَ عليهم بيوتَهم بالنارِ».


رواه البخاري برقم: (657)، ومسلم برقم: (651) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أَثْقَلَ»:
أَشَقَّ من غيرهما؛ لما في أوقاتهما من مشقة الخروج والتصَرُّف. المنتقى شرح الموطأ، للباجي (1/ 132).

«المنافقين»:
هم الذين كانوا يُظْهِرون الإسلام، ويُبْطِنون الكفر. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار، للعيني (3/ 302).

«حَبْوًا»:
الحَبْوُ: المشي على الركبتين والكفين كفعل الصبي. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (2/36).

«هَمَمْتُ»:
أي: قصَدْتُ. شرح أبي داود، للعيني (3/ 18).

«أنطلق»:
أي: أذهَبُ. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (5/ 112).

«حُزَمٌ»:
جمع حُزْمَةٍ: بضم الحاء، قدْرُ ما يُحمَلُ بين العضدين والصدر، وتُسْتَعْمل فيما يُحمل على الظَّهْر من الحَطَبِ. شرح المصابيح، لابن الملك (2/ 443).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
يقال: حَزَمْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُهُ حُزْمَةً، وَالْجَمْعُ: حُزَمٌ، مِثْلُ: غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ. المصباح المنير (1/ 134).

«لا يَشْهَدُونَ»:
أي: لا يحضرون إلى الصلاة مع الجماعة. مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (3/ 832).


شرح الحديث


قوله: «إنّ أثقلَ صلاةٍ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجرِ»:
قال ابن رجب -رحمه الله-:
المراد بِثِقَلِ هاتين الصلاتين على المنافقين: ثِقَل شُهُودِهما في المساجد. فتح الباري (6/33).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أثقل الصلاة» محمول على الصلاة في جماعة، وإن كان غير مذكور في اللفظ؛ لدلالة السياق عليه، وقوله -عليه السلام-: «لأَتَوْهُما ولو حَبوًا» وقوله: «ولقد هَمَمْتُ» -إلى قوله-: «لا يشهدون الصلاة» كل ذلك مُشْعر بأن المقصود: حضورهم إلى جماعة المسجد. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/193).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «على المنافقين» وهم الذين كانوا يُظْهِرون الإِسلام ويُبْطِنون الكفر، ويُظهرون المحبة لرسول الله -عليه السلام- وفي قلوبهم بغض وعداوة.
وقد قيل: إن هذا في حق المؤمنين، ولكن ذُكِرَ بهذه العبارة تغليظًا وتشديدًا في التهديد، وهذا لا يصح؛ لأنه من المعلوم من حال الصحابة عدم التخلُّف عنه -عليه السلام-، ويشهد على ذلك: أنه ورد في بعض الأحاديث: «ثم أُحَرِّقُ بيوتًا على مَن فيها». نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار (3/302).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
يؤخذ منه -أعني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أثقل الصلاة على المنافقين»: أن الصلوات كلها ثقيلة عليهم؛ لما تمهد من أنَّ (أَفْعَلَ) للمشاركة والتفضيل، لا بد من حصول ثِقَلٍ في غيرهما، حتى يكون العشاء والصبح أثقل عليهم منها، وفي قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} التوبة: 54 دليل على ذلك.
وهذا كله في صلاة الجماعة، وإن لم تُذْكَر؛ لقوة السياق الدال على ذلك، ألَا ترى إلى قوله: «لأَتَوْهُما ولو حَبوًا»، «ولقد هَمَمْتُ» إلى قوله: «لا يشهدون الصلاة»؟ كل ذلك مُشْعِرٌ بأن المقصود حضورهم إلى جماعة المسجد. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (1/627).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«على المنافقين» أَطْلَقَ عليهم النفاق مبالغة في التهديد؛ لكونهم لا يحضرون الجماعة، ويُصلُّون في بيوتهم فُرَادَى من غير عذر. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/370).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ودل هذا: على أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} التوبة: 54. فتح الباري (2/141).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وإنما كانت هاتان الصلاتان ثقيلتين على المنافقين لأمرين:
أحدها: للمشقة الموجودة في حضور المساجد فيهما من الظُّلْمة، وكون وقتهما وقت راحة، أو غلبة نوم، أو خلوة بأهاليهم، فلا يَتَجَشَّم تلك المشاق إلا مَن وَثِقَ بثواب الله تعالى، والمنافق إما شَاكٌّ في ذلك، أو لا يُصَدِّق، فيشُّق عليه ذلك.
والمعنى الثاني: أن المنافقين كما قال الله تعالى: {يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا} النساء: 142، وهاتان الصلاتان في ليلٍ، فربما خَفِيَ مَن غَابَ عنهما واسْتَتَرَ حالُه، بخلاف باقي الصلوات؛ فإنها بحيث يراه الناس، ويتفقدون غَيبته، فكان رياؤه يَحُضُّهُ على حضورها؛ ليراه الناس.
والمعنى الأول أظهر؛ لقوله تعالى في أول الآية: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} النساء: 142، ولا مانع أن يكون الأمران المذكوران في الآية كلاهما حاملٌ لهم على ترك الجماعة في الصلاتين المذكورتين -والله أعلم-. طرح التثريب (2/312).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «مِن الفجر والعِشاء» وليست صلاة أثقل منهما؛ لأنهما في وقت النوم والاستراحة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/44).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وإنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين من غيرهما: لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور.
أما العِشاء: فلأنها وقتُ الإيواء إلى البيوت، والاجتماع مع الأهل، واجتماع ظُلْمَةِ الليل، وطلَب الراحة من متاعب السعي بالنهار.
وأما الصبح: فلأنها في وقت لذة النوم، فإن كانت في زمن البرد، ففي وقت شدَّته؛ لبُعْدِ العهد بالشمس؛ لطول الليل، وإن كانت في زمن الحَرِّ، فهو وقت البرد والراحة من أثر حَرِّ الشمس؛ لقرب العهد بها، فلما قوي الصارف عن الفعل ثَقُلَتْ على المنافقين.
وأما المؤمن الكامل الإيمان: فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة، فتكون هذه الأمور داعية له إلى هذا الفعل، كما كانت صَارِفَةً للمنافقين؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «ولو يعلمون ما فيهما» أي: من الأجر والثواب «لأَتَوْهُمَا ولو حَبْوًا»، وهذا كما قلنا: إن هذه المشقات تكون داعية للمؤمن إلى الفعل. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/193).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
المعنى عندي في ذلك: أنه مَن شَهِدَ هاتين الصلاتين في الجماعة فأحْرَى أن يُواظِب على غيرهما، وفي ذلك تأكيد في شهود الجماعة، وأعلام من علامات أهل الفسق والنفاق: المواظبة على التخلُّف عنهما في الجماعة من غير عُذر -والله أعلم-. الاستذكار (2/144).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
فليحذر ذلك مَن يتساهلون في صلاة الفجر وينامون عنها أن يكون فيهم صفة من صفات المنافقين. منحة العلام شرح بلوغ المرام (287).

قوله: «ولو يعلمون ما فيهما لأَتَوْهُمَا ولو حَبْوًا»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ولو يعلمون ما فيهما» لا يخفى ما فيه من الإيماء إلى عظم ثواب ذلك، فكأنَّ العبارة تضيق عن تفصيله. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/558).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ولو يعلمون ما فيهما» أي: في فعلهما من الثواب، وفي تركهما من العقاب، «لأَتَوْهُمَا» أي: جاءوا إليهما، «ولو حَبْوًا»؛ أي: مُحْتَبِيْنَ، يزحفون على ألْيَاتِهم أعجازهم مِن مرض أو آفة. المفهم (2/276).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولو يعلمون ما فيهما» أي: مِن مزيد الفضل، «لأَتَوْهُمَا» أي: الصلاتين، والمراد لأَتَوْا إلى المحل الذي يُصَلَّيان فيه جماعة وهو المسجد. فتح الباري (2/141).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولو» كان الإتيان إليهما «حبوًا». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (9/91).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولو حبوًا» أي: يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير. فتح الباري (2/141).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«حَبْوًا» هنا خبر لـ(كان) المحذوفة هي واسمها؛ لأن (كان) أحيانًا تُحذف مع اسمها؛ لدلالة المقام أو السياق على ذلك، والتقدير: ولو كان الإتيان إليهما حَبْوًا، فحُذفت (كان)، وحُذف اسمها وبقي الخبر. شرح سنن أبي داود (76/19).
وقال النووي -رحمه الله-:
معناه: لو يعلمون ما فيهما من الأجر والخير ثم لم يستطيعوا الإتيان إليهما إلَّا حَبوًا لَحَبَوْا إليهما، ولم يفوِّتوا جماعتهما في المسجد، ففيه: الحث البليغ على حضورهما. شرح النووي على مسلم (5/154).

قوله: «ولقد هَمَمْتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقام»:
قال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «ولقد هَمَمْتُ» اللام جواب القسم، وفي البخاري وغيره: «والذي نفسي بيده لقد هَمَمْتُ». نيل الأوطار (3/147).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والإقسام منه -صلى الله عليه وسلم- لبيان عِظَم شأن ما يَذْكُره زجرًا عن ترك الجماعة. سبل السلام (1/358).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولقد هَمَمْتُ...» الهَمُّ بالشيء غير فعله. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (1/350).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
«لقد هَمَمْتُ» والْهَمُّ: العَزْمُ، وقيل: دونه. نيل الأوطار (3/147).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «ولقد هَمَمْتُ...» استَدَلَّ بهذا الهَمّ داود وعطاء وأحمد وأبو ثور على أنَّ صلاة الجماعة فرض، ولا حُجَّة لهم فيه؛ لأنه هَمَّ ولم يفعل، وإنما مَخْرَجُه مَخْرَج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلَّفون عن الجماعة والجمعة، وقد كان التخلُّف عن الصلاة في الجماعة علامةً من علامات النفاق عندهم، كما قال عبد الله بن مسعود: «لقد رَأَيتُنَا وما يتخلَّف عنها إلا منافق معلوم النفاق»، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: «بيننا وبين المنافقين: شُهود العَتَمَةِ والصبح، لا يستطيعونهما»، ويفيد هذا الحديث: تأكُّدَ أمر شهود الصلوات في الجماعة؛ ولذلك قال جماعة من أُمَّتنا: إن الجماعة فيها واجبة على الكفاية، من أَجْلِ أن إقامة السنن وإحياءَها واجب على الكفاية؛ أي: تَرْكها يؤدي إلى إماتتها، وذهب عامة العلماء إلى أنها سُنة مؤكَّدة، كما قد دلَّلْنا عليه بقوله: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ»؛ إذ حاصِلُه: أن صلاة الفَذِّ صحيحة، ووقوعها في الجماعة أفضل...
قلتُ: ويحتمل أن يكون ذلك التهديد لقوم من المؤمنين صلَّوا في بيوتهم لأمر توهَّمُوه مانعًا ولم يكن كذلك، ويؤيِّد هذا التأويل: ما في كتاب أبي داود من الزيادة في هذا الحديث، فقال: «لقد هَمَمْتُ أن آمر فِتْيَتِيْ فيَجْمَعُوا حُزَمًا مِن حَطَبٍ، ثم آتي قومًا يُصَلُّون في بيوتهم ليست بهم عِلَّة، فَأُحَرِّقَهَا عليهم»، والمنافقون لا يُصلُّون في بيوتهم، إنما يُصلُّون في الجماعة رياءً وسُمعة، وأما إذا خَلَوْا فكما وصفهم الله تعالى به من الكفر والاستهزاء، وعلى هذا التأويل تكون هذه الجماعة المهدَّد على التخلُّف عنها هي الجمعة، كما قد نص عليه في حديث عبد الله بن مسعود، فيُحْمَل المطلق منهما على المقيَّد، والله تعالى أعلم. المفهم (2/ 276-277).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
واختُلف في الألف واللام في «الصلاة» هل هي لمعهودِ صلاة، أو للجنس؟
فمن قال: للعهد اختُلف فيها، ففي رواية: أنها العِشاء، وفي رواية: أنها الجمعة.
ومن قال: للجنس حمَله على جميع الصلوات مطلقًا، وكله صحيح لا منافاة فيه. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (1/350).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث: يدل على وجوب صلاة الجماعة، إلا أنه قد سبق في مسند ابن مسعود: «لا يشهدون الجمعة». الإفصاح عن معاني الصحاح (6/351).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ومنها (أي: من الأجوبة على هذا الحديث) وهو عاشرها: أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، ونصره القرطبي.
وتُعُقِّب: بالأحاديث المصرحة بالعشاء، وفيه بحث؛ لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها، هل هي الجمعة أو العِشاء، أو العِشاء والفجر معًا؟
فإن لم تكن أحاديث مختلفة، ولم يكن بعضها أرجح من بعض، وإلا وقف الاستدلال؛ لأنه لا يتم إلا إنْ تعيَّن كونها غير الجمعة، أشار إليه ابن دقيق العيد، ثم قال: فليتأمل الأحاديث الواردة في ذلك. انتهى.
وقد تأمَّلْتُها فرأيتُ التعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم وابن مسعود.
أما حديث أبي هريرة: ففي البخاري من رواية الأعرج عنه يُومئ إلى أنها العِشاء؛ لقوله في آخره: «لَشَهِدَ العِشاء»، وفي رواية مسلم: «يعني: العِشَاء»، ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضًا: الإيماء إلى أنها العِشاء والفجر.
وعيَّنَها السراج في رواية له من هذا الوجه: العِشَاء، حيث قال في صدر الحديث: «أَخَّرَ العِشاء ليلةً فخرج فوجد الناس قليلًا فغضب» فذكر الحديث، وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: «يعني الصلاتين: العشاء والغداة»، وفي رواية عجلان والمقبري عند أحمد التصريح بتعيين العشاء.
ثم سائر الروايات عن أبي هريرة على الإبهام، وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسُق لفظه، وساقه الترمذي وغيره من هذا الوجه بإبهام الصلاة، وكذلك رواه السراج وغيره من طرق عن جعفر، وخالفهم معمر عن جعفر فقال: «الجمعة» أخرجه عبد الرزاق عنه، والبيهقي من طريقه، وأشار إلى ضعفها؛ لشذوذها.
ويدل على وهمه فيها: رواية أبي داود والطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم، فذكر الحديث، قال يزيد: قلتُ ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف، الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صُمَّتْ أذناي إن لم أكن سمعتُ أبا هريرة يَأْثِرُهُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ذَكَر جمعة ولا غيرها.
فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة.
وأما حديث ابن أم مكتوم: فسأذكره قريبًا، وأنه موافق لأبي هريرة.
وأما حديث ابن مسعود: فأخرجه مسلم، وفيه: الجزم بالجمعة، وهو حديث مستقل؛ لأن مَخْرَجَهُ مُغاير لحديث أبي هريرة، ولا يَقدح أحدهما في الآخر، فيُحمل على أنهما واقعتان، كما أشار إليه النووي والمحب الطبري.
وقد وافق ابنُ أم مكتوم أبا هريرة على ذكر العِشاء؛ وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استقبل الناس في صلاة العِشاء، فقال: لقد هَمَمْتُ أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأُحَرِّقَ عليهم بيوتهم، فقام ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، قد علمتَ ما بي؟ وليس لي قائد -زاد أحمد- وأن بيني وبين المسجد شجرًا ونخلًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم، قال: فاحضرها»، ولم يرخِّص له، ولابن حبان من حديث جابر قال: «أتسمع الأذان؟ قال: نعم، قال: فَأْتِهَا ولو حبوًا»، وقد حمَله العلماء على أنه كان لا يَشُقُّ عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العميان.
واعتمد ابن خزيمة وغيره حديث ابن أم مكتوم هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلها، ورجَّحوه بحديث الباب، وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب.
وفيه نظر، ووراء ذلك أمرٌ آخر أَلْزَمَ به ابن دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى، وهو أن الحديث ورد في صلاة معيَّنة، فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم.
لكنْ نُوْزِعَ في كون القول بما ذُكِرَ أولًا ظاهرية محضة، فإن قاعدة حَمْلِ المطلق على المقيد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى؛ لأن غير العشاء والفجر مظِنَّة الشغل بالتكسب وغيره، أما العصران فظاهر، وأما المغرب فلأنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل، ولا سيما للصائم مع مضي وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم.
وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضًا انتظامُ الأُلْفَة بين المتجاوِرِين في طَرَفَيْ النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك.
وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد.
وتقدم توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما، وقد أَطَلتُ في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعض، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح. فتح الباري (2/ 127 -129).

قوله: «ثم آمُرَ رَجُلًا فيصلي بالناس»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«آمر رَجُلًا» ممن هو حاضر من أصحابه «فيصليَ بالناس» تلكَ الصلاة القائمة. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/109).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: أن الإمام إذا عَرَض له شغل يستخلف من يصلِّي بالنَّاس، وإنَّما همَّ بإتيانهم بعد إقامة الصَّلاة لأنَّ بذلك الوقت يتحقق مخالفتهم وتخلفهم، فيتوجه اللوم عليهم.
وفيه: جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة لعذر. شرح مسلم (5/154).

قوله: «ثم أنطلقَ معي برجال معهم حُزَمٌ من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«ثم أنطلقَ» من المسجد إليهم. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/109).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
«ثم أنطلقَ معي برجال»، «معي» جار ومجرور متعلق بمحذوفٍ حال من «رجال»، والتقدير: أنطلق برجال مُصاحِبِين لي. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/373).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«حُزَمٌ» جمع حُزْمة. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/109).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«برجال معهم حُزَم» أي: مجموعة «مِن حَطَبٍ» جمع حُزْمَة، على وزن غُرَف وغُرْفَة، والحُزمة: مجموعة من الحطب، كصُبْرَةٍ من الطعام. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (5/ 339).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«إلى قومٍ» متعلق بـ«أنْطلقَ». كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/110)
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
«إلى قوم لا يشهدون الصلاة» أي: لا يحضرون الجماعة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/373).

قوله: «فأُحَرَّقَ عليهم بيوتهم بالنار»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فأُحَرَّقَ» بالتشديد، والمراد به التكثير، يقال: حَرَّقَهُ: إذا بالغ في تحريقه. فتح الباري (2/ 129).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «عليهم» يُشْعِر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين، والبيوت تبعًا للقاطنين بها، وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح: «فَأُحَرِّقَ بيوتًا على مَن فيها». فتح الباري (2/ 129).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«بالنار» متعلق بـ«أُحَرِّقَ». كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/110).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال بعضهم: في هذا الحديث دليل على أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال؛ ‌لأن ‌تحريق ‌البيوت ‌عقوبة ‌مالية، وقال غيره: أجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة، والغَالِّ من الغنيمة، واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع تحريق متاعهما. شرح مسلم (5/ 153).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
التاسع (أي: من الأجوبة على هذا الحديث) فيما ادعاه بعضهم: أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين، ثم نُسِخَ، حكاه عياض.
ويمكن أن يتقوى بثبوت نَسْخِ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، كما أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: «بَعَثَنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في بَعْثٍ وقال لنا: إن لقيتم فلانًا وفلانًا -لِرَجُلَيْنِ من قريش سمَّاهما- فحَرِّقُوهما بالنار، قال: ثم أتيناه نُودِّعه حين أردنا الخروج، فقال: إني كنتُ أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا بالنار، وإن النار لا يُعذِّب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما».
وكذا ثبوتُ نَسْخِ ما يتضمنه التَّحريق من جواز العقوبة بالمال.
ويدل على النسخ: الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذِّ كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبل هذا؛ لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. فتح الباري (2/127).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلِّقًا:
قد اعترض العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز فيما علَّقه على (الفتح) على جزم الحافظ بالنسخ، وقال: إنه ليس بجيد، والصواب عدم النسخ؛ لأدلة كثيرة معروفة في محلها، منها: حديث الباب، وإنما المنسوخ التعذيب بالنار فقط والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (14/226).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدِّثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان.
وبالَغَ داود ومَن تَبِعَهُ فجعلها شرطًا في صحة الصلاة ... وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وقال به كثير من الحنفية والمالكية.
والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة منها ما تقدم...
ومنها -وهو ثانيها-: ونقله إمام الحرمين عن ابن خزيمة، والذي نقله عنه النووي الوجوب، حسبما قال ابن بزيزة: إن بعضهم استنبط مِن نفس الحديث عدم الوجوب؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- همَّ بالتوجُّه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فَرْضَ عين ما همَّ بتركها إذا توجَّه، وتُعُقِّب: بأن الواجب يجوز تركه لِمَا هو أوْجَب منه، قلتُ: وليس فيه أيضًا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعةِ آخرين. فتح الباري (2/126).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ومما يدل على أنها سُنة: أن نبي الله لم يقل لهم حين توعدهم بالإحراق عليهم: إنه مَن تخلف عن الجماعة فلا تجزئه صلاته، ولو كانت فرضًا ما سكت عن ذلك؛ لأن البيان منه لأُمَّته فرض عليه. شرح صحيح البخاري (2/270).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
البيان قد يكون بالتنصيص، وقد يكون بالدلالة، ولَمَّا قال -صلى الله عليه وسلم-: «ولقد هممتُ...» إلى آخره دل على وجوب الحضور عليهم للجماعة. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/195).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
وقوله: «ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمر رَجُلًا فيَؤُمَّ الناس، ثم أُخَالِفَ إلى رجال فأُحَرِّقَ عليهم بيوتهم» دليل واضح على أن حضور الجماعة ليس بفرض على الأعيان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُخبر عن نفسه بما يكون فيه معصية، وقوله: «فأُحَرِّقَ عليهم بيوتهم» بيان أنه همَّ أن يُؤدِّب بإتلاف الأموال على سبيل الإبلاغ في النكاية.
ويحتمل: أن يريد بذلك تشبيه عقوبتهم بعقوبة أهل الكفر في تحريق بيوتهم، وتخريب ديارهم. المنتقى شرح الموطأ (1/ 230).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأُجِيب يعني: عن كلام الباجي: بأن المنع وَقَعَ بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزًا، بدليل حديث أبي هريرة في البخاري الدال على جواز التحريق بالنار ثم على نَسْخِه، فحَمْل التهديد على حقيقته غير ممتنع. فتح الباري (2/126).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الحديث حُجّة على داود لا له؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- همَّ ولم يفعل؛ ولأنه لم يخبرهم أنَّ مَن تخلَّف عن الجماعة فصلاته غير مُجزيَة، وهو موضع البيان، لكن في تغليظه ذلك، وتشديده، وإبعاده دليل على تأكيد أمر الجماعة. إكمال المعلم (2/622).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله- مُعلِّقًا على كلام عياض السابق:
أما الأول: فضعيف جدًّا، إن سلَّم القاضي أن الحديث في المؤمنين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يهمُّ إلا بما يجوز له فعله لو فعله.
وأما الثاني: وهو قوله (أي: عياض): "ولأنه لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة، وهو موضع البيان"فلقائل أن يقول: البيان قد يكون بالتنصيص، وقد يكون بالدلالة؛ ولما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ولقد هممتُ» إلى آخره، دل على وجوب الحضور عليهم للجماعة، فإذا دل الدليل على أن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها غالبًا كان ذِكْرُهُ -صلى الله عليه وسلم- لهذا الهَمِّ دليلًا على لازِمِه، وهو وجوب الحضور، وهو دليل على الشرطية، فيكون ذِكْرُ هذا الهَمِّ دليلًا على لازِمِهِ، وهو وجوب الحضور، ووجوب الحضور دليلًا على لازِمِهِ، وهو اشتراط الحضور، فذكر هذا الهم بيان للاشتراط بهذه الوسيلة، ولا يشترط في البيان أن يكون نصًّا كما قلنا، إلا أنه لا يتم هذا إلا ببيان أن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها، وقد قيل: إنه الغالب؛ ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد في أظْهَر قولَيه: إن الجماعة واجبة على الأعيان غير شرط. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/195).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأما التَّرْك فلا يدل على عدم الوجوب؛ لاحتمال أن يكونوا انزجَروا بذلك، وتركوا التخلف الذي ذمَّهم بسببه.
على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب التَّرْك، وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: «لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمتُ صلاة العشاء، وأمرت فِتْيَاني يُحَرِّقُون...» الحديث.
ومنها (أي: من الأجوبة على هذا الحديث) وهو سادسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا لا مجرد الجماعة، وهو متعقَّب: بأن في رواية مسلم: «لا يشهدون الصلاة» أي: لا يحضرون، وفي رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد: «لا يشهدون العشاء في الجميع» أي: في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعًا: «لَيَنْتَهِيَنَّ رجال عن تركهم الجماعات، أو لأُحَرِّقَنَّ بيوتهم».
ومنها وهو سابعها: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتم الدليل، أشار إليه الزين ابن المنير، وهو قريب من الوجه الرابع. فتح الباري (2/126-127).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
بهذا الحديث احتج من قال: إن الوعيد بالإحراق لمن تخلف عن صلاة الجماعة أُريد به المنافقون؛ لِذِكْرِهم في أول الحديث، وهذا ليس ببيِّن؛ لأنه يحتمل أن يكون -عليه السلام- أخبر المؤمنين أن من شأن المنافقين ثقل الفجر والعشاء عليهم في الجماعة، فحذَّر المؤمنين من التشبه بهم في ذلك، وامتثال طريقتهم والله أعلم. شرح صحيح البخاري (2/ 283).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وتُعُقِّبَ (أي: ابن بطال): باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان معرِضًا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويَّتهم، وقد قال: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه». فتح الباري (2/127).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
هذا إنما يلزم إذا كان ترك معاقبة المنافقين واجبًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحينئذٍ يمتنع أن يعاقبهم بهذا التحريق، فيجب أن يكون الكلام في المؤمنين، ولنا أن نقول: إن ترْك عقاب المنافقين وعقابهم كان مباحًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- مخيرًا فيه، فعلى هذا: لا يتعين أن يحمل هذا الكلام على المؤمنين؛ إذ يجوز أن يكون في المنافقين؛ لجواز معاقبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، وليس في إعراضه عنهم بمجرده ما يدل على وجوب ذلك عليه.
ولعل قوله -صلى الله عليه وسلم- عندما طُلب منه قتل بعضهم: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» يُشْعِرُ بما ذكرناه في التخيير؛ لأنه لو كان يجب عليه ترك قتلهم لكان الجواب بذكر المانع الشرعي، وهو أنه لا يحل قتلهم.
ومما يشهد لمن قال: "إن ذلك في المنافقين" عندي: سياق الحديث من أوله، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أثقل الصلاة على المنافقين».
ووجه آخر في تقدير كونه في المنافقين: أن يقول القائل: هَمُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتحريق يدل على جوازه، وتركه التحريق يدل على جواز هذا التَّرْك، فإذا اجتمع جواز التحريق وجواز تركه في حق هؤلاء القوم، وهذا المجموع لا يكون في المؤمنين فيما هو حق الله تعالى. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/194-195).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والذي يظهر لي: أن الحديث ورد في المنافقين؛ لقوله في البخاري: «ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر» الحديث؛ ولقوله: «لو يعلم أحدهم...» إلخ؛ لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل.
لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، بدليل قوله في رواية عجلان: «لا يشهدون العشاء في الجميع»، وقوله في حديث أسامة: «لا يشهدون الجماعة»، وأَصْرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود: «ثم آتي قومًا يُصَلُّون في بيوتهم ليست بهم عِلَّة» فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر؛ لأن الكافر لا يصلي في بيته، إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبَّه عليه القرطبي.
وأيضًا فقوله في رواية المقبري: «لولا ما في البيوت من النساء والذرية¬» يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا؛ لأن تحريق بيت الكافر إذا تعيَّن طريقًا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته.
وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها. فتح الباري (2/127).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
خروجهم (يعني: المؤمنين) عن الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء يسوغ لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم وعادتهم، وأنه منافٍ لحالهم؛ لأنه من صفة المنافقين، ولو دخلوا في هذا الوعيد ابتداءً لم يكن بهذه المثابة، ويعضده ما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: «لقد رَأَيْتُنَا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق قد عُلِمَ نِفَاقه» رواه مسلم. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1127).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس حدثني عمومتي من الأنصار، قالوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يشهدهما منافق» يعني: العشاء والفجر.
ولا يقال: فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه؛ لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف؛ لأني أقول: بل هذا يقوِّي ما ظهر لي أولًا أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر.
فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل، لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا؛ لما دل عليه مجموع الأحاديث. فتح الباري (2/127).
وقال الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمه الله-:
يستفاد منه: ذم المتخلف عن حضور الصلوات في المسجد، لا سيما العشاء والفجر. الإلمام بشرح عمدة الأحكام (1/89).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفيه: تسمية صلاة الصبح بصلاة الفجر. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (1/353).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: الحث العظيم على حضور جماعة هاتين الصلاتين، والفضل الكثير في ذلك؛ لما فيهما من المشقة على النفس؛ من تنغيص أول نومها وآخره؛ ولهذا كانتا أثقل الصلاة على المنافقين. شرح النووي على مسلم (4/159).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: أن الجماعة لا تجب على النساء، ولا تتأكد في حقهن؛ من قوله: «ثم أُخَالِفَ إلى رِجَالٍ» وهو كذلك. طرح التثريب (2/311).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفيه: جواز أخذ أهل الجرائم على غِرَّة. المفهم (2/278).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
لأنه -صلى الله عليه وسلم- هَمَّ بذلك في الوقت الذي عُهِدَ منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يبْغَتَهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد. فتح الباري (2/ 130).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
(فيه) أنَّ مَن ترك الجماعة بلا عذر آثمٌ يستحق العقوبة.
(وفيه) أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح؛ فإنه لم يمنعه من تعذيبهم بهذه الطريق إلا خوف تعذيب من لا يستحق العذاب. تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (109).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفيه: أن الأفضل لأهل الأعذار تحمُّل المشقة في الإتيان إلى الجماعة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لأَتَوْهُما ولو حَبوًا»، ومعلوم أن إتيان الصلاة حَبوًا لا يكون إلا من عذر والله أعلم. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (1/353).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله -عليه السلام-: «ولقد هممت...» إلخ، أُخِذَ منه: تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسِرُّه: أن المفسدة إذا ارتفعَت بالأهْوَن من الزواجر اكتُفي به من الأعلى. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/196).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: أنه لا بأس بالحلف فيما يُريد المخْبِرُ أن يُخْبِرَ به؛ للتأكيد والاهتمام. طرح التثريب (2/307).
وقال العراقي -رحمه الله- أيضًا:
فيه: تأكد صلاة الجماعة، والحضُّ عليها، والتهديد لمن تركها. طرح التثريب (2/308).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة؛ لأجل إخراج من يَسْتَخْفِي في بيته ويتركها، ولا بُعْدَ في أن تَلْحَقَ بذلك الجمعة، فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها: خوف فَوَاتِ الغَرِيمُ، وأصحاب الجرائم في حق الإمام كالغُرماء. فتح الباري (2/ 130).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
واستدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة.
قال ابن بزيزة: وفيه نظر؛ لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبًا، وهذا لا يختلف في جوازه.
واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك.
وتعقب: بأنه منسوخ كما قيل في العقوبة بالمال، والله أعلم. فتح الباري (2/ 130).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
(فيه) أن من أحسَّ بنفسه بِثِقَلِ الصلاة عليه فلْيَعْلَم أن في قلبه نفاقًا، وأنه مُشابِهٌ للمنافقين في هذه الحال، فعليه أن يحاسِب نفسه، وأن يفكر في أمره.
ومن فوائده أيضًا: أن المؤمن الخالص تكون الصلاة عليه خفيفة؛ لأنه يحبُّها، ولأنه يؤمن بفائدة الوقوف بين يدي ربه -عزَّ وجلَّ- يناجيه بكلامه، ويتقرب إليه بأفعاله وأقواله، ويسأله حاجاته؛ ولهذا كانت الصلاة قُرَّةَ عين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لماذا؟ لأنه أكمل الناس إيمانًا، وأعلمهم بالله -عزَّ وجلَّ-، وهي راحة القلب لمن كان مؤمنًا حقًّا، أما المنافق فإنها ثقيلة عليه -والعياذ بالله-. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/256).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: حُجَّة لأحد القولين في أنه يقاتل أهل بلد تمالَؤُوا على ترك السنن ظاهرًا؛ بناء على القول بأن الجماعة سُنة لا فرض.
قال القاضي عياض: والصحيح قتالهم؛ لأن في التمالُؤِ عليها إماتتها، انتهى.
وقد اختلف أصحاب الشافعي -رحمهم الله- في قتال أهل بلد اتفقوا على ترك الجماعة؛ بناء على القول بأنها سُنة، والصحيح عندهم: أنهم لا يُقاتَلُون على ذلك، إنما يُقَاتَلُون على القول بأنها فرض كفاية والله أعلم. طرح التثريب (2/313).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد عَرفْتَ أن الحق أن صلاة الجماعة واجبة على من لا عذر له، فتبصَّر. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (14/227).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وهذا (أي: الحديث) مما يحسن الاستدلال به على قتل تارك الصلاة؛ فإنه إذا ‌جازت عقوبة ‌تارك ‌الجماعة في ماله وإن تعدَّت إلى نفسه بالهلاك، فقَتْلُ مَن ترك الصلاة بالكلية أولى بالجواز، فلا جَرَمَ كان قتله واجبًا عند جمهور العلماء.
وفي الحديث: دليل على أنه إنما يُعَاقَب تارك الصلاة أو بعض واجباتها في حال إخلاله بها لا بعد ذلك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد عقوبتهم في حال التخلف، وقد كان يمكنه أن يؤخر العقوبة حتى يصلي وتنقضي صلاته.
وهذا يعضد قول من قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن تارك الصلاة لا يُقتل حتى يُدعى إلى الصلاة، ويصرُّ على تركها حتى يضيق وقت الأخرى؛ ليكون قتله على الترك المتلبس به في الحال. فتح الباري (5/461).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
وفي الحديث أيضًا: أن الإمام له أن يؤخِّر الصلاة عن أول الوقت لمصلحة دينية، ولكنه يَسْتَخْلِف من يصلي بالناس في أول الوقت؛ لئلا تفوتهم فضيلة أول الوقت.
وفيه أيضًا: أن إنكار المنكر فرض كفاية، وأنه إذا قام اكتفى بذلك، ولا يلزم جميع الناس الاجتماع عليه؛ فإنه لو كان كذلك لأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- معه جميع الناس. فتح الباري (5/461).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: دليل على جواز العقوبة في المال، وفي قوله: «ثم تُحَرَّق بيوتٌ على من فيها» ما يدل على أن تارك الصلاة متهاونًا يُقْتل. المفهم (2/277).
وقال الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمه الله-:
يستفاد منه: إعدام محل المعصية. الإلمام بشرح عمدة الأحكام (1/89).


ابلاغ عن خطا