«بئسما لأحدِهِم يقولُ: نَسِيْتُ آيةَ كَيْتَ وكَيْتَ، بل هو نُسِّي، استذكِرُوا القرآنَ، فَلَهُوُ أشدُّ تَفَصِّيًا من صدورِ الرِّجالِ من النَّعَمِ بِعُقُلِهَا».
رواه البخاري برقم: (5032)، ومسلم برقم: (790)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بِئْسَمَا»:
بِئْسَ: مهموز فعلٌ جامِعٌ لأنواع الذَّمِّ، وهو ضد (نِعْمَ) في المدح، فبئس: كلمةٌ مستوفية لجميع الذمّ، كما أنَّ نِعْمَ كلمة مستوفية لجميع المدح. لسان العرب، لابن منظور (6/ 22).
«كَيْتَ»:
«كيتَ وكيتَ» أي: آية كذا وكذا، وهو بفتح التاء على المشهور.شرح النووي على صحيح مسلم (6/78).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
قال أبو عبيدة: يُقال: كان من الأمر كَيْتَ وكَيْتَ بالفتح، وكَيْتِ وكَيْتِ بالكسر. الصحاح (1/ 263).
«تَفَصِّيًا»:
بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة الثقيلة بعدها تحتانية خفيفة، أي: تَفَلُّتًا وتَخَلُّصًا. فتح الباري، لابن حجر (9/81).
«النَّعَم»:
أصلها الإبل والبقر والغنم، والمراد هنا الإبل خاصة، لأنها التي تُعْقَل. شرح النووي على مسلم (6/ 77).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
النَّعَم بفتح النون، واحد الأنعام، وهي المال الراعية، وأكثر استعماله في الإبل. شرح المصابيح (3/ 48).
«بعُقُلها»:
بضمَّتين، ويجوز سكون القاف، جمع عِقال بكسر أوله، وهو الحَبْل. فتح الباري، لابن حجر (9/82).
شرح الحديث
قوله: «بئسما»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«بئسما»...، و(بئس) هي أخت (نِعْمَ)، فالأولى للذم، والثانية للمدح، وهما -على الصحيح من أقوال النحاة- فعلان غير مُتَصَرِّفَين، يَرْفعان الفاعل ظاهرًا، أو مضمرًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/226).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«بئسما» (بئس) فعل ماضٍ لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مبهم مستتر وجوبًا؛ لشبهه بالمثل. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/111).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ما» في هذا الحديث نكرة منصوبة على التمييز، وفاعل «بئس» ضمير مستتر على الأصح، وقيل: «ما» هي الفاعل. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/226).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«بئسما» كلمة «ما» نكرة موصوفة أتى بها تمييزًا للمستتر في «بئس» وهو فاعلها. التنوير شرح الجامع الصحيح (4/578).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فاستَحَبَّ -صلى الله عليه وسلم- أن يَضيف النسيان إلى خالقه الذي هو الله تعالى، وقد جاء في القرآن عن موسى -صلى الله عليه وسلم- أنه أضاف النسيان مرة إلى نفسه ومرة إلى الشيطان، فقال: {إِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} الكهف:63...، وليس في شيء من ذلك اختلاف ولا تضاد في المعنى؛ لأن لكل إضافة منها معنى صحيحًا في كلام العرب، فمن أضاف النسيان إلى الله فلأنه خالقه وخالق الأفعال كلها، ومن نسَبَه إلى نفسه فلأن النسيان فعل منه، مضاف إليه من جهة الاكتساب والتَّصرف، ومن نسَبَه إلى الشيطان فهو بمعنى الوسوسة في الصدور وحديث الأنفس، بما جعل الله للشيطان من السلطان على هذه الوسوسة، فلكل إضافة منها وجه صحيح.
وإنما أراد -صلى الله عليه وسلم- بقوله -والله أعلم-: «ما لأحدهم يقول: نَسِيْتُ آية كذا وكذا؛ بل هو نُسِّي»: أن يجري على ألْسُن العباد نسبة الأفعال إلى بارئها وخالقها، وهو الله، ففي ذلك إقرار له بالعبودية، واستسلام لقدرته، وهو أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها، فإن نَسَبَها إلى مكتسبها فجائز بدليل الكتاب والسنة. شرح صحيح البخاري (10/ 270-271).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ووقع له (أي: لابن بطال) ذهول فيما نسبه لموسى، وإنما هو كلام فتاه. فتح الباري (9/80).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذا (يعني: كلام ابن بطال) ليس بشيء؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد نسب النسيان لنفسه، وقد نسبه الله إليه، في قوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ} الأعلى:6-7، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نَسِيْت فذكِّروني»...
وقيل: قول ثالث، وهو أَوْلَاها: إن نسيان القرآن إنما يكون لِتَرْكِ تعاهُده، وللغفلة عنه، كما أن حِفْظَه إنما يثبت بتكراره والصلاة به، كما قال في حديث ابن عمر: «إذا قام صاحب القرآن يقرؤه بالليل والنهار ذَكَرَه، وإن لم يقم به نَسِيَهُ».
فإذا قال الإنسان: نسيتُ آية كَيْتَ فقد شهد على نفسه بالتفريط وترك معاهدته له، وهو ذنب عظيم؛ كما قال في حديث أنس الذي خرَّجه الترمذي مرفوعًا: «عُرِضَت عليَّ أعمال أُمَّتي، فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أُوْتِيَهَا رَجُلٌ ثم نسيها»، وهو نص.
وعلى هذا: فمتعلَّق الذم: تَرْكُ ما أُمر به من استذكار القرآن وتعاهده، والنسيان علامةُ تَرْكِ ذلك، فعلَّق الذم عليه...، ويدل على صحة هذا التأويل: قوله في آخر الحديث: «بل هو نُسِّي»، وهذا اللفظ رويناه مشددًا مبنيًّا لما لم يُسَّم فاعله، وقد سمعناه من بعض من لقيناه بالتخفيف، وبه ضُبط عن أبي بحر (سُفيان بن العاصي الأَسَدي)، والتشديد لغيره، ولكل منهما وجه صحيح. المفهم (2/418-419).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد يظهر في معنى قوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: إني نسيتُ آية كذا، ولكنه نُسِّي» ذم الحال وكراهته، لا ذم القول، أي: بئست الحالة والصفة لمن أُوتِيَ القرآن فغَفَل عنه حتى نَسِيَهُ، فقال: نَسِيْتُه، وهو لم ينسه من قِبَل نفسه؛ إذ ليس النسيان مِن فِعْلِه، لكنه مِن فِعْلِ الله الذي نسَّاه إياه؛ عقوبة لإعراضه عنه وتوسيده إياه، واستخفافه بحقه، كما قال في الحديث الآخر: «لم أرَ ذنبًا أعظم من آية أو سورة حفِظَها رَجُلٌ ثم نسيها»، وهذا عندي أولى ما يُتأول في الحديث -إن شاء الله-. إكمال المعلم (3/155).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختُلف في متعلق الذم من قوله: «بئس» على أوجه:
الأول: قيل: هو على نسبة الإنسان إلى نفسه النسيان، وهو لا صُنع له فيه، فإذا نسبَه إلى نفسه أَوْهَمَ أنه انفرد بفعله، فكان ينبغي أن يقول: أُنْسِيْتُ ، أو نُسِّيتُ بالتثقيل؛ على البناء للمجهول فيهما، أي: أن الله هو الذي أنساني، كما قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} الأنفال:17، وقال: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون} الواقعة:64، وبهذا الوجه جزم ابن بطال.
الوجه الثاني: وهو كالأول لكن سبب الذم ما فيه من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن؛ إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكُّره، فإذا قال الإنسان: نَسِيتُ الآية الفلانية، فكأنه شَهِدَ على نفسه بالتفريط، فيكون متعلق الذم: تَرْكُ الاستذكار والتعاهد؛ لأنه الذي يورث النسيان.
الوجه الثالث: قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون كَرِهَ له أن يقول: نَسِيْتُ بمعنى: تركتُ، لا بمعنى السهو العارض كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} التوبة: 67، وهذا اختيار أبي عُبيد وطائفة.
الوجه الرابع: قال الإسماعيلي أيضًا: يحتمل أن يكون فاعلُ (نَسِيْتُ) النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-؛ كأنه قال: لا يقل أحد عني: إني نَسِيْتُ آية كذا، فإن الله هو الذي نسَّاني ذلك؛ لحكمة نسْخِهِ ورَفْعِ تلاوته، وليس لي في ذلك صنعٌ، بل الله هو الذي ينسيني لما تُنسخ تلاوته، وهو كقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الأعلى: 6- 7، فإن المراد بالْمَنْسِيِّ: ما يُنسخ تلاوتُه، فيُنْسِي اللهُ نبيَّه ما يريد نسخ تلاوته.
الوجه الخامس: قال الخطابي: يحتمل أن يكون ذلك خاصًّا بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان من ضُروب النسخ: نسيان الشيء الذي ينزل، ثم ينسخ منه بعد نزوله الشيءُ، فيذهب رسْمُهُ وتُرفع تلاوته، ويسقط حِفْظُه عن حَمَلَته، فيقول القائل: نَسِيْتُ آية كذا، فنُهوا عن ذلك؛ لئلا يُتوهم على مُحْكَم القرآن الضياع، وأشار لهم إلى أن الذي يقع من ذلك إنما هو بإذن الله؛ لما رآه من الحكمة والمصلحة.
الوجه السادس: قال الإسماعيلي: وفيه وجه آخر: وهو أن النسيان الذي هو خلاف الذِّكْر إضافته إلى صاحبه مجازٌ؛ لأنه عارِضٌ له، لا عن قصد منه؛ لأنه لو قَصَد نسيان الشيء لكان ذاكرًا له في حال قصده، فهو كما قال: ما مات فلان ولكن أُمِيتَ، قلتُ: وهو قريب من الوجه الأول.
وأرجح الأوجه: الوجه الثاني، ويؤيده عطْفُ الأمر باستذكار القرآن عليه. فتح الباري (9/80).
قوله: «لأحدهم يقول: نسيتُ آية كَيْتَ وكَيْتَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لأحدهم» جار ومجرور صفة لـ«ما» الواقعة تمييزًا لفاعل (بئس). الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/111).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لأحدهم» متعلق بحالٍ محذوف، أي: حال كونه كائنًا لأحدهم، أو متعلق بـ«بئس» على رأي بعضهم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/226-227).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«أن يقول» هو المخصوص بالذم، أي: بئس الشيء شيئًا كائنًا لأحدهم قوله: «نَسِيتُ» بفتح النون وكسر السين مخففة. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (8/ 305).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«آيةَ» مفعول به لـ«نَسِيْت»، وهو مضاف «كيت وكيت» في محل الجر مضاف إليه مبني على فتح الجزأين؛ لتركُّبه تركيب خمسة عشر، وهو من الكنايات التي كُنَّي بها عن الأشياء المبهمة نحو كذا وكذا، ونحو ذَيْتَ وذَيْت. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/111).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «آية كَيْت وكَيْت» هو مَثَلٌ، إلا أنه لا يقال للمؤنث، قاله الداودي. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/137).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «كَيْت وكَيْت» هي كلمة يُعَبَّر بها عن الجُمَل الكثيرة والحديث الطويل، ومثلها: ذَيْت وذَيْت. كشف المشكل (1/303).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وأطلق ههنا (أي: «آية كَيْت وكَيْت») باعتبار كون الآية مشتملة على مضمون جملة، وإلا فالظاهر آية كذا وكذا. مرعاة المفاتيح (7/262).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «نَسِيْتُ آية كَيْتَ وكَيْتَ» وذلك أن هذا القول يدل على أنه لم يتعاهد القرآن، ولم يُلازم عليه. الكاشف عن حقائق السنن (5/1680).
وقال السندي -رحمه الله-:
«نَسِيْتُ آية كَيْت» بالتخفيف؛ لما فيه من التشبُّه لفظًا بمن ذمَّه الله تعالى بقوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} طه:126، فالاحتراز عن مثل هذا القول أحسن. حاشية السندي على سنن النسائي
(2/155).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد يقال: إنه كَرِهَ قول هذا اللفظ لاشتراكه؛ ولما في هذا من الإعراض والغفلة والتهاون، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} طه:124، ثم قال: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} طه:126. إكمال المعلم (3/154).
قوله: «بل هو نُسِّي»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «بل هو نَسِيَ» بالتخفيف ضبَطْنَاه عن أبي بحر، وبالتشديد لغيره. إكمال المعلم (3/155).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «بل هو نُسِّي» بضمِّ النون وتشديد المُهملة المكسورة. فتح الباري (9/80).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والتثقيل (يعني: التشديد) هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده: ما وقع في رواية أبي عبيد في الغريب بعد قوله: «كَيْتَ وكَيْتَ، ليس هو نَسِي ولكنه نُسِّي» الأول بفتح النون وتخفيف السين، والثاني بضم النون وتثقيل السين. فتح الباري (9/80).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
فعلى التَّشديد يكون معناه: أنه عُوقب بتكثير النسيان عليه لـمَّا تمادى في التفريط، وعلى التخفيف فيكون معناه: تَرَكَه غير مُلْتَفِتٍ إليه، ولا مُعْتَنٍ به، ولا مَرْجُوع له؛ كما قال الله تعالى: {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} التوبة:67، أي: تَرَكَهم في العذاب، أو تَرَكَهم من الرحمة. المفهم (2/419).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «بل نُسِّي» بمعنى: أنه عوقب بالنسيان على ذنب كان منه، أو على سوء تعَهُّده القرآن، والقيام بحقه حتى نسيه. أعلام الحديث (3/1946).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «بل نُسِّي» إشارة إلى عدم تقصيره في المحافظة؛ لكن الله تعالى نسَّاه لمصالح. الكاشف عن حقائق السنن (5/1680).
وقال السندي -رحمه الله-:
«بل هو نُسِّي» بالتشديد، أي: الله تعالى قد أزال عن قلبه ما أزال، فليقل: نُسِّيت بالتشديد؛ لكونه أوْفَق بالواقع، وأبعد من الوقوع في المكروه. حاشية سنن النسائي (2/155).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بل هو نُسِّي»...هذا تلقين وتعليم أن يقول: نُسِّيْتُ، لا نَسِيْتُ. مرقاة المفاتيح (4/1495).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وهذان الوجهان (قول عياض وقول الخطابي) مع كونهما غير ظاهرين من اللفظ لا يصحَّان؛ لأنه إنما ذمَّ القول لا الفعل؛ لأنه قال بعده: «بل نُسِّي» -بضم النون وتشديد السين على بناء المجهول فقد نسي؛ لأن الثلاثي مضارع للمزيد، ولا وجود للمزيد إلا مع وجوده-، والظاهر أنه كره لفظ «نَسِيتُ» لأن الله تعالى حيث ذَكَرَ النسيان ذَكَرَهُ في معرض الذم، قال تعالى في شأن آدم: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} طه:115، وقال في شأن الكافر: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} طه:126. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (8/405).
وقال أبو عبيد -رحمه الله-:
إن وجه هذا الحديث: إنما هو على التارك لتلاوة القرآن الجافي عنه، ومما يُبيِّن ذلك: قوله: «واستذكروا القرآن»، وفي حديث آخر: «تعَهَّدوا القرآن»، فليس يقال هذا إلا للتارك، وكذلك: حديث الضحاك بن مزاحم: «ما من أحد تعلَّم القرآن ثم نَسِيَهُ إلا بذنب يُحْدِثُه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى:30»، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب. غريب الحديث (3/149).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قال ابن عيينة: ... إن ذلك (يعني: معنى الحديث) في ترك القرآن، وترك العمل بما فيه، وإن النسيان أُرِيد به ههنا الترك، نحو قوله: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} الجاثية:34، قال: وليس مَن اشتهى حفظه وتَفَلَّتَ منه بناسٍ له إذا كان يُحِل حلاله ويُحرِّم حرامه؛ لأن هذا ليس بِنَاسٍ له، قال: ولو كان كذلك ما نَسِي النبي -عليه السلام- منه شيئًا وقد نسي، وقال: «ذَكَّرَني هذا آيةً نَسِيْتُها»، وقال الله -عزَّ وجلَّ: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ} الأعلى: 6-7، فلم يكن الله ليُنْسِي نبيه -عليه السلام- والناسَ كما يقول هؤلاء الجهال. التمهيد (14/ 132).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويحتمل: أنه نهى عن نِسْبَةِ النسيان إلى نفسه، وإضافتِه إلى الشيطان... كما قال تعالى: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} الكهف:63، فيكون تأدبًا في حق القرآن أن يَنْسِب الإنسانُ نسيانَه إلى نفسه؛ لأنه تقصير في حق كتاب الله تعالى، بل الشيطان أنْسَاه؛ لتعاطيه أسبابه. التنوير شرح الجامع الصحيح (4/578-579).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الوجه عندي: أن النهي موجَّه إلى قول هذا اللفظ؛ لما يُشْعِر به فقط، أما أسباب النسيان فلها حكم مستقل، فمن نشأ نسيانه بأمر ديني كالجهاد فهو معذور، وعليه يحمل ما ورد من نسيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض الآيات، كما في الرواية الأولى والثانية، ومن كان نسيانه عن إهمال وتقصير مع التمكُّن فهو حرام، والله أعلم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/593).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: كراهة قول: «نَسِيْتُ آية كذا»، وهي كراهة تنزيه، وأنه لا يُكْرَه قول: «أُنْسِيْتُها»، وإنما نُهي عن (نَسِيْتُها)؛ لأنه يتضمن التساهل فيها، والتغافل عنها، وقد قال الله تعالى: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} طه:126. شرح مسلم (6/77).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
يؤيد ما قاله النووي -رحمه الله-: ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سمع رجلًا يقرأ في سورة بالليل، فقال: «يرحمه الله، لقد أَذْكَرَنِي آية كذا وكذا كنت أُنْسِيْتُها من سورة كذا وكذا» رواه البخاري...، فإنه صارف للنهي عن التحريم إلى التنزيه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/236-236).
قوله: «اسْتَذْكِرُوا القرآن»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «واسْتَذْكِرُوا» السين للمبالغة، أي: اطلبوا من أنفسكم المذاكرة به، والمحافظة على قراءته، وهو عطف من حيث المعنى على قوله: «بئسما لأحدهم أن يقول»، أي: لا تُقَصِّروا في معاهدة القرآن، واسْتَذْكِرُوه. الكاشف عن حقائق السنن (5/1680).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «واسْتَذْكِرُوا القرآن» أي: واظِبُوا على تلاوته، واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به. فتح الباري (9/81).
قوله: «فَلَهُوَ أشد تَفَصِّيًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فَلَهُوَ» الفاء تعليلية، واللام ابتدائية، وهو مبتدأ خبره «أَشَدُّ». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/111-112).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
«فَلَهُوَ أشد تفصِّيًا» اللام لام جواب القسم المحذوف. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/591).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أشدُّ تفصِّيًا»... أي: انفصالًا وخروجًا...، وانتصابُه على التمييز نحو: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} الفرقان: 24. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (12/134).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «أشدُّ تفصِّيًا» يعني: ذهابًا وانفلاتًا، ويقال للرجل إذا تخلص من بليَّةٍ: قد تَفَصَّى منها، والاسم: الفصية. أعلام الحديث (3/1947).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أصل التَّفَصِّي: أن يكون الشيء في مَضِيْقٍ ثم يخرج إلى غيره. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/230).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«لَهُوَ أشد تفصِّيًا من الإبل في عُقُلِهَا» لأن من شأن الإبل تَطَلُّبَ التَّفلُّت ما أمكنها، فمتى لم يتعاهَدْهَا بِرِبَاطِها تفلَّتَتْ، فكذلك حافظ القرآن إن لم يتعاهده تفلَّتَ، بل هو أشد في ذلك. فتح الباري (9/81).
قوله: «من صدور الرجال»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«من صدور الرجال» متعلق بـ«تَفَصِّيًا» أي: أسرع خروجًا من قلوبهم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/230).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وتخصيص الرجال بالذِّكْرِ؛ لأن حِفْظَ القرآن من شأنهم. شرح المصابيح (3/ 48).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
فكذلك حافِظُ القرآن إذا لم يتعاهده تفلَّتَ، بل هو أشد (أي: مِن تَفَلُّتِ الإبل)؛ وإنما كان ذلك لأن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القُوَى والقُدَر جمع قُدْرة، وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة؛ لأنه حادث وهو قديم القول بأنَّ القرآن قديم لفظ مُجْمل يحتمل حق وباطل، والأسلم الاقتصار على الألفاظ الواردة عن السلف السالمة من الإجمال واحتمال المعاني الباطلة، لكن الله -سبحانه وتعالى- بلطفه العميم، وكرمه القديم مَنَّ عليهم ومَنَحَهُم هذه النعمة العظيمة، فينبغي أن يُتَعاهَد بالحفظ والمواظبة ما أمكن، فقد يَسَّره تعالى للذِّكْر، وإلا فالطاقة البشرية تعجز قُوَاها عن حفظه وحمله، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} القمر: 17، {الرَّحْمَن * عَلَّمَ الْقُرْآن} الرحمن: 1-2، {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} الحشر: 21 الآية. إرشاد الساري (7/474).
قوله: «من النَّعَم بعُقُلها»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«من النَّعَم» الجار والمجرور الأول متعلق بـ«أَسْرَع» وهو على حذف مضاف، أي: من تَفَصِّي النَّعَم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/230).
وقال المازري -رحمه الله-:
«النَّعَم» تُذَكَّر وتُؤَنَّث، وهي ههنا: الإبل خاصة. المعلم بفوائد مسلم (1/ 459).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
و«النَّعَم» -بفتحتين-: المال الراعي، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد: «النَّعَم» الجِمَال فقط. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/230).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وقوله «بعُقُلها» متعلِّق بالتَّفَصِّي المقدَّر، و(الباء) بمعنى (مِن) أي: لأن القرآن أكثر تَخَلُّصًا من صدور الحُفَّاظ من تَفَصِّي النَّعَم وتَخَلُّصِها من عُقُلها لتَشْرُد. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/112).
وقال النووي -رحمه الله-:
ووقع في هذه الروايات «بعُقُلها»، وفي الرواية الثانية «مِنْ عُقُلِهِ»، وفي الثالثة «في عُقُلِهَا»، وكله صحيح، والمراد برواية (الباء) (مِنْ)، كما في قول الله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الإنسان:6، على أحد القولين في معناها. شرح مسلم (6/ 77).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «مِنْ عُقُلِهِ» «من» على أصل ما يقتضيه اللفظ من أصل التعدي، فأما رواية مَن رواه: «بعُقُلها»، «وفي عُقُلِهَا»، و«مِن عُقُلِهَا» فعلى أن تكون الباء والفاء بمعنى (مِن)، أو يكون معناهما: المصاحبة والظرفية، ويعني به: تشبيه من يتفلَّت منه بعض القرآن بالناقة التي انْفَلَتَت من عِقَالها، وبقي متعلقًا بها -والله أعلم-. المفهم (2/420).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
خصّ الإبل بالذِّكر: لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورًا، وفي تحصيلها حيث كان نفورها صعوبة. تطريز رياض الصالحين (584).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الطيبي: ليس بين القرآن والناقة مناسبة؛ لأنه قديم وهي حادثة، لكن وقع التشبيه في المعنى. فتح الباري (9/83).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
والتحرير: أن التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة، فحامل القرآن شُبِّهَ بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالرَّبْط. فتح الباري (9/82-83).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
هذا التشبيه في غاية الدِّقة...، وهذا يجعل طالب العلم المعتني بكتاب الله -جلَّ وعلا- يهتم لهذا الأمر، فلا ينام عن القرآن، ولا يغفل عن القرآن؛ لأنه أَشد تفلُّتًا من الإبل في عُقُلِهَا. شرح الموطأ (39/29).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختَلف السلف في نسيان القرآن، فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفًا قال: "ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى:30، ونسيان القرآن من أعظم المصائب".
واحتجوا أيضًا: بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس مرفوعًا: «عُرِضَتْ عليَّ ذُنُوب أُمَّتي فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أُوْتِيَها رجل ثم نسيها»، في إسناده ضعف، وقد أخرج ابن أبي داود (عبد الله بن سليمان بن الأشعث) من وجه آخر مُرسَل نحوه، ولفظه: «أعظم من حامل القرآن وتاركه»، ومن طريق أبي العالية موقوفًا: «كنا نَعُدُّ من أعظم الذنوب أن يتعلَّم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه» وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه، ويقولون فيه قولًا شديدًا، ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعًا: «مَن قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم» وفي إسناده أيضًا مقال، وقد قال به من الشافعية أبو المكارم والروياني، واحتج بأن الإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن، ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به، والتهاون بأمره. فتح الباري (9/ 86).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
من جَمَع القرآن فقد عَلَتْ رتبته ومرتبته، وشَرُفَ في نفسه وقومه شرفًا عظيمًا، وكيف لا يكون ذلك ومَنْ حَفِظَ القرآن فكأنما أُدْرِجَت النبوة بين كتفيه؟! وقد صار ممن يقال فيه: هو من أهل الله وخاصته، وإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره، كما قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الأحزاب:30؛ لا سيما إذا كان ذلك الذنب مما يُحْبِطُ تلك المنزلة ويُسْقِطُها، كترك معاهدة القرآن المؤدِّي به إلى الرجوع إلى الجهالة. المفهم (2/419).
وقال أبو عبيد -رحمه الله-:
إنما هذا (أي: كون نسيان القرآن من أعظم المصائب) على الترك، فأما الذي هو دائبٌ في تلاوته، حريصٌ على حفظه، إلا أن النسيان يغلبه فليس من ذلك في شيء، ومما يحقق ذلك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كان ينسى الشيء من القرآن حتى يذكره. غريب الحديث (3/149).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الكلمة إذا كانت تحتمل معنيين: أحدهما يتضمن سوء أدب، فالأَوْلى أن يَعْدِل الإنسان عنها إلى كلمة لا تحتمل إلا معنى واحدًا خارجًا عما يُحْذَر، فإن قوله: «بئسما لأحدهم أن يقول: نَسِيْت»، فإنَّ «نَسِيْت» تكون بمعنى تَرَكْتُ، ولا ينبغي لأحد أن يقول: تَرَكْتُ آية كذا وكذا، فإذا قال: نُسِّيْتُ آية كذا وكذا خلص قوله من الاحتمال، ثم لما كان هذا يخلص منه أن يستذكر الإنسان القرآن بدراسته وتلاوته، عقَّبَه بذكر الحضِّ على الدراسة والتلاوة. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/65).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
القول بكون النسيان من الكبائر على إطلاقه غير صحيح؛ لأنه مما لا دليل عليه؛ إذ لا تصح الأحاديث فيه، ففي إسناد حديث أنس المذكور: عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وهو مختلَف فيه، والمطَّلب بن عبد الله بن حَنْطَب صدوق كثير التدليس والإرسال -كما قال في التقريب-، وقد عنعنه عن أنس، فالحديث ضعيف.
وأما حديث سعد بن عبادة: ففيه يزيد بن أبي زياد ضعيف، وعيسى بن أبي عيسى، قال ابن المديني: مجهول لم يروِ عنه غير يزيد بن أبي زياد، وقال ابن عبد البَرِّ: لم يسمع من سعد بن عبادة ولا أدركه.
وبالجملة فإن الأحاديث في هذا الباب لا تصح، وعلى تقدير صحتها تُحمل على من أعرض عن القرآن عملًا وتلاوة، فيكون معنى الحديث على معنى قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} طه:126.
وأما الذي يعمل بالقرآن وهو حافظ له، ثم عرض له مانعٌ يمنعه عن استذكاره، وشُغلٌ يشغله عن مراجعته حتى نسيه فليس داخلًا في الوعيد، بدليل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينسى بعض الآيات، فلو كان نسيانه معصية لما نسي -صلى الله عليه وسلم-.
والحاصل: أن نسيان القرآن بعد حفظه بعذر ليس بمعصية، فضلًا عن أن يكون من الكبائر.
وأما نسيانه بدون عذر فإنه من الكبائر؛ لأنه يدل على إعراضه عنه، وعدم مبالاته به، فيدخل تحت الوعيد المذكور في الآية المذكورة، هذا ما ظهر لي. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/242-243).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي هذه الأحاديث: الحض على محافظة القرآن؛ بدوام دراسته وتكرار تلاوته.
وضرب الأمثال لإيضاح المقاصد. فتح الباري (9/83).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
في هذا الحديث: الحضّ على دَرْسِ القرآن وتعاهده، والمواظبة على تلاوته، والتحذير من نسيانه بعد حفظه...
وفي حديث ابن مسعود هذا: كراهة قول الرجل: نَسِيْتُ، وإباحة قوله: أُنْسِيْتُ. الاستذكار (2/487- 488).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من فوائد الحديث: الحث على محافظة القرآن؛ بدوام دراسته، وتكرار تلاوته، والتحذير من تعريضه للنسيان.
وقد أقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- مبالغة في الحث على تعاهده، فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لَهُوَ أشدُّ تَفَصِّيًا من الإبل في عُقُلها»...
ومنها: بيان صعوبة القرآن على المتساهل في مراجعته، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} القمر:17؛ لأن تيسيره بالنسبة لمن أراد حفظه واجتهد فيه، وصعوبته بالنسبة لمن لم يتعاهده ولم يُجْهِد نفسه فيه.
ومنها: النهي عن قول الإنسان: نَسِيْتُ آية كذا وكذا، وإنما يقول: نُسِّيْتُها، وإنما نُهي عن الأول دون الثاني؛ لأنه يتضمن التساهل فيها، والتغافل عنها، وقد قال الله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} طه:126. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/236).