الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كانَ إذا ذَكَرَ أحدًا، فدعا له بدأَ بنفسِهِ».


رواه الترمذي، برقم: (3385)، واللفظ له. وأبو داود، برقم: (3984)، والنسائي في الكبرى، برقم: (11248)، من حديث أُبي بن كعب -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4723)، هداية الرواة برقم: (2198).


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كان إذا ذَكَرَ أحدًا فدعا له بَدَأَ بنفسه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«‌فَدَعَا له» عطْفٌ على «ذَكَرَ»، أي: فأراد أن يدعو له، «بدأ بنفسه» لأنه لا يستغني عن الله أحد، وورد في الصحيح: «ابدأ بنفسك».
وفيه: تعليم للأمة، وإيماء إلى أنه إذا قُبل دعاؤه لنفسه فلا يُرد دعاؤه لغيره. مرقاة المفاتيح (4/ 1537).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌فدعا له» بخير، «بدأ بنفسه» ثم ثنَّى بغيره، ثم عمَّم؛ اتباعًا لِمِلَّة أبيه إبراهيم، فتتأكد المحافظة على ذلك وعدم الغفلة عنه، وإذا كان لا أحد أعظم من الوالدين ولا أكبر حقًّا على المؤمن منهما، ومع ذلك قدَّم الدعاء للنفس عليهما في القرآن في غير موضع فغيرهما أَوْلَى. فيض القدير (5/ 134).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«فدعا له» عَطْفٌ على الشرط، وجوابُه «بَدَأَ» أي: إذا دعا لأحدٍ دعا أولًا لنفسه ثم دعا له، كما قالوا في تقديم: اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين. لمعات التنقيح(5/ 25).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفي هذِه الروايات: دليل على أدب من آداب الدعاء، وهو أن يبدأ الداعي في الدعاء بنفسه ووالديه وإخوانه المسلمين، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم -عليه السلام-: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 48، وروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن يسار قال: جلستُ إلى ابن عمر فذكرتُ رجلًا فترحَّمْتُ عليه، فضرب صدري وقال: "ابدأ بنفسك". شرح سنن أبي داود (16/ 120).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله (أي البخاري في ترجمة الباب): (ومَنْ خَصَّ أخاه بالدعاء دون نفسه) في هذه الترجمة إشارة إلى رد ما جاء عن ابن عمر: أخرج ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال: ذكرتُ رجلًا عند ابن عمر فترحَّمْتُ عليه، فَلَهَزَ في صدري وقال لي: "ابدأ بنفسك"، وعن إبراهيم النخعي: كان يقال: إذا دعوتَ فابدأ بنفسك؛ فإنك لا تدري في أي دعاء يُسْتَجَابُ لك، وأحاديث الباب تَرُدُّ على ذلك، ويؤيدها ما أخرجه مسلم وأبو داود من طريق طلحة بن عبد الله بن كُرَيز، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رفَعَه: «ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك مثل ذلك»، وأخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- رفَعَه: «خمس دعوات مستجابات...» وذكر فيها: «ودعوة الأخ لأخيه» وأخرجه أيضًا هكذا، استدل بهما ابن بطال، وفيه نظر؛ لأن الدعاء بظهر الغيب، ودعاء الأخ للأخ أعم من أن يكون الداعي خَصَّه أو ذَكَرَ نفسَه معه، وأَعَم مِن أن يكون بدأ به أو بدأ بنفسه.
وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أُبي بن كعب رفَعَه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه» وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر، ولفظه: «وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه»، ويؤيد هذا القيد: أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه، كقوله في قصة هاجر الماضية في المناقب: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عَينًّا مَعِيْنًا»، وقد تقدم حديث أبي هريرة: «اللهم أَيِّدْهُ بروحُ القُدُس» يريد حسان بن ثابت -رضي الله عنه-، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «اللهم فقِّهْهُ في الدِّين» وغير ذلك من الأمثلة، مع أن الذي جاء في حديث أُبي لم يَطَّرِدْ، فقد ثبت أنه دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه، كما مرَّ في المناقب من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد». فتح الباري (11/ 137).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- بعد أن ساق كلام ابن حجر السابق:
قلتُ: فظَهَرَ أنَّ بدْأَهُ -صلى الله عليه وسلم- بنفسه عند ذِكْرِ أحد والدعاء له لم يكن من عادته المستمرة. مرعاة المفاتيح (7/ 373).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فالبداية بنفسه في الدعاء للأنبياء أَغْلَبِيٌّ. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 35).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«كان ‌إذا ‌ذَكَرَ ‌أحدًا ‌فدعا له بدأ بنفسه» فالبداية بالنفس هَدْيُه في الدعاء للغير، سواء كان حاضرًا أو غائبًا، حيًا أو ميتًا، طلبه الدعاء أو دعا له ابتداءً من تلقاء نفسه. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 395).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وهو سُنة رسل الله -عليهم السلام-، قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} نوح: 28، وقال الخليل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} إبراهيم: 35؛ وذلك لأن تقديم الدعاء للنفس أَتَمُّ في إخلاص الدعاء، وأَدْخَلُ في العبودية، وأَظْهَرُ في الافتقار، وأَدْفَعُ للإعجاب إن طلب منه الدعاء. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 393).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
ووجهه حديث: «ابدأ بنفسك»: لأنَّ جَلْبَ الخير لنفس الإنسان، ودفع الضر عنها أهم من جَلْبِهِ لغيره. التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 34).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وفي سنن الترمذي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «كان إذا دعا لأحد بدأ بنفسه».
قلتُ: ويرشد إليه قول نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} نوح: 28، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الحشر: 10، ويدل حديث: «ابدأ بنفسك»؛ فإنه عام لكل شيء. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 388).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
قلتُ: ولعل وجْهَهُ (أي الحديث): أنَّ تَرْكَهُ لنفسه مع شدة الاحتياج يُوهِمُ الاستغناء، فلهذا يجتنب عنه. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (12/ 16).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
قوله: «بدأ بنفسه» لأن السؤال للغير وترك نفسه يُوهِمُ أن له غنىً عنه، ولأنه لو أُوْتِيَ له ما سأل أي: لو استُجيب دعاؤه فهو يكون قد أحرز نصيبًا منه. الكوكب الدري على جامع الترمذي (4/ 335).
وقال الكاندهلوي -رحمه الله-:
يعني: أنَّ الدعاء للغير من الأدعية المستجابة، فقد أخرج الطبري عن ابن عباس رفَعَه: «خمس دعوات مستجابات»، وذكر فيها: «دعوة الأخ لأخيه» كما حكاه الحافظ، فالمعنى: أنَّ الغير لو استُجيب في حقه دعاء هذا الداعي، فيكون هو أيضًا محرزًا لذلك؛ لتشريكه نفسَه في الدعاء، فإن الله -عز اسمه- أَكْرَمُ مِن أن يَقْبَلَ بعضًا ويترك بعضًا، وهذا أَوْجَهُ مما قاله القاري: فيه إيماء إلى أنه إذا قَبِلَ دعاءه لنفسه فلا يرد دعاءه لغيره. انتهى؛ وذلك لأن إجابة الدعاء في حق الغير أرجى من الإجابة لنفسه، كما يدل عليه الحديث المذكور، وما في معناه.
ويُشْكِلُ على الحديث ما في (المشكاة) برواية مسلم عن أبي الدرداء مرفوعًا: «دعوةُ المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابةٌ، عند رأسه ملك مُوَكَّل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكَّل به: آمين، ولك بمثل»، ويمكن الجواب عنه: أن دعوته لنفسه إذا انضمت بدعاء الملك تكون أرجى للقبول، ثم بداية نفسه في الدعاء للغير ليس بضروري، كما أشار إليه البخاري في صحيحه؛ إذ ترجم بقوله: (باب: قول الله -تبارك وتعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} التوبة: 103، ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه)، ثم ذكر الروايات المؤيدة لذلك. تحقيقه كتاب: الكوكب الدري على جامع الترمذي (4/ 335).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
وقد ترجم المصنف (البخاري) في (الدعوات): مَن خصَّ أخاه بالدعاء دون نفسه، وذكر فيه عدة أحاديث، وكأنه أشار إلى أنَّ هذه الزيادة وهي: «كان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه» لم تثبت عنده. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (4/ 99).
وقال القاضي عياض عن رواية: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى»:
فيه: جواز بداية الإنسان بنفسه في الأدعية وأشباهها، بخلاف ما يكون من أمور الدنيا، فإنَّ تأخير الإنسان فيه نفسه وتقديم اسم غيره أدب. إكمال المعلم (7/ 377).
وقال أبو العباس القرطبي عن رواية: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى»:
هذا إنما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأدعية وأشباهها، مما يعود عليه بالثواب والأجر الأخروي؛ حرصًا على تحصيل المنازل الرفيعة عند الله تعالى، كما قال في الوسيلة: «إنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو».
وحاصله: أنَّ القُرْب من الله تعالى وثوابَه ليس مما يُؤثَرُ الغير به، بل تنبغي المنافسة فيه، والمسابقة إليه، بخلاف أمور الدنيا وحظوظها، فإنَّ الفضل في تركها، وإيثار الغير بما يحوز منها. المفهم (6/ 206).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا