«كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم يَنْصَرف، فيقوم مُقابِل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيَعِظُهم ويُوصيهم ويَأمُرهم، فإن كان يريد أن يَقْطَعَ بَعثًا قَطَعَهُ، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة، في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا مِنْبَر بناه كَثِيْرُ بن الصَّلت، فإذا مروان يريد أن يَرْتَقِيَه قَبَل أن يصلي، فَجَبَذْتُ بثوبه، فَجَبَذَنِي، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غَيَّرتُم والله، فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم -والله- خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة».
رواه البخاري برقم: (956) واللفظ له، ومسلم برقم: (889)، من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-.
وزاد مسلم: «وكان يقول: تصدقوا تصدقوا تصدقوا، وكان أكثر من يتصدق النساء، ثم ينصرف، فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجتُ مُخَاصِرًا مروان».
وفي لفظ لمسلم برقم: (49): «أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرِكَ ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قَضَى ما عليه، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يَسْتَطعْ فبلسانه، فإن لم يَسْتَطعْ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وفي لفظ عند أحمد برقم: (11073)، وأبي داود برقم: (1140)، وابن ماجة برقم (4013): «يا مروان، خالفت السُّنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه...».
مختصر شرح الحديث
.
غريب الحديث
«فيعظهم»:
الوعظ: النصح والتذكير بالعواقب. مختار الصحاح، للرازي (ص: 342).
قال الزبيدي -رحمه الله-:
ذكره ما يُلين قلبه من الثواب والعقاب. تاج العروس (20/ 289).
«يقطع»:
القطع: التوزيع والتقسيم على القبائل. شرح المصابيح، لابن الملك (2/ 247).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: يفرد قومًا يبعثهم في الغزو، ويعينهم من غيرهم. النهاية (4/ 82).
«بعثًا»:
البعث: طائفة من الجُند يُبْعَثُون في سرية. الشافي في شرح مسند الشافعي، لابن الأثير (2/ 288).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
بعث: بعثه يبعثه بعثًا: أرسله وحده، وبعث به: أرسله مع غيره. وابتعثه أيضًا، أي: أرسله فانبعث... والبعث: الرسول، والجمع: بعثان، والبعث: بعث الجند إلى الغزو، والبعث: القوم المبعوثون المشخصون، ويقال: هم البعث بسكون العين. لسان العرب (2/ 116).
«يرتقيه»:
رقى إلى الشيء رقيًّا، ورَقَوا، وارتقى يَرْتَقِي وتَرَقَّى: صعد. لسان العرب، لابن منظور (14/ 331).
«فجبذت»:
الجذب: المد، جذب الشيء يجذبه جذبًا وجبذه، على القلب، واجتذبه: مده. لسان العرب، لابن منظور (1/ 258).
«مُخَاصِرًا»:
أي: مماشيًا له آخذًا بيده، وخَاصَرْتَهُ: ماشيته آخذًا يده في يدك أو يدك في يده. مطالع الأنوار، لابن قرقول (2/ 460).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
المُخَاصَرَة: أن يأخذ الرجل بيد آخر يتماشيان، فيد كل واحد منهما عند خصر صاحبه. كشف المشكل (3/ 152).
شرح الحديث
قوله: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يخرج» من بيته أو المسجد إلى المصلى. الكوكب الوهاج (10/ 398).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يخرج» أي: لصلاة العيد. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «يوم الفطر والأضحى» أي: يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى. مرعاة المفاتيح (5/ 22).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى» إنما كان يخرج لئلا يزدحم الناس؛ لصغر المسجد. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 72).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «كان يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى» حجة للبُرُوزِ للعيد في الصحراء، وهو سنة، والذي عليه عمل جماعة المسلمين، إلا لأهل مكة، فيصلي في المسجد، أو من عذر. إكمال المعلم (3/ 296).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إلى المصلى» هو موضع بالمدينة معروف بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة، عن أبي غسان الكناني صاحب مالك. فتح الباري (2/ 449).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«إلى المصلى» أي: في الصحراء، فصلاة العيدين فيه أفضل منها في المسجد إلا المسجد الحرام، وبيت المقدس، فهي فيهما عند الشافعي أفضل؛ لشرفهما واتساعهما. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 30-31).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
اعلم أن للنبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة مساجد: المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس وهو المعروف الآن، والثاني: مصلى الجنائز، والثالث: مصلى العيد، وهي معروفة في المدينة، فمصلى الجنائز كان يصلي على الجنائز غالبًا فيه، وربما يصلي على الجنازة في المسجد كما صلى على ابني بيضاء في المسجد، وأما مصلى العيد فهو خارج البلد، يخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- فيصلي فيه. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 404).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستُدِلَّ به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد؛ لمواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك مع فضل مسجده.
وقال الشافعي في الأم: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل البلدان إلا أهل مكة، ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة.
قال: فلو عُمِرَ بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أرَ أن يخرجوا منه، فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه، ولا إعادة، ومقتضى هذا: أن العلة تدور على الضيق والسعة لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى. فتح الباري (2/ 450).
وقال الشوكاني -رحمه الله- متعقبًا لابن حجر:
فيه: أن كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به -صلى الله عليه وسلم- في الخروج إلى الجَبَّانَة بعد الاعتراف بمواظبته -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة، فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجَبَّانَة لضيق أطراف مكة لا للسعة في مسجدها. نيل الأوطار (3/ 347-348).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
والراجح عندي: ما ذهب إليه الحنفية من أن الخروج إلى الصحراء أفضل، ولو كان مسجد البلد واسعًا؛ لأنه قد واظب النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخروج إلى الجَبَّانة وترك المسجد، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الأفضل مع قُرْبِه، ويتكلف فعل الناقص مع بُعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر...؛ ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومِصْر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه. مرعاة المفاتيح (5/ 23).
قوله: «فأول شيء يبدأ به الصلاة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فيبدأ بالصلاة» أي: قبل الخطبة. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«بالصلاة» أي: بصلاة العيدين. الكوكب الوهاج (10/ 398).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فأول شيء يبدأ به الصلاة» لأنها أهم، ولا يرد الجمعة؛ لأن الخطبتين بدل الركعتين. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 72).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فأول شيء يبدأ به الصلاة» يعني: ليس لصلاة العيد قبلها سنة، ولا بعدها. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 336).
قوله: «ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس» في رواية ابن حبان من طريق داود بن قيس عن عياض: «فينصرف إلى الناس قائمًا في مصلاه»، ولابن خزيمة في رواية مختصرة: «خطب يوم عيد على رجليه»، وهذا مشعر بأنه لم يكن بالمصلى في زمانه -صلى الله عليه وسلم- منبر، ويدل على ذلك قول أبي سعيد: «فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان»، ومقتضى ذلك أن أول من اتخذه مروان، وقد وقع في المدونة لمالك، ورواه عمر بن شبة، عن أبي غسان، عنه، قال: أول من خطب الناس في المصلى على المنبر عثمان بن عفان، كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، وهذا معضل، وما في الصحيحين أصح، فقد رواه مسلم من طريق داود بن قيس عن عياض نحو رواية البخاري.
ويحتمل: أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد، وإنما اختص كثير بن الصلت ببناء المنبر بالمصلى لأن داره كانت مجاورة للمصلى. فتح الباري (2/ 449).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
اعلم أن السنة أن يخرج الإمام بدون منبر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا كان يخرج، ولم يكن منبر بالمصلى أيضًا، نعم، يُعلم من الروايات أنه كان هناك موضع مرتفع يخطب عليه؛ لما في البخاري «ثم نزل»، ثم بناه كثير بن الصلت في عهد الخلفاء من لِبْنٍ وطين. فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 467).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«فيقوم مقابل الناس» أي: مواجهًا لهم. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 31).
قوله: «والناس جلوس على صفوفهم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: مستقبلي القبلة. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«على صفوفهم» أي: مستقبلين له (يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم-) على حالتهم التي كانوا في الصلاة عليها. مرعاة المفاتيح (5/ 23).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والناس على صفوف لا يقوم إليه أحد، ولا يجتمع إليه أحد؛ وذلك لئلا يحصل ضَجَّة أو تَشْوِيْشٌ أو زِحَام، يبقى الناس على أماكنهم ما يقربون إليه، ولكن الله -عزَّ وجلَّ- يجعل في صوته بركة فيسمعونه جميعًا. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 404).
قوله: «فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فيعظهم» أي: يذكرهم بالعواقب: بشارة مرة، ونذارة أخرى، وبالزهد في الدنيا، وبالرغبة في الأخرى، وبالوعد في الثواب، وبالوعيد في العقاب؛ لئلا يستلذَّهم فَرْطَ السرور في هذا اليوم، فيغفلوا عن الطاعة، ويقعوا في المعصية كما هو شأن غالب أهل الزمان الآن. مرقاة المفاتيح (3/ 1061).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فيعظهم» أي: ينذرهم ويخوفهم؛ لِيَتَّقُوا من عقاب الله. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1291).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ويُوْصِيْهِم» بالتخفيف ويشدد، أي: بالتقوى؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} النساء: 131، وهي كلمة جامعة كاملة، وبمراتب الكمال شاملة، أدناها التقوى عن الشرك بالمولى، وأوسطها امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، وأعلاها الحضور مع الله والغيبة عما سواه.
وقال ابن حجر: أي: يوصيهم بإدامة الطاعات، والتحرز عن السيئات، وبرعاية حقوق الله وحقوق عباده، ومنها النصح التام لكل مسلم. مرقاة المفاتيح (3/ 1061).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«ويوصيهم» في حق الغير؛ لينصحوا لهم، ويأمرهم بالحلال والحرام، وبالطاعة لله تعالى ولرسوله. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1291).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ويأمرهم» أي: بالمعروف. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 72).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ويأمرهم» أي: وينهاهم، يعني: بما يظهر له من الأمر والنهي المناسب للمقام، فيكون الاختصار على «يأمرهم» من باب الاكتفاء، والأظهر: أن المراد: يأمرهم بأحكام الفطرة في عيد الفطر، وبأحكام الأضحية في عيد الأضحى. مرقاة المفاتيح (3/ 1061).
قوله: «فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه»:
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«يريد أن يقطع بعثًا قطعه» أي: لو أراد في الخطبة أن يرسل جيشًا إلى موضع لأرسله، ولم تمنعه الخطبة عن ذلك، (و) هذا دليل على أن الكلام في أثناء الخطبة على الخطيب غير محرم. تحفة الأبرار (1/ 394).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فإن كان يريد أن يقطع بعثًا» أي: يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات. فتح الباري (2/ 450).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
البَعْثُ: الجيش الذي يُبْعَث إلى العدو. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 344).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
أي: لو أراد أن يفرِّق قومًا من غيرهم يبعثهم إلى الغزو لأفردهم وبعثهم. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 66).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«قطع» مَيَّزَهُ وأخرجه من القبائل، وكان يُعَيِّن السرايا ويقطعهم بالعيد؛ لاجتماع الناس هنالك. تحفة الأبرار (1/ 394).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«قطعه» أي: وزعه عن القبائل، فيقول: يخرج من بني فلان كذا، ومن بني فلان كذا. شرح المصابيح (2/ 247).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«قطعه» في الحرب واستعداد أوزارها. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1291).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وقطعهم: إفرادهم من العسكر الأعظم. الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 288).
قوله: «أو يأمر بشيء أمر به»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«أو يأمُرَ» بالنصب، أي: وإن كان يريد أن يأمر بشيء لأمره به، وليس تكرارًا للأمر السابق؛ لأن المراد من الأخير الأمر بما يتعلق بالبعث. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 66).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بشيء» أي: من أمور الناس ومصالحهم، فيكون من باب التأكيد، أو التخصيص لبعض الناس، أو لبعض الأمور الخاصة، ويكون الأمر الأول من الأمور العامة أو من أمر الحرب. مرقاة المفاتيح (3/ 1061).
قوله: «ثم ينصرف»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«ثم ينصرف» أي: يرجع إلى بيته. شرح المصابيح (2/ 248).
قوله: «قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «على ذلك» أي: على الابتداء بالصلاة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 66).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«حتى خرجتُ مع مروان، وهو أمير المدينة» من قبل معاوية. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 72).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
في قوله: «فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان» دلالة على أن أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة مروان. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (8/ 84).
قوله: «في أضحى أو فطر»:
قال المظهري -رحمه الله-:
(أو) ها هنا للشك، يعني: شكَّ الراوي أن رسول الله -عليه السلام- خرج في عيد الأضحى أو في عيد الفطر. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 98).
قوله: «فلما أتينا المصلى إذا مِنبرٌ بناه كثير بن الصلت»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
وبنيان كثير بن الصلت للمنبر يدل على أنه كان يخطب قبل ذلك للعيد على غير منبر، وهو ما بوب له البخاري، وقد جاء في حديث جابر...: «لما فرغ نبي الله نزل فأتى النساء» يدل على أنه كان على مرتفع، وكذا قوله في الحديث: «فيقوم مقابل الناس»، وعن بعضهم: لا بأس بإخراج المنبر، وعن بعضهم: كره بنيانه في الجَبَّانة، ويخطب قائمًا أو على دابته. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (8/ 86).
وقال العيني -رحمه الله-:
كثير بن الصلت بن معدي كرب الكندي أخو زبيد، ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن كثير بن الصلت كان اسمه: قليلًا، فسماه النبي كثيرًا، الأصح: أن الذي سماه كثيرًا عمر -رضي الله تعالى عنه-. عمدة القاري (6/ 279).
قوله: «فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فإذا مروان يريد أن يرتقيه» أي: يريد صعود المنبر، فـ«أن» مصدرية. إرشاد الساري (2/ 210).
قوله: «فجبذت بثوبه، فجبذني»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فجَبَذْتُه بثوبه» أي: ليبدأ بالصلاة قبل الخطبة على العادة. فتح الباري (2/ 450).
قوله: «فارتفع فخطب قبل الصلاة»:
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
هذا من أخطاء مروان، أما المنبر فقد جاء عن ابن عباس ما يدل على جوازه، فيقصد محلًا مرتفعًا يخطب عليه، ومروان اجتهد وخالف السُّنة. الحلل الإبريزية (1/٢٨٨).
قوله: «فقلت له: غيَّرتم والله»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «غيَّرتم» الخطاب لمروان وأصحابه، أي: غيَّرتم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه، فإنهم كانوا يقدمون الصلاة على الخطبة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 66).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فقلت له: غيَّرتُم والله» صريح في أن أبا سعيد هو الذي أنكر، ووقع عند مسلم من طريق طارق بن شهاب قال: «أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه» وهذا ظاهر في أنه غير أبي سعيد، وكذا في رواية رجاء عن أبي سعيد...، فيحتمل: أن يكون هو أبا مسعود الذي وقع في رواية عبد الرزاق أنه كان معهما.
ويحتمل: أن تكون القصة تعددت، ويدل على ذلك المغايرة الواقعة بين روايتي عياض ورجاء، ففي رواية عياض أن المنبر بُنِيَ بالمصلى، وفي رواية رجاء: أن مروان أخرج المنبر معه، فلعل مروان لما أنكروا عليه إخراج المنبر ترك إخراجه بعد، وأمر ببنائه من لِبْنٍ وطين بالمصلى، ولا بُعْدَ في أن ينكر عليه تقديم الخطبة على الصلاة مرة بعد أخرى، ويدل على التغاير أيضًا أن إنكار أبي سعيد وقع بينه وبينه، وإنكار الآخر وقع على رؤوس الناس. فتح الباري (2/ 450).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
اختُلِف في أول من غَيَّر ذلك (يعني: فبدأ بالصلاة قبل الخطبة)، فرواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد عند مسلم صريحة في أنه مروان...، وقيل: بل سبقه إلى ذلك عثمان، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس، ثم خطبهم -يعني: على العادة- فرأى ناسًا لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك -أي: صار يخطب قبل الصلاة-، وهذه العلة غير التي اعتل بها مروان؛ لأن عثمان رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب، والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، ويحتمل: أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانًا بخلاف مروان فواظب عليه؛ فلذلك نُسِبَ إليه، وقد روي عن عمر مثل فعل عثمان، قال عياض ومن تبعه: لا يصح عنه، وفيما قالوه نظر؛ لأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعًا عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، وهذا إسناد صحيح؛ لكن يعارضه حديث ابن عباس المذكور في الباب الذي بعده، وكذا حديث ابن عمر، فإن جُمِع بوقوع ذلك منه نادرًا، وإلا فما في الصحيحين أصح، وقد أخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عباس، وزاد حتى قدم معاوية فقدَّم الخطبة، فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعًا لمعاوية؛ لأنه كان أمير المدينة من جهته. فتح الباري (2/ 451).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتُ: كيف جاز لمروان تغيير السنة؟
قلتُ: تقديم الصلاة في العيد ليس واجبًا فجاز تركه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 67).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وفي هذا من الفقه: أنه يحدث للناس أمورًا بقدر الاجتهاد إذا كان صلاحًا لهم، والأصل في ذلك: أن النبي -عليه السلام- خطب قبل الجمعة، فترك عثمان وغيره الصلاة حتى خطبوا لِعِلَّة أوجبت ذلك من افتراق الناس؛ لسنته -عليه السلام- في تقديمه الخطبة في الجمعة، فليس بتغيير، وإنما ترك فعل بفعل، ولم يترك لغير فعل الرسول، وإنما كانت الخطبة في الجمعة قبل الصلاة؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} الجمعة: 10، فعلم الرسول من هذه الآية أن ليس بعد صلاة الجمعة جلوس لخطبة ولا لغيرها. شرح صحيح البخاري (2/ 555).
قوله: «فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم»:
قال ابن الجوزي –رحمه الله:
أَي: ترك اتِّبَاع السّنة. كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 152).
قوله: «فقلت: ما أعلم -والله- خير مما لا أعلم»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «ما أعلم» أي: الذي أعلمه خير؛ لأنه هو طريق الرسول، فكيف غيره خيرًا منه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 66-67).
قوله: «فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة» المراد بالجلوس لسماعها، وهو مأمور به لمن شهد الصلاة مطلقًا، وعدم الجلوس؛ لأنه كان يؤذي في خطبه من لا يحل أذاه، فينصرف الناس لئلا يسمعوا ذلك فيه، ولعل أبا سعيد لما ذكر له مروان عُذْرَه بَيَّن له وجهه؛ ولذلك اتصل العمل به دون إنكار من جمهور الناس، حتى قال عطاء: لا أدري من أحدثه، ولا ينبغي أن يؤمر لصلاة من يؤذي من لا يحل له أذاه في خُطْبَتِه، فمن قدر أن يأتي بعد الخطبة للصلاة فحسن، قاله ابن التين. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (8/ 85-86).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قيل: إنما تركوا الجلوس لهم لأنهم كانوا يذكرون عليًا بما لا يليق به، ويعرضون ببعض الحاضرين. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 73).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها» أي: الخطبة قبل الصلاة، وهذا يشعر بأن مروان فعل ذلك باجتهاد منه. فتح الباري (2/ 450).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: هذا صريح في أن المقاولة جرت بين أبي سعيد وبين مروان، ورواية مسلم: أنه قال رجل، ولما سمع أبو سعيد مقالة مروان ولم يرضه قال: «أما هذا فقد قضى ما عليه» يريد: الأمر بالمعروف.
قلتُ: لم يبعد أن يكون قد وقع من رجل آخر ما وقع من أبي سعيد، فاستحسنه أبو سعيد. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 72).
قوله: «فجعلتها قبل الصلاة»:
قال الدماميني -رحمه الله-:
«فجعلتها قبل الصلاة» كأن مروان حمل تقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة على الخطبة على الأولوية، وحمله أبو سعيد على التعيين والشرطية، واعتل مروان في ترك الأولى بتغير حال الناس، وأنهم لا يثبتون إن هو أخرها، فرأى أن المحافظة على أصل السنة أولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها. مصابيح الجامع (3/ 16).
قوله: «وكان يقول: تصدقوا تصدقوا تصدقوا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«تصدقوا تصدقوا» أي: اصْرِفُوا أيها الناس من أموالكم في سبيل الخير وإلى المحاويج. مرشد ذوي الحجا (8/ 93).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«يقول: تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا» أي: بالتكرار تأكيدًا لشأن الصدقة. البحر المحيط الثجاج (17/ 451).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا» التثليث للتأكيد، اعتناء بأمر الصدقة؛ لعموم نفعها، وشرح النفوس بها، أو باعتبار النبي في حذائه (يعني: أمامه) ويمينه وشماله، أو إشارة إلى الأحوال الثلاث، أي: تصدقوا لدنياكم، تصدقوا لموتاكم، وتصدقوا لأخراكم، أو الأمر الأول للزكاة، والثاني للفطرة، والثالث للصدقة. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «فيقول: تصدقوا تصدقوا» وفيه: أنه ينبغي الإكثار في الخيرات في اليوم العظيم لا الاشتغال بمجرد اللعب. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 389).
قوله: «وكان أكثرَ من يتصدق النساءُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وكان أكثر من يتصدق النساء» أكثر النسخ على رفع «أكثر»، ونصب «النساء»؛ وذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يبالغ في حثِّهنَّ أكثر، ويُعلَّل ذلك بأنه رآهنَّ أكثر أهل النار؛ لكفرانهن العشير، ولحبهِنَّ زينة الدنيا. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وكان أكثر من يتصدق النساء» حيث يؤكد عليهنَّ الحثّ على الصدقة، فيقول: «يا معشر النساء، تصدقن، فإني رأيتُكُنَّ أكثر أهل النار». البحر المحيط الثجاج (17/ 451).
قوله: «ثم ينصرف»:
قال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ثم» بعد فراغه من الخطبة «ينصرف» النبي -صلى الله عليه وسلم-. الكوكب الوهاج (10/ 399).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ثم ينصرف» أي: يرجع إلى بيته. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
قوله: «فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم»:
قال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلم يزل» الأمر، أي: أمر العيد كائنًا «كذلك» من تقديم الصلاة على الخطبة. الكوكب الوهاج (10/ 399).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كذلك» أي: مثل ذلك، وعلى ذلك المنوال من تقديم الصلاة على الخطبة، والخطبة بالقيام على الأرض دون المنبر. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «كان مروان»، «كان» تامة، والمضاف محذوف، يعني: حدث في عهده أو إمارته. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1299).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«حتى كان مروان بن الحكم» أي: أميرًا على المدينة من قبل معاوية. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 112).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مروان بن الحكم» ولد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة اثنين من الهجرة، وقيل: عام الخندق، وقيل: غير ذلك، ولم يرَ النبي -صلى الله عليه وسلم-. مرقاة المفاتيح (3/ 1075).
قوله: «فخرجت مخاصرًا مروان»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فخرجت» أي: لصلاة العيد. مرقاة المفاتيح (3/ 1076).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«فخرجت مُخَاصِرًا مروان» أي: ماشاه ويده في يده، فقال في هذا: خَاصَرَنِي. إكمال المعلم (3/ 296).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
والمخاصرة: أن يأخذ رجل بيد رجل يتماشيان فيقع يد كل واحد منهما عند خاصرة صاحبه، عبارة عن شدة التصاقهما في المشي. مرعاة المفاتيح (5/ 67).
قوله: «أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«بدأ بالخطبة» (أل) في الخطبة للعهد، أي: خطبة العيد، وكذلك (أل) في الصلاة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 182).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة: مروان» هذا أصح ما روي في أول من قدم الخطبة على الصلاة. المفهم (1/ 231).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
والذي ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وقد عدَّه بعضهم إجماعًا -يعني: والله أعلم- بعد الخلاف، أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول، قال مالك: وهي السنة، قال أشهب: إن بدأ بالخطبة أعادها بعد الصلاة. إكمال المعلم (1/ 288).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا: دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان، وأن ما حكي عن عمر وعثمان ومعاوية لا يصح -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (2/ 21).
قوله: «فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فقام إليه رجل» ثم قال بعد، فقال أبو سعيد: «أما هذا فقد قضى ما عليه» يدل أن الرجل غير أبي سعيد، وجاء في الحديث الآخر: أن أبا سعيد هو الذي جَبَذَ بيد مروان إذ رآه يصعد المنبر، وكانا جاءَا معًا، فرد عليه مروان بمثل ما قال هذا الرجل، فيحتمل: أنهما حديثان، جرى أحدهما لأبي سعيد، والآخر لغيره بحضرته. إكمال المعلم (1/ 288-289).
وقال النووي -رحمه الله-:
قد يقال: كيف تأخر أبو سعيد -رضي الله عنه- عن إنكار هذا المنكر حتى سبقه إليه هذا الرجل؟
وجوابه: أنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرًا أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة، فأنكر عليه الرجل، ثم دخل أبو سعيد، وهما في الكلام.
ويحتمل: أن أبا سعيد كان حاضرًا من الأول، ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة بسبب إنكاره، فسقط عنه الإنكار، ولم يخف ذلك الرجل شيئًا لاعتضاده بظهور عشيرته أو غير ذلك، أو أنه خاف وخاطر بنفسه، وذلك جائز في مثل هذا بل مستحب.
ويحتمل: أن أبا سعيد هَمَّ بالإنكار فبَدَرَهُ الرجل فعضده أبو سعيد -والله أعلم-.
ثم إنه جاء في الحديث الآخر الذي اتفق البخاري ومسلم -رضي الله عنهما- على إخراجه في باب صلاة العيد: أن أبا سعيد هو الذي جَذَبَ بيد مروان حين رآه يصعد المنبر، وكانا جاءَا معًا، فرد عليه مروان بمثل ما رد هنا على الرجل، فيحتمل أنهما قضيتان: إحداهما: لأبي سعيد، والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (2/ 22).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وجه التلفيق (يعني: الجمع) بينهما: أن يقال: إن كل واحد من الرجل وأبي سعيد أنكر على مروان؛ فرأى بعض الرواة إنكار الرجل، ورأى بعضهم إنكار أبي سعيد، وقيل: هما واقعتان في وقتين، وفيه بُعْدٌ. المفهم (1/ 232).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا للقرطبي:
هذا الذي استبعده القرطبي من حمله على تعدد الواقعة، قد قوَّاه الحافظ في الفتح، وذكر أيضًا أن يكون الرجل هو أبا مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-؛ لأنه كان حاضرًا تلك الواقعة، كما بيَّنه عبد الرزاق في روايته.
والحاصل: أن الحمل على تعدد الواقعة أقرب الاحتمالات -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (2/ 201).
قوله: «فقال: الصلاة قبل الخطبة»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقال» الرجل منكرًا على مروان في تغييره السنة: «الصلاة قبل الخطبة» أي: أن السنة أن تقدم صلاة العيد على خُطْبَته؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك. البحر المحيط الثجاج (2/ 201).
قوله: «فقال: قد تُرِك ما هنالك»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقال» أي: مروان ردًّا على الرجل «قد تُرِك» بالبناء للمفعول «ما» موصولة، أي: استقر «هنالك» في ذلك الزمان من تقديم الصلاة على الخطبة. البحر المحيط الثجاج (2/ 201).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
أي: تركنا العمل بتقديم الصلاة على الخطبة الذي كان هنالك في الزمن الماضي. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 182).
قوله: «فقال أبو سعيد: أمَّا هذا فقد قضى ما عليه»:
قال موسى شاهين -رحمه الله-:
«أما هذا» المشار إليه هو الرجل الذي نبه مروان إلى جعل الصلاة قبل الخطبة، و«أما» حرف شرط وتفصيل، والمعنى: مهما يكن من شيء فهذا الرجل قد أدى واجبه وما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ترك تكرار «أما» استغناء بالكلام الذي ذُكِرَ بعدها وهو موضع القسم الثاني، والتقدير: وأما أنا فأنكر كما أنكر. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 182).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «قضى ما عليه» يعني: أدَّى ما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. المنهل العذب المورود (6/ 315).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فقد قضى ما عليه» أي: من وجوب الإنكار الدال عليه الأمر في الحديث الذي رواه أبو سعيد من وجوب التعبير بأحد الجارحتين، فعبر باللسان كأنه لعدم الاستطاعة على التغيير باليد. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 328).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فقد قضى ما عليه» بمحضر ذلك الجمع، دليل على استقرار السنة عندهم على خلاف ما فعل مروان، وتبينه احتجاجه بقوله: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم مُنْكرًا فليغيره» الحديث، ولا يسمى مُنكرًا ويعتقده هو ومن حضر إلا ما استمر به عمل أو مضت به سنة. إكمال المعلم (1/ 289).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه: أدل دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل، وأن ما روي فيه عمن ذكرناه لا يصح، إذ لا ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يحمل الناس على اجتهاده ومذهبه، وإنما يغير منه ما اجتمع على إنكاره وإحداثه. إكمال المعلم (1/ 289).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: لمَ لمْ ينكر الصحابة على عمر وعثمان، كما أنكروا على مروان؟
قلتُ: عدم النقل إلينا لا يدل على عدم وقوع الإنكار، ثم فرق بين الأمرين، فإن عثمان كان له عذر بالعلة، وعمر قدمها ليدرك بَعِيْدُ الدار عن المصلى الصلاة، ثم إنهما كانا يَخْطُبَان بما لا ذنب في سماعه، ولا إثم في إيقاعه، ومروان يخطب بسب أمير المؤمنين، ورأس المجاهدين، وأخي الرسول الأمين الذي لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق بالنص الثابت عن ختام رسل الله أجمعين.
ومن هنا: يظهر لك وجه في أن الإنكار في تقدم الخطبة إنما هو إنكار لما فيها من القبائح، لكنه وجَّه الإنكار إلى تقديمها؛ لأنه لا يمكنه إنكار ما فيها من القبائح صريحًا، فلا يتوجه السؤال بأنهم لمْ ينكروا على الشيخين؛ لأن غاية ما فعلاه تقديم الخطبة الشرعية التي على الطريقة النبوية، وتقديمها ليس بمنكر؛ لأن الذي وقع منه تأخيرها فعلًا، ولم يأتِ أمر منه بوجوب التأخير غايته: أنه أولى للتأسي، وفهم الشيخان جواز تقديمها، والعذر صحيح لا كعذر مروان أنه كان لا يقعد له ليملأ أسماعهم بسبِّ من يجب على كل مؤمن محبته، وموالاته، والترضي عنه والترحم، فتأمل فإنه وجه لا يحمله عليه إلا نبيه. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 330).
قوله: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول»:
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «سمعت رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- يقول» أتى به تأييدًا لقوله: «أما هذا فقد قضى ما عليه». المنهل العذب المورود (6/ 316).
قوله: «من رأى منكم منكرًا»:
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
لفظ «من» لعمومه، شمل كل أحد رجلًا أو امرأة، عبدًا أو فاسقًا أو صبيًا مميزًا إذا كان، وإن كان يستقبح ذلك في الفاسق، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} البقرة: 44. مرقاة المفاتيح (8/ 3209).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
قوله: «رأى» يحتمل أنه من رأي العين، ثم يقاس عليه ما علمه ولم يره فيجب تغييره مع القدرة؛ لأن المقصود: دفع مفسدة المنكر، ولا فرق بين ما أبصره، أو علمه ولم يره.
ويحتمل: أن رأى من رؤية القلب، أي: من علم منكم منكرًا فليغيره، فهو أعم مما أبصره أو علمه، وهو أشبه في النظر، وإن كان لفظ: "رأى" ظاهرًا في الإبصار. التعيين في شرح الأربعين (1/ 287).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا» يدل على أن الإنكار متعلق بالرؤية، فإن كان مستورًا فلم يره، ولكن علم به فالمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات أنه لا يتعرض له، وأنه لا يفتش عما استراب به، وعنه: رواية أخرى أنه يكشف المغطى إذا تحققه، ولو سمع صوت غناء محرم، أو آلات الملاهي، وعلم المكان الذي هي فيه فإنه ينكرها؛ لأنه قد تحقق المنكر، وعلم موضعه، فهو كما رآه، نص عليه أحمد، وقال: أما إذا لم يعلم مكانه، فلا شيء.
وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر، فقد أنكره مثل سفيان الثوري وغيره، وهو داخل في التجسس المنهي عنه، وقد قيل لابن مسعود: إن فلانًا تقطر لحيته خمرا؟ فقال: نهانا الله عن التجسس. جامع العلوم والحكم (3/ 960).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«منكم» معشر المسلمين المكلفين القادرين، فالخطاب لجميع الأمة حاضرها بالمشافهة، وغائبها بطريق التَّبع، أو لأن حكمه على الواحد حكمه على الجماعة. فيض القدير (6/ 130).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفي الإتيان بـ: "من" التبعيضية إشعار بأنه من فروض الكفاية، وإيماء إلى أنه لا يباشره إلا من يعرف مراتب الإحسان وتفاوت المنكرات، ويميز بين المتفق عليه والمختلف فيه منها، وهذا المعنى مقتبس من قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران: 104. مرقاة المفاتيح (8/ 3208).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «منكرًا» أدخل هذا الفعل (يعني: تقديم الخطبة على الصلاة) تحت عموم: «من رأى منكم منكرًا» وسماه منكرًا؛ لأنه خلاف السنة، وهو دليل (على) أن كل ما خالف السنة فعلًا أو قولًا فهو منكر؛ لأنه بدعة، وأنه لا اعتداد بخلاف من يخالف السنة ولو باجتهاد كما وقع لعمر وعثمان، فإنهما لا يخالفانها إلا لاجتهاد عندهما، وهذا يقوِّي ما قدمناه لك في حديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي» في أن المراد من سنتهم هي: ما بقوا عليه من التمسك بسنته -صلى الله عليه وسلم-، لا أن لهم سنَّة يشرعونها ويتبعون عليها إذا أريد ذلك لما خالفهم الصحابة ما خالفوا السنة النبوية بدعة ومنكرًا، ولومهم هذا أخذ من الحديث لبادر مروان إلى الرد على من نهاه. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 329).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«منكرًا» أي: شيئًا قبَّحه الشرع فعلًا، أو قولًا، ولو صغيرة. فيض القدير (6/ 130).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «منكرًا» المنكر: هو ما نهى الله عنه ورسوله؛ لأنه ينكر على فاعله أن يفعله. شرح الأربعين النووية (ص: 333).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
المنكر: هو المحرم الواضح البيِّن الذي قد عُلِمَ تحريمه، فإن تغييره مطلوب. شرح الأربعين النووية (30/ 2).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
قوله: «من رأى منكم منكرًا» عام في الأشخاص، مخصوص بما لا تكليف عليه كالصبي والمجنون، أو لا قدرة له على الإنكار كالعاجز عنه، فلا يجب على هؤلاء.
وربما قيل: إن الخطاب بقوله: «من رأى منكم» للمكلفين القادرين، فلا تخصيص إذ لم يتناول غير المكلف وغير القادر حتى يُخَصَّا منه. التعيين في شرح الأربعين (1/ 289-290).
قوله: «فليغيره»:
قال الصرصري -رحمه الله-:
قوله: «فليغيره» أي: يزيله ويبَدِّله بغيره، وغير المنكر هو المعروف، وهو ما عرفه الشرع وأجازه من واجب أو مندوب أو مباح، ولا واسطة بينهما على هذا، أعني: تفسير المعروف والمنكر، مما يجوز وبما لا يجوز، وربما أريد بالمعروف الطاعة، وبالمنكر المعصية، فعلى هذا: ثبتت الواسطة بينهما، وهو المباح إذ ليس بطاعة ولا معصية. التعيين في شرح الأربعين (1/ 288).
وقال النووي -رحمه الله-:
أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فليغيره» فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة. شرح صحيح مسلم (2/ 22).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«فليغيره» يعني: يسعى في تغييره، وإن لم يتغير؛ لأنه مطالب ببذل السبب، والنتيجة بيد الله -جلَّ وعلا-، تغيَّر أو ما تغيَّر؛ ليس إليك. شرح الأربعين النووية (14/ 11).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
«فليغيره» تغيير المنكر يكون بأحد أمرين: إما بإزالته، وإما باستبداله بمعروف. شرح الأربعين النووية (57/ 11).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فليغيره بيده» إذا كان مما يحتاج في تغييره إلى اليد، مثل كسر أواني الخمر، وآلات اللهو كالمزامير، والأوتار، والطبل، وكمنع الظالم من الضرب، والقتل، وغير ذلك. البحر المحيط الثجاج (2/ 202).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هل قوله: «فليغيره بيده» على إطلاقه، بمعنى: أنه مع القدرة يغير على كل حال؟
الجواب: لا، إذا خاف في ذلك فتنة فلا يغير؛ لأن المفاسد يُدْرَأ أعلاها بأدناها، كما لو كان يرى منكرًا يحصل من بعض الأمراء، ويعلم أنه لو غير بيده استطاع، لكنه يحصل بذلك فتنة: إما عليه هو، وإما على أهله، وإما على قرنائه ممن يشاركونه في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهنا نقول: إذا خفت فتنة فلا تغير؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الأنعام: 108 شرح الأربعين النووية (ص: 335-336).
قوله: «بيده»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«بيده» لأنها أبلغ في تغييره. شرح الأربعين النووية (ص: 178).
وقال ابن رجب -رحمه الله- بعد ذكر جملة من الأحاديث في تغيير المنكر:
دلت هذه الأحاديث كلها: على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه. جامع العلوم والحكم (3/ 950).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فليغيره بيده» أصل في هذا الباب، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا خلاف في ذلك إلا ممن لا يُعتَدُّ بخلافه من الرافضة، ووجوبه شرعًا لا عقلًا خلافًا للمعتزلة. إكمال المعلم (1/ 289).
وقال أبو المعالي الجويني -رحمه الله-:
ولا يُكْتَرث بقول من قال من الروافض: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موقوفان على ظهور الإمام، فقد أجمع المسلمون قبل أن ينبغ هؤلاء على التواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوبيخ تاركه مع الاقتدار عليه. الإرشاد إلى قواطع الأدلة (ص: 387).
قوله: «فإن لم يستطع فبلسانه»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فإن لم يستطع» أن يغيره بيده «فبلسانه» أي: فلينكره بلسانه. بذل المجهود (5/ 216).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فإن لم يستطع فبلسانه» أي: إن لم يستطع تغييره بيده، فلينكره بلسانه، بأن يقول ما يُرْتَجَى نفعه؛ من لين، أو إغلاظ، حسبما يكون أنفع، فقد يبلغ بالرفق والسياسة ما لا يبلغ بالسيف والرياسة. البحر المحيط الثجاج (2/ 202).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإن لم يستطيع» الإنكار بيده بأن ظن لحوق ضرر به لكون فاعله أقوى منه (فـ) الواجب تغييره «بلسانه» أي: بالقول كاستغاثة أو تَوبِيْخ، أو تَذْكِير بالله، أو إغلاظ بشرط أن لا يغلب ظنّ أن النهي يزيد عنادًا، أو أن لا يعلم عادة أنه لا يؤثر على ما عليه الأكثر. فيض القدير (6/ 130).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «بلسانه» هل نقيس الكتابة على القول؟
الجواب: نعم، فيُغَيَّر( ) المنكر باللسان، ويُغَيَّر( ) بالكتابة، بأن يكتُب في الصحف أو يؤلِّف كتبًا يبين المنكر. شرح الأربعين النووية (ص:334).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفي حد الاستطاعة التي يتعرض لها الحديث بقوله: «فإن لم يستطع» خلاف بين العلماء؛ فمنهم من يذهب إلى وجوب تحمل الأذى في سبيل الأمر بالمعروف إلا أن يصل إلى الخوف على النفس، بل منهم من يرى الإنكار بكل حال، وإن قُتِلَ ونِيْلَ منه كل أذى، وبعضهم يرى أن خوف المكروه يحقق عدم الاستطاعة.
والتحقيق: أن الأمر يختلف باختلاف نوع الأذى، ومدى احتماله، ونوع المنكر، ومدى خطورته، والأثر الحسن أو القبيح المترتب على هذا الإنكار. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 184).
قوله: «فإن لم يستطع فبقلبه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فإن لم يستطع» ذلك بلسانه لوجود مانع كخوف فتنة، أو خوف على نفس، أو عضو أو مال محترم، أو شَهْرِ سلاح «فبقلبه» ينكره وجوبًا بأن يكرهه به، ويعزم أنه لو قدر بقول أو فِعْل فَعَلَ، وهذا واجب عينًا على كل أحد بخلاف الذي قبله، فأفاد الخبر وجوب تغيير المنكر بكل طريق ممكن، فلا يكفي الوعظ لمن يمكنه إزالته بيده، ولا القلب لمن يمكنه باللسان. فيض القدير (6/ 130).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أما التغيير بالقلب، فإنما هو كراهة المنكر، واعتقاد قُبْحِه، وإثم من فعله، فليس فيه تغيير، كما في اليد واللسان، وإنما سماه تغييرًا من باب التغليب. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 328).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فبقلبه» أي: فلينكر بقلبه، أي: يكرهُهُ ويبغضُهُ، ويتمنى أن لم يكن. شرح الأربعين النووية (ص: 334).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «فبقلبه» أي: فلينكره بقلبه، أو فليكرهه بقلبه، وليس المراد: فليغيره بلسانه أو بقلبه، أما في القلب فظاهر، وأما في اللسان فلأن المفروض أنه لا يستطيع أن يغير باليد، فكيف يغيره باللسان؟!، إلا أن يقال: قد يمكن التغيير بطيب الكلام مع عدم استطاعة التغيير باليد، لكن ذاك نادر قليل جدًّا، وليس الكلام فيه. فتح الودود (1/ 654).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فمن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه، كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال. جامع العلوم والحكم (3/ 951).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإن قال قائل: هل يكفي في إنكار القلب أن يجلس الإنسان إلى أهل المنكر ويقول: أنا كاره بقلبي؟
فالجواب: لا؛ لأنه لو صدق أنه كاره بقلبه ما بقي معهم ولفارقهم؛ إلا إذا أكرهوه، فحينئذٍ يكون معذورًا. شرح الأربعين النووية (ص: 336).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لا يشترط في المنكر: كونه مطاعًا نافذ الأمر كما مر، فإذا لم يمتثل المخاطب فلا لوم على المنكر؛ لأنه أدى ما عليه، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}. شرح الأربعين النووية (ص: 187).
قوله: «وذلك أضعف الإيمان»:
قال موسى شاهين -رحمه الله-:
«وذلك أضعف الإيمان» الإشارة إلى التغيير بالقلب. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 183).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وذلك أضعف الإيمان» معناه -والله أعلم-: أقلُّه ثمرة. شرح صحيح مسلم (2/ 24).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذه آخر خصلة من الخصال المتعينة على المؤمن في تغيير المنكر، وهي المعبَّر عنها في الحديث بأنها أضعف الإيمان، أي: خصال الإيمان، ولم يبقَ بعدها للمؤمن مرتبة أخرى في تغيير المنكر؛ ولذلك قال في الرواية الأخرى: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»، أي: لم يبقَ وراء هذه المرتبة رتبة أخرى، والإيمان في هذا الحديث بمعنى: الإسلام. المفهم (1/ 234).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قال الأُبِّي: يعني: أضعف خصاله الراجعة إلى كيفية التغيير، لا خصاله مطلقًا؛ لأنه قد تقدم أن أضعفها إماطة الأذى، وقد يعني أضعفها مطلقًا، ويجمع بين الحديثين بأن يكون إماطة الأذى والتغيير بالقلب متساويين في أنه لا أضعف منهما، وكان التغيير بالقلب أضعفها؛ لأنه ليس بعده مرتبة أخرى للتغيير كما مرَّ. ا. هـ. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/ 404).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «وذلك أضعف الإيمان» أي: الإنكار بالقلب فقط أضعف في نفسه، ولا يكتفي به إلا من لا يستطيع غيره، نعم، إذا اكتفى به من لا يستطيع غيره فليس من الأضعف، فإنه لا يستطيع غيره، والتكليف بالوسع.
قيل: في الحديث إشكال؛ لأنه يدل على ذم فاعل الإنكار بالقلب فقط، وأيضًا يعظم إيمان الشخص وهو لا يستطيع التغيير باليد، ولا يلزم من عجزه عن التغيير باليد ضعف الإيمان، فكيف جعله -صلى الله عليه وسلم- أضعف الإيمان؟
أجاب الشيخ عز الدين بن عبد السلام: بأن المراد بالإيمان ها هنا: الأعمال مجازًا، أو هو على حذف المضاف، أي: أضعف خصال الإيمان في باب النهي عن المنكر، ولا شك أن التقرب بالكراهة ليس بالإنكار، ولم يذكره -صلى الله عليه وسلم- في معرض الذم، وإنما ذكره ليعلم المكلف مقارنة ما حصل في هذا القسم فيترقى إلى غيره. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 386-387).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وهذا يدلنا على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، ففيهم الذي يكون إيمانه ضعيفًا، وفيهم الذي يكون إيمانه قويًا، والناس ليسوا في الإيمان على حدٍّ سواء. شرح سنن أبي داود (142/ 13).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وقيل: معناه: وذلك أضعف زمن الإيمان، إذ لو كان إيمان أهل زمانه قويًّا لقدر على الإنكار القولي أو الفعلي، وَلَمَا احتاج إلى الاقتصار على الإنكار القلبي، أو ذلك الشخص المنكر بالقلب فقط أضعف أهل الإيمان، فإنه لو كان قويًّا صلبًا في الدين لما اكتفى به، ويؤيده الحديث المشهور: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». مرقاة المفاتيح (8/ 3208).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فتبين بهذا: أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال، وأما الإنكار باليد واللسان، فبحسب القدرة. جامع العلوم والحكم (3/ 952).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فمن غيَّر المراتب مع القُدرة كان عاصيًا، ومن تركها بلا قدرة أو يرى المفسدة أكثر ويكون مُنْكِرًا بقلبه، فهو من المؤمنين. مرقاة المفاتيح (8/ 3208).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
فإن قيل: إذا رضي بالمنكر بقلبه ولم يكره، هل يكفر بذلك أم لا؟
قلنا: إن رضيه معتقدًا جوازه فهذا تضمن تكذيب الشرع في تحريمه وهو كفر، وإن رضي به لغلبة الهوى والشهوة مع اعتقاده تحريمه فهو فسق لا كفر. التعيين في شرح الأربعين (1/ 291).
وقال السندي -رحمه الله-:
وفي زماننا هذا ذهبت الغَيْرَة لله من قلوب العباد، وصار المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، من كان باكيًا فلْيَبْكِ على هذه المصيبة. شرح السندي للأربعين النووية (ص: 37).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
اعلم أن هذا الحديث يصلح أن يكون نصف الشريعة؛ لأن أعمال الشريعة إما معروف يجب الأمر به، أو منكر يجب النهي عنه، فهو نصف بهذا الاعتبار. التعيين في شرح الأربعين (1/ 292).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
اعلم أنه إذا كان المنكر حرامًا وجب الزجر عنه، وإذا كان مكروهًا ندب، والأمر بالمعروف أيضًا تبع لما يؤمر به، فإن وجب فواجب، وإن نُدِبَ فمندوب، ولم يتعرض له في الحديث؛ لأن النهي عن المنكر شامل له، إذ النهي عن الشيء أمر بضدِّهِ، وضد المنهي إما واجب أو مندوب أو مباح، والكل معروف، وشرطهما أن لا يؤدي إلى الفتنة، كما علم من الحديث، وأن يظن قبوله، فإن ظن أنه لا يقبل فيستحسن إظهار شعار الإسلام. مرقاة المفاتيح (8/ 3209).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الحديث أصل في صفة تغيير المنكر، وعَلَمٌ على العِلْمِ في عَمَلِهِ، فمن حق المغير أولًا أن يكون عالِمًا بما يغيرِّه، عارفًا بالمنكر من غيره، فقيهًا بصفة التغيير ودرجاته، فيغيره بكل وجه أمكنه زواله به، وغلبت على ظنه منفعة تغييره بمنزعه ذلك من فعل أو قول، فيكسر آلات الباطل، ويُرِيْقُ ظروف المسكر بنفسه، أو يأمر بقوله من يتولى ذلك، وينزع المغصوب من أيدي المعتدين بيده، أو يأمر بأخذها منهم، ويمكن منها أربابها، كل هذا إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، أو ذي العزة الظالم المخوف شَرُّه، إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، وامتثال أمره، وأسمع لوعظه وتخويفه، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الفضل والصلاح؛ لهذا المعنى، ويغلظ على المغتر منهم في غَيِّه، والمسرف في بَطَالَتِه، إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرًا أشد مما غيَّرَه، أو كان جانبه محميًا عن سَطْوَة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرًا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسببه كفَّ يده، واقتصر على القول باللسان، والوعظ والتخويف، فإن خاف -أيضًا- أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه، وكان في سَعَة، وهذا هو المراد بالحديث -إن شاء الله-، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان، ما لم يؤدِّ ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر، إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه.
هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافًا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قتل ونيل منه كل أذى. إكمال المعلم (1/ 290).
وقال النووي -رحمه الله-:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أَثِمَ كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أولًا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف.
قال العلماء -رضي الله عنهم-: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه: الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله -عز وجل-: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} المائدة:99، ومثَّل العلماء هذا بمن يرى إنسانًا في الحمام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك -والله أعلم-.
قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلًا ما يأمر به، مجتنبًا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مُخِلًّا بما يأمر به، والنهي وإن كان مُتلبِّسَا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر.
قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين.
قال إمام الحرمين: والدليل عليه: إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية -والله أعلم-.
ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالِمًا بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها- فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال، ومما يتعلق بالاجتهاد؛ لم يكن للعوامِّ مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر. شرح صحيح مسلم (2/ 23).
وقال الصرصري -رحمه الله-:
وظاهر الحديث: أن من علم منكرًا فعليه تغييره على التفصيل المذكور، ولا يتوقف ذلك على إذن الإمام؛ لقوله: «فليغيره بيده» وهو مخصوص بما إذا خاف من ترك إذن الإمام مفسدة راجحة أو مساوية من انحراف ولي الأمر عليه، أو تعلقه عليه بأنه افتأت عليه ونحوه، فيجب حينئذٍ استئذان من ولي الأمر في الإنكار دفعًا للمفسدة المذكورة. التعيين في شرح الأربعين (1/ 289).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وليس من حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتجسس للبحث عن المنكرات وتتبعها، فإن كل من ستر معصيته في داره، وأغلق عليه بابه لا يجوز أن يتجسس عليه؛ لأن الله نهى عن التجسس. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 187).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفيه من الفقه: أن سنن الإسلام لا يجوز تغيير شيء منها ولا من ترتيبها، وأن تغيير ذلك منكر يجب تغييره، ولو على الملوك إذا قَدَر على ذلك، ولم يدعُ إلى منكر أكبر من ذلك.
وعلى الجملة: فإذا تحقَّق المنكر وجب تغييره على من رآه، وكان قادرًا على تغييره، وذلك كالمحدثات والبدع، والمجمع على أنه منكر، فأما إن لم يكن كذلك، وكان مما قد صار إليه الإمام، وله وجه ما من الشرع، فلا يجوز لمن رأى خلاف ذلك أن ينكر على الإمام؛ وهذا لا يختلف فيه. المفهم (1/ 232).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «منكرًا» لا بد أن يكون منكرًا واضحًا يتفق عليه الجميع، أي: الْمُنْكِر والْمُنْكَر عليه، أو يكون مخالفة الْمُنْكَر عليه مبنية على قول ضعيف لا وجه له، أما إذا كان من مسائل الاجتهاد فإنه لا ينكره. شرح الأربعين النووية (ص: 334).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما صفة النهي ومراتبه: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الصحيح: «فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»؛ فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فبقلبه» معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه. شرح صحيح مسلم (2/ 24).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قال بعض الأعيان: وينبغي للآمر بالمعروف: أن يقصد به وجه الله، وإعزاز الدين؛ لينصره الله تعالى، فإنه بذلك القصد لا يخيب. شرح الأربعين النووية (ص: 186).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
واختلف العلماء فيمن قلَّده السلطان الحِسْبَة في ذلك، هل يحمل الناس على رأيه ومذهبه إن كان من أهل الاجتهاد، أم لا يغير على غيره ما خالف مذهبه؟ على قولين. إكمال المعلم (1/ 289).
وقال النووي -رحمه الله-:
الأصح: أنه (أي: المحتسب) لا يغير؛ لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم -رضي الله عنهم أجمعين-، ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جليًّا -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (2/ 24).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أمور؛ منها:
1 - أن يكون رفيقًا في دعوته؛ ليكون أدعى إلى القبول.
2 - أن يكون مُسِرًّا بإنكاره، فقد قال الشافعي: من وعظ أخاه سرًّا نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشَانَه.
3 - ألا يسرف في الكلام والوعظ؛ لئلا ينفر المرتكب.
4 - أن يكون حليمًا صبورًا يتحمل جهل الجاهل وسفهه.
5 - أن يكون على جانب طيب من حسن الخلق، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم -باختصار- (1/ 188).
وقال النووي -رحمه الله-:
اعلم أن هذا الباب -أعني: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قد ضُيِّعَ أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبقَ منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قِوَام الأمر ومَلَاكُه، وإذا كثر الخبث عمَّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور: 63، فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله -عزَّ وجلَّ- أن يعتني بهذا الباب، فإنَّ نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويُخْلِص نيته ولا يَهَابَنَّ من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} الحج: 40...
واعلم أن الأجر على قدر النَّصب، ولا يتاركه أيضًا لصداقته ومودته ومُدَاهَنَتِهِ، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقًّا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارِّها....
ومما يتساهل أكثر الناس فيه من هذا الباب: ما إذا رأى إنسانًا يبيع متاعًا معيبًا أو نحوه، فإنهم لا يُنْكِرُون ذلك، ولا يعرفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر، وقد نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع، وأن يُعلم المشتري به -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم (2/ 24).
وقال المغربي -رحمه الله-:
فيه: دلالة على شرعية الخروج إلى المصلى، والمتبادر منه هو الخروج إلى موضع آخر غير مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو كذلك. البدر التمام (4/ 29).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: دليل على مشروعية خطبة العيد، وأنها كخطب الجُمَعِ أمر ووعظ، وليس فيها أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما، ولعله لم يثبت ذلك من فعله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما صنعه الناس قياسًا على الجمعة. سبل السلام (1/ 432).
وقال العيني -رحمه الله-:
فيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب في المصلى في العيدين وهو واقف، ولم يكن على المنبر، ولم يكن في المصلى في زمانه منبر.
وفيه: إخراج المنبر إلى المصلى في الأعياد؛ قياسًا على البناء، وعن بعضهم: لا بأس بإخراج المنبر، وعن بعضهم: كره بنيانه في الجَبَّانة، ويخطب قائمًا أو على دابَّتِه، وعن أشهب: إخراج المنبر إلى العيدين واسع، وعن مالك: لا يخرج فيهما مَنْ شأنه أن يخطب إلى جانبه، وإنما يخطب على المنبر الخلفاء.
وفيه: أن المنبر لم يكن قبل بناء كثير بن الصلت.
وفيه: وعظ الإمام في صلاة العيد ووصيته وتخويفه عن عواقب الأمور. عمدة القاري، باختصار (6/ 280-281).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه هنا من الفوائد: أنه كان يخطب قائمًا على غير منبر، وهو دليل الترجمة، وهو من باب التواضع للرب -جل جلاله-؛ ولأنه كان في فضاء، ولا يغيب عن أحد منهم النظر إليه، فلما كثر الناس زمن عثمان -رضي الله عنه- خشي أن لا يسمع أقصاهم فبُنِيَ له منبر من طين، قيل: بناه كثير بن الصلت. وقيل: إنما بناه مروان، وفي المدونة: أنه بناه عثمان أيضًا، وهو أول من أحدثه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (8/ 83).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
وفيه (يعني: الحديث): وعظ الإمام في العيد، ووصيته وأمره، وعلى ذلك شأن الأئمة.
وفيه أيضًا: جذب ثياب الإمام ليرجع للصواب.
وفيه: حلف الواعظ والمحدث على تصديق حديثه.
وفيه: أن الزمان تغير في زمن مروان عما كان عليه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح، باختصار (8/ 87-88).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وفي الحديث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المنكَرُ عليه واليًا.
وفيه: أن الإنكار يكون تأكيدًا لمن أمكنه، ولا يكفي اللسان.
وفيه: صحة الصلاة بعد الخطبة، واتفق أصحابنا على صحتها؛ لكنه يكون تاركًا للسنة بخلاف خطبة الجمعة، فإنه يجب تقديمها، وإلا لم تصح الجمعة، وفرقوا بينهما من وجهين:
الأول: إنها واجبة، فلو أخّرت ربما انتشروا؛ فيقدح في الصلاة، وخطبة العيد غير واجبة، فلو انتشروا لم يقدح.
والثاني: أن الجمعة لا تؤدى إلا بجماعة، فقدمت الخطبة ليتلاحق الناس، وصلاة العيد تؤدى بغير الجماعة، واستدل بعضهم على وجوب تقديمها في الجمعة بقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} الجمعة: 10، لما يعلم منه أنه ليس بعد صلاتها جلوس لا للخطبة ولا لغيرها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 67).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفوائد: بنيان المنبر، قال الزين ابن المنير: وإنما اختاروا أن يكون باللبن لا من الخشب؛ لكونه يترك بالصحراء في غير حرز؛ فيؤمن عليه النقل بخلاف خشب منبر الجامع.
وفيه: أن الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلى يكون بمكان فيه فضاء، فيتمكن من رؤيته كل من حضر بخلاف المسجد، فإنه يكون في مكان محصور، فقد لا يراه بعضهم.
وفيه: إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة.
وفيه: حلف العالم على صدق ما يُخبر به، والمباحثة في الأحكام، وجواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى؛ لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به على أن البداءة بالصلاة فيها ليس بشرط في صحتها -والله أعلم-. فتح الباري (2/ 450).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وفيه: فضل التمسك بالسنة، وجواز الخطبة بدون المنبر، واستحباب الخروج إلى المصلى. والحديث حجة على الشافعي في قوله: المسجد أولى، وعند الإمام أحمد يكره في المساجد إلا لعذر. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 73).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه: استحباب الوعظ والتوصية في خطبة العيد.
والحديث فيه: مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد إن استطاع ذلك، وإلا فباللسان وإلا فبالقلب، وليس وراء ذلك من الإيمان شيء.
الحديث فيه: تقديم صلاة العيد على الخطبة، وترك الأذان والإقامة لصلاة العيد.
وفيه: استحباب الوعظ والتذكير في خطبة العيد، واستحباب وعظ النساء وتذكيرهن وحثِّهِنَّ على الصدقة إذا لم يترتب على ذلك مفسدة وخوف فتنة على الواعظ أو الموعوظ أو غيرهما.
وفيه أيضًا: تمييز مجلس النساء إذا حضرْن مجامع الرجال؛ لأن الاختلاط ربما كان سببًا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره. نيل الأوطار، باختصار (3/ 360-362).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ويستفاد من هذا الحديث: أنه لا يشرع المنبر في صلاة العيد...؛ لأنه قال: «ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس»، ولو كان ثمَّة منبر لقال: ثم يصعد المنبر فيقابل الناس. فتح ذي الجلال والإكرام، باختصار (2/ 405).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده: المباحثة والمجادلة في الأحكام الشرعية؛ للوصول إلى ما هو الصواب. البحر المحيط الثجاج، باختصار (17/ 457).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
من فوائد هذا الحديث:
1- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولى جميع الأمة إذا رأت منكرًا أن تغيره، ولا يحتاج أن نقول: لا بد أن يكون عنده وظيفة، فإذا قال أحد: من الذي أمرك أو ولَّاك؟ يقول له: النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله: «من رأى منكم».
2- أنه لا يجوز إنكار المنكر حتى يتيقن المنكر، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن يتيقن أنه منكر.
والوجه الثاني: أن يتيقن أنه منكر في حق الفاعل؛ لأن الشيء قد يكون منكرًا في حد ذاته، لكنه ليس منكرًا بالنسبة للفاعل.
مثال ذلك: الأكل والشرب في رمضان، الأصل أنه منكر، لكن قد لا يكون منكرًا في حق رجل بعينه، كأن يكون مريضًا يحل له الفطر، أو يكون مسافرًا يحل له الفطر.
3- أنه لا بد أن يكون المنكر منكرًا لدى الجميع، فإن كان من الأمور الخلافية فإنه لا ينكر على من يرى أنه ليس بمنكر، إلا إذا كان الخلاف ضعيفًا لا قيمة له، فإنه ينكر على الفاعل.
4- أنه ليس في الدين من حرج، وأن الوجوب مشروط بالاستطاعة؛ لقوله: «فإن لم يستطع فبلسانه»، وهذه قاعدة عامة في الشريعة، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16.
5- أن الإنسان إذا لم يستطع أن يغير باليد ولا باللسان فليغير بالقلب، وذلك بكراهة المنكر، وعزيمته على أنه متى قدر على إنكاره بلسانه أو يده فعل.
6- أن للقلب عملًا؛ لقوله: «فإن لم يستطع فبقلبه» عطفًا على قوله: «فليغيره بيده» وهو كذلك، فالقلب له قول وله عمل، قوله عقيدته، وعمله حركته بنية أو رجاء أو خوف أو غير ذلك.
7- أن الإيمان عمل ونية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل هذه المراتب من الإيمان، والتغيير باليد عمل، وباللسان عمل، وبالقلب نية، وهو كذلك، فالإيمان يشمل جميع الأعمال، وليس خاصًا بالعقيدة فقط. شرح الأربعين النووية، باختصار (ص:334-338).