الإثنين 19 جمادى الأولى 1447 | 2025-11-10

A a

«قَدِمَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه، فقال المشركونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عليكم وفدٌ وهَنَهم حُمَّى يَثْرِبَ، فأَمَرَهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يرمُلُوا الأشواطَ الثلاثةَ، وأن يمشوا ما بينَ الركنينِ، ولم يمنعْهُ أن يأمرَهم أن يرمُلُوا الأشواطَ كلَّها إلا الإبقاءُ عليهم».


رواه البخاري برقم: (1602) واللفظ له، ومسلم برقم: (1266)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وفي رواية لمسلم برقم: (1266): «إنَّه يَقْدَمُ عليكم غَدًا قَوْمٌ قَدْ...».
وفي لفظ للبخاري برقم: (649) ومسلم برقم: (1266): «إنَّما سَعَى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ورَمَلَ بالبيتِ لِيُريَ المشركينَ قُوَّتَه»


مختصر شرح الحديث


.


غريب الحديث


«يَقْدَمُ»:
بفتح الدال، مضارع (قدِم) بكسرها، أي: يَرد (من سفر). إرشاد الساري، القسطلاني (3/ 165).
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
(يَقْدَمُ) بفتح الدال، وأما يَقْدُمُ بضمها، كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هود: 98، فمعناه: يتقدَّمهم. شرح سنن أبي داود (8/ 519).

«وَفْدٌ»:
بسكون الفاء، أي: قومٌ. التوشيح، للسيوطي (6/ 2640).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وَفْدٌ» أي: قومٌ وزْنًا ومعنًى. فتح الباري (7/ 509).
وقال العيني -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قوله: «وفدٌ» بفتح الواو، وسكون الفاء، أي: قومٌ، ووقع في رواية ابن السكن: «وقد» بالقاف، فالواو للعطف «وقد» بفتح القاف، وسكون الدال للتحقيق، وقال بعضهم (ابن حجر): إنه خطأ، ولم يبين وجه الخطأ: هل هو من حيث الرواية أو من حيث المعنى؟ ولا خطأ أصلًا من حيث المعنى، فإنْ قال: الخطأ من حيث الرواية، فعليه البيان. عمدة القاري (17/ 266).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: الخطأ فيه من جهة ذكر الفاعل. انتقاض الاعتراض (2/ 331).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «وَقَدْ وهَنَتْهُمْ حُمَّى يثربَ» كذا لابن السَّكَن، وللكافة: «وَفْدٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يثربَ» وهو الصواب. مطالع الأنوار (6/ 232).

«وَهَنَهم»:
أي: أضعفتهم. النهاية، لابن الأثير (5/ 234).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«وهَنتهم» بتخفيف الهاء وتشديدها: أضعفتهم. التوشيح (6/ 2640).

«يرمُلُوا»:
(بضم الميم، أي: يُهرولوا ويُسرعوا) وأصل الرَّمل: أنْ يُحَرِّكَ الماشي مَنْكِبَيْه في مَشْيه. فتح الباري، لابن حجر (3/ 470).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
يُقال: رَمَلَ يَرْمُلُ رَمَلًا ورَمَلَانًا: إذا أَسْرَع في المشي، وهزّ منكبيه. النهاية في غريب الحديث(2/ 265).


شرح الحديث


قوله: «قَدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «‌قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه» أي: مكة؛ لأجل عمرة القضاء. عمدة القاري (17/ 266).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «‌قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة» أي: لعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة. منة المنعم (2/ 288).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قيل: إنَّ هذا القدوم لم يكن في الحجَّة، وإنَّما كان في عمرة القضاء، فأُخذ من هذا: أنَّه نُسِخَ منه: عدم الرمل فيما بين الركنين، فإنه ثبت: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رَمَلَ من الحَجَر إلى الحَجَر»، وذكر: أنه كان في الحج فيكون متأخرًا، فيُقدَّم على المتقدِّم. إحكام الأحكام (2/ 70- 71).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
اعْلَمْ أنَّ قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا وأصحابه كان في عُمرة القضاء، سنة سبع قبل فتح مكة، وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم، وإنما رَمَلوا إظهارًا للقوة، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الركنين اليمانيين؛ لأن المشركين كانوا جلوسًا في الحِجْر لا يرونهم بين هذين الركنين، ويرونهم فيما سوى ذلك، فلما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع سنة عشر رَمَلَ من الحَجَر إلى الحَجَر، وذلك متأخر، فوجب الأخذ به، ونَسخ ترك الرمل، وتبين بذلك أن المشي بين الركنين اليمانيين في الأشواط الثلاثة منسوخ، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 1001).

قوله: «فقال المشركونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عليكم وفدٌ وهَنَهم حُمَّى يَثْرِبَ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فقال المشركون» من قريش وغيرهم «إنه يقدَم» بفتح الدال، وأما يقدُم بضمها، كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هود: 98، فمعناه: يتقدمهم «قوم وهنتهم الحمى» أي: أضعفتهم. شرح سنن أبي داود (8/ 519).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال المشركون» بعضهم لبعض: «إنه» أي: إن الشأن والحال «يقدَم» أي: يأتي «عليكم» يا أهل مكة «غدًا قوم قد وهنتهم» أي: أضعفتهم «الحمى» أي: ‌حُمى ‌يثرب. الكوكب الوهاج (14/ 206).
وقال العيني -رحمه الله-:
في لفظ مسلم: «فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمَّى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا» وفي لفظ للبخاري: «والمشركون من جبل قعيقعان» وفي لفظ لمسلم: «وكانوا يحسدونه» وفي لفظ: «وكان أهل مكة قومًا حسّدًا» وفي رواية الإسماعيلي: «يقدَم عليكم قوم عراة، فَأَطْلَعَ الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على ما قالوا، فأمرهم أن يرملوا، وأن يمشوا» وفي رواية ابن ماجه: «قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه حين أرادوا دخول مكة في عمرته بعد الحديبية: إن قومكم غدًا سيرونكم، فلْيَرونكم جُلْدًا، فلما دخلوا المسجد الحرام استلموا الركن، ورملوا وهو معهم» وللطبراني عن عطاء عن ابن عباس قال: «مَن شاء فليرمل، ومَن شاء فلا يرمل، إنما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرَّمل ليرى المشركون قوَّته» وفي رواية الطبراني في تهذيبه: «لما اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَلَغَه أنّ أهل مكة يقولون: إنّ بأصحابه هزالًا، فقال لهم حين ‌قدم: شدُّوا مآزركم وأعضادكم، وارملوا حتى يقول قومكم: إنَّ بكم قوة» قال: ثم حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يرمل، قالوا: وإنما رمل في عمرة العقبة، وفي إسناده حجاج بن أرطاة، وفي رواية أبي داود: «أنه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه اعتمروا من جعرانة، يعني: في عمرة القضاء، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قدموها على عواتقهم اليسرى» وفي لفظ: «كانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا، ثم إذا اطلعوا عليهم يرملون، تقول قريش: كأنهم الغزلان». عمدة القاري (9/ 248).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «وهنتهم الحمى» أي: أضعفتهم وأَرَّقَتهم. إكمال المعلم (4/ 342).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«‌حمى ‌يثرب» أي: حمى المدينة، ويثرب كان اسم المدينة في الجاهلية، وكانت مِن أَوْبَأ أرض الله، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بنقل حُمَّاها إلى الجحفة فنُقلت، ولكن بقيت منها بقية بقدر ما يكون في المدن. منة المنعم (2/ 288).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وأما «يثرب»: فهو الاسم الذي كان للمدينة في الجاهلية، وسميت في الإسلام: المدينة وطيبة وطابة، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} التوبة: 120، {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} التوبة: 101، {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} المنافقون: 8، وقد كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسميتها يثرب في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وفي صحيح مسلم: «يقولون: يثرب، وهي المدينة» يعني: إن بعض المنافقين وغيرهم يسميها يثرب، قال عيسى بن دينار: مَن سماها يثرب كُتبت عليه خطيئة، وسبب الكراهة: أن يثرب مأخوذ من التثريب، وهو التوبيخ والملامة.
وسميت طابة وطيبة من الطِّيب؛ لحسن لفظهما، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم القبيح، وتسميتها في القرآن يثرب، حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض. العدة في شرح العمدة (2/ 1002).

قوله: «فأمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يرمُلُوا الأشواطَ الثلاثةَ، وأن يمشوا ما بينَ الركنينِ»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن يَرْمُلُوا» بضم الميم مضارع رَمَلَ بفتحها، «الأشواط الثلاثة»؛ ليرى المشركون قوَّتهم بهذا الفعل؛ لأنه أقطع في تكذيبهم، وأبلغ في نكايتهم؛ ولذا قالوا كما في مسلم: «هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا»... «و» أمرهم -عليه الصلاة والسلام- «أن يمشوا ما بين الركنين اليمانيين» حيث لا يراهم المشركون؛ لأنهم كانوا مما يلي الحِجْر من قبل قعيقعان، وهذا منسوخ بما يأتي إن شاء الله تعالى. إرشاد الساري (3/ 165).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
الرَّمَل: هو إسراع المشي مع تقارب الخُطا، (وليس) معنى الرمل (أن) يثب وثوبًا...، ثم اعلم أنّ الرمل من الألفاظ المشتركة أيضًا يقع على جنس من العَرُوض (أي: عروض الشِّعْر) وهو القصير منها، وعلى القليل من المطر، وعلى خطوط تكون في قوائم البقر الوحشية يخالف سائر لونها... «الأشواط» هي الطوافات راملًا، وأصل الشوط في الأصل الطلق، يقال: عدا شوطًا أي: طلَقًا بفتح اللام، والمراد به هنا: الطواف بالبيت من الحَجَر إلى الحَجَر، ويسمى الطواف كله والطوفة الواحدة دورًا. الإعلام (6/ 205- 206).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثة أشواط»: كذا جاء هنا، وقد تقدَّم قول مَن كره أن يقال: أشواط وأدوار إلا أطوافًا، كما جاء في أكثر الأحاديث، وهذا من قول ابن عباس يدل على جوازه، ولعله إنما كره إيثارًا ليُقال ما سماه الله به من قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الحج: 29. إكمال المعلم (4/ 342).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «وأن يمشوا ما بين الركنين» إلى اليمانيين، وسببه عدم رؤية المشركين للمسلمين إذ ذاك؛ إذ العلة إنما كانت إظهار الجَلَد وإنكار المشركين فيما ادَّعَوْهُ من ضعفهم. الإعلام (6/ 205- 206).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وأن يمشوا» على هينتهم، فإن التأني في المشي أولى من الإسراع، «بين الركنين اليمانيين» يعني: الركن اليماني والحجر الأسود، قيل: إنما كان -صلى الله عليه وسلم- يمشي بين اليمانيين ليَهُون عليه استلام الحجر. شرح سنن أبي داود (8/ 520- 521).

قوله: «ولم يمنعْهُ أن يأمرَهم أن يرمُلُوا الأشواطَ كلَّها إلا الإبقاءُ عليهم»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
أي: لم يمنعه -عليه الصلاة والسلام- أن يأمرهم بالرَّمَل في الطوفات كلها «إلا الإبقاء عليهم» بكسر الهمزة، وسكون الموحدة، وبالقاف ممدودًا مصدر أبقى عليه إذا رفق به، وهو مرفوع فاعل «لم يمنعه»، لكن الإبقاء لا يناسب أن يكون هو الذي منعه من ذلك، الإبقاء معناه: الرفق كما في الصحاح، فلا بد من تأويله بإرادة ونحوها، أي: لم يمنعه من الأمر بالرمل في الأربعة إلا إرادته -عليه الصلاة والسلام- الإبقاء عليهم، فلم يأمرهم به، وهم لا يفعلون شيئًا إلا بأمره. إرشاد الساري (3/ 165).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«الإبقاء»... الرفق والشفقة، أي: لم يمنعه من أمرهم بالرمل في الكل إلا الرفق بهم. اللامع الصبيح (6/ 71).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فلم يمنعه أنْ يأمرهم أنْ يرملوا الأشواط إلا الإبقاء عليهم» روايتنا: الإبقاء بالرفع، على أنه فاعل «يمنعهم»، ويجوز نصبه على أن يكون مفعولًا من أجله، ويكون في «يمنعهم» ضمير عائد على النبي -صلى الله عليه وسلم- هو فاعله، فتأمله. المفهم (3/ 376).
وقال العيني -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: الصحيح أنه مرفوع على أنه فاعل «لم يمنعه»، والمعنى: لم يمنع النبي -عليه السلام- أن يأمرهم بأن يرملوا -أي: بالرمل في الأشواط الأربعة- إلا ‌الإبقاء ‌عليهم. نخب الأفكار (9/ 365).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا عليهما:
قوله (أي: القرطبي): ضمير عائد على النبي -صلى الله عليه وسلم-... إلخ، لا يخفى فساد هذا، فليس هنا ضمير يكون فاعلًا عائدًا عليه -صلى الله عليه وسلم-، بل الضمير البارز المفعول هو العائد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذا قول العيني بعد أن اعترض هذا الوجه: إن الفاعل هو قوله: «أن يأمرهم» باطل أيضًا، وعندي أن في صحة النصب في «الإبقاء» نظر، والظاهر أنه لا يصح؛ لأن القرطبي قال: روايتنا بالرفع، فإذا لم يصح رواية فلا وجه لهذه التكلفات العاطلة، بل الباطلة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (23/ 460).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قلتُ: تجويز النصب مبني على أن يكون في لفظ الحديث الواقع في البخاري «لم يمنعهم» وليس كذلك، إنما فيه «لم يمنعه» فرَفْعُ «الإبقاء» متعين؛ لأنه الفاعل، وهذا الذي قاله الزركشي كلام وقع للقرطبي في شرح مسلم، وفي الحديث: «ولم يمنعهم» فجوز فيه الوجهين، وهو ظاهر، لكن نقله إلى ما في البخاري غير متأتٍّ، فتأمله. مصابيح الجامع (4/ 130 -131).

قوله: «إنَّما سَعى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ورَمَلَ بالبيتِ لِيُريَ المشركينَ قُوَّتَه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنما سعى» وعَدَا «رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» في السعي بين الصفا والمروة، والمراد بالسعي هنا العَدْوُ وشدة المشي، «ورَمَلَ» أي: وأسرع في الطواف «بالبيت ‌ليُري المشركين قوته» وجلده. الكوكب الوهاج (14/ 208).
وقال النووي -رحمه الله-:
الرَّمل مستحب في الطوفات الثلاث الأُوَل من السبع، ولا يُسنّ ذلك إلا في طواف العمرة، وفي طواف واحد في الحج، واختلفوا في ذلك الطواف، وهما قولان للشافعي أصحهما: أنه إنما يشرع في طواف يعقبه سعي، ويتصور ذلك في طواف القدوم، ويتصور في طواف الإفاضة، ولا يتصور في طواف الوداع؛ لأن شرط طواف الوداع أن يكون قد طاف للإفاضة، فعلى هذا القول إذا طاف للقدوم وفي نيته أنه يسعى بعده استحب الرمل فيه، وإن لم يكن هذا في نيته لم يرمل فيه، بل يرمل في طواف الإفاضة.
والقول الثاني: أنه يرمل في طواف القدوم سواء أراد السعي بعده أم لا، والله أعلم، قال أصحابنا: فلو أخلَّ بالرمل في الثلاث الأُول من السبع لم يأتِ به في الأربع الأواخر؛ لأن السُّنة في الأربع الأخيرة المشي على العادة فلا يغيره، ولو لم يمكنه الرمل للزحمة أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرمل، ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة للزحمة وأمكنه إذا تباعد عنها فالأَولى أن يتباعد ويرمل؛ لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها، والقُرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة لا في نفسها، فكان تقديم ما تعلق بنفسها أَولى والله أعلم...، ولو ترك الرجل الرمل حيث شرع له فهو تارك سُنة ولا شيء عليه هذا مذهبنا، واختلف أصحاب مالك فقال بعضهم: عليه دم، وقال بعضهم: لا دم كمذهبنا. شرح صحيح مسلم (9/ 7).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- معلقًا:
ولو ‌خاف ‌صَدْمَ ‌النساء ‌بأن ‌كنَّ ‌في ‌حاشية ‌المطاف ‌فالقُرب ‌بلا ‌رمل ‌أولى ‌تجوُّزًا عن مصادمتهنّ وملامستهنّ. الإعلام (6/ 208).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ذكر ابن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي الطفيل قال: قلتُ لابن عباس: ألا تحدثني عن الرَّمَل؛ فإن قومك زعموا أنه سُنة، قال: «صدقوا وكذبوا» قلتُ: ما صدقوا وكذبوا؟ قال: ‌«قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة فقال أهل مكة: إنّ محمدًا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا من الهزل، وأهل مكة ناس حُسَّد، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- فاشتدّ عليه، فقال: أَرُوهُمُ اليومَ منكم ما يكرهون، قال: فرَمَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الثلاثة الأشواط، ومشوا الأربعة»، وروى فطر عن أبي الطفيل عن ابن عباس: «فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، فإذا توارى عنهم مشى» ففي هذا الحديث أن الرمل كان من أَجْلِهم، لا لأنه سنة. شرح صحيح البخاري (4/ 284- 285).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
أما مَن زعم أن الرمل ليس بسنة، واحتج بقول ابن عباس هذا، فمغفل فيما اختاره، وقد ظن في ذلك ظنًّا ليس كما ظن، والدليل على ذلك: ما رواه ابن المبارك عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: «رمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحَجَر إلى الحَجَر».
وروى حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر من الجعرانة، فرمل بالبيت ثلاثًا، ومشى أربعة أشواط».
ففي هاتين الروايتين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمل الأشواط الثلاثة كلها، وقد كان في بعضها حيث لا يراه المشركون، وفي ذلك دليل على أنه ليس مِن أجلهم رَمَل، وبعد فلو كان رمل من أجل المشركين في عمرته كما قال ابن عباس ما منع ذلك من أن يكون الرَّمَل سُنة؛ لأن الرَّمَل مأخوذ عنه، محفوظ في حجَّته التي حجها، وليس بمكة مشرك واحد يومئذٍ، فرمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجته ثلاثة أشواط كمَّلًا، ومشى أربعًا في حجة الوداع، ولا مشرك ينظر إليه حينئذٍ، فصحّ أن الرمل سنة. التمهيد (2/ 75- 76).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أنه يجوز إظهار الجَلَد ليغتاظ العدو.
وفيه أيضًا: دليل على أن المستحب في إظهار الجَلَد ألا يؤذي نفسه مَن يجد غُبَّر شكاء (بقيته وآخره)؛ لقوله: «وما منع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا للإبقاء عليهم». الإفصاح (3/ 43).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
أجمع أهل العلم على أن لا رَمَل على النساء حول البيت، ولا سعي بين الصفا والمروة، إنما تمشي المرأة حيث يرمل الرجال، وحيث يسعى الرجال. الإشراف (3/ 274).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- معلقًا:
نعم لو كانت ليلاً في خلوة ‌لم ‌يمنع ‌استحباب ‌الرمل ‌لها كما قيل بمثله في السعي وإن لم يصرحوا به. الإعلام (6/ 209).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قال ابن المنير: وفيه لطيفة وهي: أن الأفعال لما لم يكن لها صُنْعٌ (أي حقيقة) جاز أن يستعمل منها ما يفهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولا يكون ذلك كالقول؛ فإن القول الْمُخْلَف كذب، ولم يجوِّز النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه أن يقولوا: ليس بهم حمى، ولكن جوز لهم فعلًا يفهم منه مَن لا يعلم الباطن أنهم ليسوا بهم حمى، وإن كان الفاهم مغالطًا في فهمه، دل ذلك لمصلحة إفحام الخصم المبطل في التعبير بما لا يسوغ التعبير به؛ لأن الحمى ليست عيبًا ولا عارًا، بل هي كفارة وطهور، ولكن هم كانوا يفخرون إذا استشعروا ضعف المسلمين، فحِيل بينهم وبين ما يشتهون.
قلتُ: هذا بناء على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا لما قدموا مكة محمومين، فلم يجوز النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخبروا بأن لا حمى لهم؛ لئلا يكون ذلك كذبًا، وأمرهم بالرمل ليوهم المشركين أنهم غير محمومين، ولا يكون في ارتكاب ذلك كذب، وهذا يحتاج إلى بينة تدل عليه، وليس في الحديث ما يقتضيه، ولعله -عليه الصلاة والسلام- لم يأمرهم بأن يخبروا بأنهم ليس بهم حمى؛ لأن ذلك غير مفيد بالنسبة إلى المشركين؛ إذ يمكنهم التكذيب والمسارعة إليه على عادتهم وديدنهم، فأمر الصحابة بأن يفعلوا فعلًا ممن وهنته الحمى، وهو الرمل؛ ليكون أقطع في تكذيب المشركين، وأبلغ في نكايتهم، والله أعلم. مصابيح الجامع (4/ 131 -132).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
في هذا الحديث أحكام:
منها: استحباب الرَّمَل، وهو سنة ثابتة مطلوبة على تكرر السنين، وهو مذهب جميع العلماء من الصحابة -رضي الله عنهم-، والتابعين، ومَن بعدهم، وخالفهم ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقال: إنما سنَّة سنَّهُ في تلك السَّنة؛ لإظهار القوة عند الكفار، وقد زال ذلك المعنى، وقد بينا الحكمة والسر فيه.
وأجمع مَن قال باستحبابه على أنه في الطوفات الثلاث الأُول من السبع، إلا عبد الله بن الزبير، فإنه قال: يسنُّ في الطوفات السبع، فإنْ تركه فقد ترك سُنة، وفاتته الفضيلة، ويصح طوافه، ولا دم عليه، وقال الحسن البصري والثوري وعبد الملك بن الماجشون المالكي: إذا ترك الرمل لزمه دم، وكان مالك -رحمه الله- يقول به، ثم رجع عنه.
ولا يسنّ الرمل إلا في طواف العمرة، وفي طواف واحد في الحج.
ومنها: أن الرمل لا يُشرع بين الركن اليماني والأسود، وإنما يشرع المشي، وقد بيَّنا أن ذلك منسوخ، واستقرار استحبابه حول البيت والحِجْر.
ومنها: إظهار قوة الدِّين والإسلام بحضرة أعدائه، وإن كان الضعف حاصلًا.
ومنها: أنَّ ما شُرع لمعنى يستحب المداومة على فعله؛ تذكُّرًا لنعم الله تعالى وتأسيًا...
ومنها: رفق الإمام بالناس فيما يأمرهم به من الطاعات للمصالح العامات، وألا يتجاوز بما يأمرهم به من ذلك إلى حد المشقة عليهم.
ومنها: كراهة تسمية المدينة: يثرب، على ما بيناه، وكذلك حكم التشبه بالمشركين في تسمياتهم وعباراتهم، وغير ذلك، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 1004- 1005).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
في الحديث: جواز تسمية الطوفة شوطًا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته.
ويؤخذ منه: جواز إظهار القوة بالعُدَّة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابًا لهم، ولا يعدُّ ذلك من الرياء المذموم.
وفيه: جواز المعاريض بالفعل، كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أَولى. فتح الباري (3/ 470).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وفيه من الفقه: أن إظهار القوة للعدو في الأجسام والعُدَّة والسلاح، ومفارقة الهدوء والوقار في ذلك من السُّنة، كما أمر النبي -عليه السلام- بالخبِّ في الثلاثة الأشواط، ومثله إباحته -عليه السلام- للحبشة اللعب في المسجد بالحِراب لهذا المعنى، والمسجد ليس بموضع لعب، بل هو موضع وقار وخشوع لله تعالى، لكن لما كان من باب القوة والعدَّة والرهبة على المنافقين وأهل الكتاب المجاورين لهم أباحه في المسجد؛ لأنه أمر من أمر جماعة المسلمين، والمسجد الجماعة المسلمين. شرح صحيح البخاري (4/ 284- 285).
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
استدل به مَن قال: لا يستوعب الأطواف الثلاثة بالرَّمَل، بل يمشي بين الركنين اليمانيين؛ لأن الكفار لم يكونوا مما يليهما، بل كانوا مما يلي الحِجْر -بكسر الحاء وإسكان الجيم- وهذا هو القول القديم، والجديد وهو الصحيح: أنه يستوعب الأطواف الثلاثة؛ لحديث ابن عمر، وفيه أنه -صلى الله عليه وسلم- رمل من الحَجَر إلى الحَجَر. شرح سنن أبي داود (8/ 520- 521).
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
وهذا صريح في جواز تسمية الطواف شوطًا، وقد نقل أصحابنا أن مجاهدًا والشافعي كَرِهَا تسميته شوطًا أو دورًا، وقد يسمَّى طوفة، وهذا الحديث ظاهر أنه لا كراهة في تسميته شوطًا، والأصح أنه لا كراهة فيه. شرح سنن أبي داود (8/ 520- 521).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «وأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرمُلُوا ثلاثة أشواط» هذا تصريح بجواز تسمية الرمل شوطًا، وقد نقل أصحابنا أن مجاهدًا والشافعي كَرِهَا تسميته شوطًا أو دورًا، بل يسمى طوفة، وهذا الحديث ظاهر في أنه لا كراهة في تسميته شوطًا، فالصحيح أنه لا كراهة فيه. شرح صحيح مسلم (9/ 12- 13).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على أنه ينبغي إغاظة المشركين والكفار بكل وسيلة، وأنه يتأكد على أهل الإسلام ولا سيما في مواقف الحرب واللقاء مع الكفار أن يتظاهروا بالقوة والنشاط، وأن يحذروا ما يدل على الضعف؛ لأجل إغاظة العدو، وبعث الوَهَن بين صفوفه؛ ولئلا يطمع بهم ويتشجع على قتالهم أو النَّيْل منهم. منحة العلام (5/ 286).


إبلاغ عن خطأ