«لَتُؤَدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلِهَا يومَ القيامةِ، حتَّى يُقادَ للشَّاةِ الجَلْحَاءِ، مِن الشَّاةِ القَرْنَاءِ».
رواه مسلم برقم: (2582)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
مختصر شرح الحديث
.
غريب الحديث
«يُقَاد»:
القود: القصاص وقتل القاتل بدل القتيل. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(4/ 119)
«الجَلْحَاءِ»:
هي التي لا قَرن لها. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(1/ 284)
شرح الحديث
قوله: «لَتُؤَدَّنَّ الحقوقُ»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«لتُؤدَّن» على بناء المجهول، و«الحقوقُ» مرفوع، هذه هي الرواية المعتد بها، ويزعم بعضهم ضم الدال، ونصب الحقوق، والفعل مسند إلى الجماعة الذين خُوطبوا به، والصحيح: ما قدمناه. الميسر (3/ 1095).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «لَتُؤَدَّنَّ» اللام فيه هي الموطّئة للقسم؛ أي: والله لتؤدَّنَّ، بفتح الدال المشدّدة، مبنيًّا للمفعول، وقيل: بضمِّها مبنيًّا للفاعل، فقوله: «الْحُقُوقُ» بالرفع على الأول، على أنَّه نائب الفاعل، وبالنصب على الثاني، على أنَّه مفعول به. البحر المحيط الثجاج (40/ 577).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لتؤدن» من التأدية، مصدر أدَّى من باب أفعل، فحرف المضارعة مضموم، وهو مبني للمعلوم، وفاعله ضمير الجماعة المحذوف لملاقاة نون التأكيد، وضمة ما قبلها دليله، وأصله توادون، كما هو معروف في محله.
«والحقوقَ» منصوب مفعول التأدية، أي: تسلمون الحقوق، ونقل الشارح (المناوي) أنَّه مبني للمجهول، فالدال مفتوحة، والحقوق مرفوع على أنه نائبه، وما ذكرناه هو الذي ضبط على خط المصنف (السيوطي) بضم المهملة. التنوير (9/ 26).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «لَتُؤَدّنَّ الحقوقَ» أصحاب الحديث يضمون التاء، ويفتحون الدال، على ما لم يُسَمَّ فاعله، وأهل اللغة يمنعون من ذلك، قال لي أبو محمد الخشاب: لا يجوز إلا بضم الدال؛ لأنها لو كانت مفتوحة لكان: لتؤدينَّ بياء.
فإنْ قيل: فكيف يقال: لتؤدُّن أنتم حتى يُقاد للشاة؟
فالجواب: أنَّ هذا لجنس المخلوقين، المعنى: لتؤدُّن أنتم يا بني آدم، حتى يُقاد للشاة. كشف المشكل (3/ 585-586).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لتؤدُّنَّ الحقوق» هذا جواب قسم محذوف، كأنه قال: والله لتؤدّن.
والحقوق: جمع حق، وهو ما يحق على الإنسان أن يؤديه، وهو يعم حقوق الأبدان والأموال والأعراض، وصغير ذلك وكبيره، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} الكهف: 49، وكما قال: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء: 47. المفهم (6/ 564).
قوله: «إلى أهلِهَا يومَ القيامةِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «إلى أهلِهَا» متعلّق بـ«تؤدنَّ» وكذا قوله: «يومَ القيامَةِ». البحر المحيط الثجاج (40/ 577).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «إلى أهلها» ومستحقيها، سواء كانوا عقلاء أو غيرهم. الكوكب الوهاج (24/ 354).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «يوم القيامة» أي: إن لم تؤدوها في الدنيا. منة المنعم (4/ 184).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الحقوق إلى أهلها يوم القيامة» على قسطاط العدل المستقيم. التيسير (2/ 289).
قوله: «حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القَرناء»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«حتى» غاية في إيفاء الحق، أي: إلى أنْ «يُقاد للشاة الجلحاء» بفتح الجيم، وسكون اللام بعدها مهملة، وبعدها ألف ممدودة: هي الجمّاء التي لا قرن لها «من الشاة القرناء». دليل الفالحين (2/ 517).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
والحيوان ليس بمكلف، ولكن يجري بين أفراده هذا القصاص، حتى لا يبقى لأحد ظلم على أحد. منة المنعم (4/ 185).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «حتى يُقاد للشاة الجلحاء» بالجيم، وبعد اللام حاء مهملة، ثم بالمد، هي التي لا قرن لها، «من الشاة القرناء» تنطحها لما أصابتها به في الدنيا، وكأنه تعالى يخلق للجلحاء قرونًا تقتص بها، أو يعرفها مقدار القصاص بغير القرن بما يؤلم قدر ألمه الذي أصابها في الدنيا...، والحديث واضح في حشر البهائم، وفي أنها مكلفة، وأنه يقع بينها التظالم في دار الدنيا. التنوير (9/26-27).
وقال النووي -رحمه الله-:
«حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، وإعادتها يوم القيامة، كما يُعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يُعاد الأطفال والمجانين ومن لم تبلغه دعوة، وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسُّنة، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} التكوير: 5، وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع، وجب حمله على ظاهره.
قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب، وأما القصاص من القرناء للجلحاء، فليس هو من قصاص التكليف؛ إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة. شرح مسلم (16/136-137).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وفي كونه قصاص مقابلة نظر لا يخفى، مع أنَّ قصاص المقابلة نحن مكلفون به أيضًا. مرقاة المفاتيح (8/ 3203).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد حُكي أنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه- حمل هذا الحديث على ظاهره، فقال: يُؤتى بالبهائم، فيقال لها: كوني ترابًا؛ وذلك بعدما يُقاد للجماء من القرناء، وحينئذٍ: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} النبأ: 40.
وقد قيل في معنى الحديث: إنَّ المقصود منه: التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، والإغياء فيه حتى يفهم منه: أنَّه لا بد لكل أحد منه، وأنَّه لا محيص له عنه، ويتأيد هذا بما جاء في هذا الحديث عن بعض رواته من الزيادة، فقال: «حتى يُقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر، وعلى العود خدش العود»؛ فظهر من هذا: أنَّ المقصود منه: التمثيل المفيد للإغياء والتهويل؛ لأنَّ الجمادات لا يُعقَل خطابها، ولا ثوابها، ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء، ونظير هذا التمثيل قوله تعالى: {وَلَو أَنَّ قُرآنًا سُيِّرَت بِهِ الجِبَالُ} الرعد: 31، وقوله: {لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ} الحشر: 21، الآية، فتدبَّر وجه التنظير -والله بحقائق الأمور عليم خبير-. المفهم (6/ 564).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
لا يخفى على من تأمَّل القول الثاني الذي ذكره القرطبيّ من أنَّ معنى الحديث التمثيل وليس حقيقة كونه غير صحيح، وتقرير القرطبيّ له وتأييده بأثر لا يُعرف من أخرجه، وحال إسناده شيء عجيب، وكذا قوله: إنَّ الجمادات لا يُعقل خطابها، كيف يقول هذا مَن يقرأ قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} الزلزلة: 4، 5، وغير ذلك من الآيات؟
وأعجب من ذلك قوله: "ومُتَخيِّله من جملة المعتوهين الأغبياء"، كيف يكون مَن يعتقد ما أخبر الله به معتوهًا غبيًّا؟ بل الأمر بالعكس، فالمعتوه مَن يستبعد وقوع ما أخبر الله تعالى بوقوعه...، والحاصل: أنَّ الصحيح في معنى الحديث: أنَّه على ظاهره، كما عزاه القرطبيّ إلى أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأنَّ القصاص بين البهائم سيقع، فنصدِّق بذلك، ونُؤمِن به -والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل-. البحر المحيط الثجاج (40/ 579).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يعني: لو نَطحتْ شاةٌ قرناءُ شاةً جلحاءَ في الدنيا؛ فإذا كان يومُ القيامة يُؤخَذ القرنُ من الشاة القرناء، ويُعطَى الجلحاء، حتى تقتصَّ لنفسها من الشاة القرناء.
فإن قيل: الشاة غير مكلَّفة، فكيف يُقتصُّ منها؟
قلنا: الله تعالى فعَّال لما يريد: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} الأنبياء: 23، والغرض منه: إعلامُ العباد بأنَّ الحقوقَ لا تضيع، بل يُقتصُّ حقُّ المظلوم من الظالم. شرح المصابيح (5/ 361).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وهو وجه حسن، وتوجيه مستحسن، إلا أنَّ التعبير عن الحكمة بالغرض وقع في غير موضعه، وجملة الأمر: أنَّ القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين، فإنَّه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف والقوي والضعيف؟! مرقاة المفاتيح (8/ 3203).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا ابن الملك:
هكذا قال: «يُؤخَذ القرن...» إلخ، أخْذ القرن من القرناء، وإعطاؤه للجلحاء لا يدلُّ عليه سياق الحديث، فيحتاج إلى دليل، فليُتنبّه -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (40/ 578).
وقال المازري -رحمه الله-:
اضطربَ العلماء في إعادة البهائم، ووقف الشيخ أبو الَحسَنِ الأشعَرِي في ذلك، وَجَوَّزَ أنَّ يُعاد المجانين، ومَن لمَ تبلغه الدَّعوة، ويدخلون الجنة، وَجَوَّز أنْ لاَ يعَادوا، ولم يَرِد عنده قَطع في ذلك، والمسألة موقوفة على السمع، وأقوَى ما يتعلَّق به من يقطَع بإعادة البَهَائم قوله -عزّ وجلّ-: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} التكوير: 5، ومن لم يقطع على الإعادة يقول: معنى {حُشِرَتْ}، أي: ماتت.
والأحاديث الواردة عنده في ذلك من أخبار الآحاد إنّما توجب الظَّنَّ (عامة أهل الإسلام على قبول حديث الآحاد في الأحكام وجمهورهم وهو قول أهل السنة على قبوله في العقائد أيضًا، ومسألة الظنية والقطعية لا تنافي وجوب تصديقه والعمل به)، والمراد من المسألة القطع، وقد قال بعض شيوخنا في قوله: «يقَاد لِلشَّاةِ الجَلحاء من الشّاة القرناء»: إنَّ المراد به: ضَرْب مثلٍ ليشعِر الباري سبحانه الخليقةَ أنَّها دار قصاصٍ ومجازَاةٍ، وأنَّه لا يبقى عندَ أحدٍ لأحدٍ حقّ، فضرب المثل بالبهائم التي ليست بمكلفة حتى يستحِّق فيها القصاص؛ لِيفهَم منه أنَّ بني آدم المكلَّفين أحَقّ وأولى بالقِصاص بينهم.
ويصِحُّ عندي: أنْ يخلق الباري سبحانه هذه الحركة في البهائم في الآخِرة؛ ليشعر أهل الْمَحشر بما هم صائرون إلَيه من العدل بينهم، وسمَّى ذلك قصاصًا لا على معنى قصاص التكليف، ولكن على معنى قصاص المجازاة، والقَطع في هذا لا سبيل إليه، وإجراء الكلام على ظاهره إذا لم يَمنعَ منه عقل، ولا سَمع، أولىَ وأوجب. المعلم بفوائد مسلم(3/ 292-293).
وقال محمد الأُبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
المسائل العلمية التي لا ترجع للذات والصفات كهذه (بل الصواب حتى التي ترجع إلى الذات والصفات) يصحُّ التمسك فيها بالآحاد، وذكرنا ما اتفق للمازري وشيخه عبد الحميد (ابن الصائغ) في ذلك، والاستدلال بمجموع ظواهر الآي والأحاديث يرجع إلى التواتر المعنوي. إكمال إكمال المعلم (7/31).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- مُتعقِّبًا المازري:
توقَّف مَنْ توقَّف من الأئمة في إعادتها (البهائم) إنَّما هو على القطع بذلك على الله، كما يقطع بإعادة أهل الثواب والعقاب، ومن يجازى، ولم تكن الظواهر الواردة في ذلك نصًّا ولا أخبارًا متواترة، ولا هي مما تحتها عمل، فيجب العمل بها، كما يجب بالظواهر وأخبار الآحاد، والمسالة علمية مجردة، والأظهر: حشر المخلوقات كلها بمجموع ظواهر الآيات والأحاديث، وأنه ليس من شرط الإعادة المجازاة والعقاب والثواب، فقد وقع الإجماع على أنَّ أولاد الأنبياء في الجنة، ولا مجازاة على الأطفال، واختلف الناس فيمن بعدهم اختلافًا كثيرًا. إكمال المعلم (8/ 25).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
ما رواه أحمد بإسناد صحيح: «يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى للجماء من القرناء، وحتى للذرة من الذرة»، وهو في صحيح مسلم بلفظ: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة؛ حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»؛ فالمراد بالاقتصاص المذكور: أنْ يدخل الله تعالى عليها من الآلام في الموقف بقدر ما يعلمه قصاصًا، أو يقتص حقيقة (وهذا هو الصواب)، وذلك لا يمنعه العقل عندنا، لكن لا نوجبه، أي: لا نقول بوجوب وقوعه منه تعالى، كما يقوله المعتزلة، وهذا أولى من القول بأنه خبر آحاد غير مفيد للقطع. إتحاف السادة المتقين (2/ 184).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي هذا الحديث):
1. منها: بيان شدّة الحقوق، فقد أوجب الله -سبحانه وتعالى- فيها القصاص، حتى بين البهائم، فكيف بالعقلاء المكلّفين؟ فالواجب على العاقل: المبادرة بالتخلُّص من الحقوق قبل ذلك اليوم...
2. ومنها: أنَّ فيه إثبات البعث والنشور في الآخرة، وأنَّ الخلائق كلهم يُحشرون، عقلاؤهم، وغير عقلائهم.
3. ومنها: ما قاله النوويّ -رحمه الله-: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، وإعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يعاد الأطفال، والمجانين، ومن لم تبلغه دعوة، وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن، والسُّنَّة. البحر المحيط الثجاج (40/ 580).