«جاء أعرابيٌّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تُقبِّلونَ الصِّبيانَ؟ فما نُقَبِّلُهُمْ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أو أَمْلِكُ لك أنْ نَزَعَ الله مِن قلبِكَ الرَّحمةَ؟».
رواه البخاري برقم: (5998) واللفظ له، ومسلم برقم: (2317)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
مختصر شرح الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «جاء أعرابي» يُحتمل أنْ يكون هو الأقرع المذكور في الذي قبله، ويحتمل أنْ يكون قيس بن عاصم التميمي، ثم السعدي؛ فقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني ما يشعر بذلك، ولفظه عن أبي هريرة أنَّ قيس بن عاصم دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر قصة فيها: «فهل إلا أن تنزع الرحمة منك؟» فهذا أشبه بلفظ حديث عائشة، ووقع نحو ذلك لعيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري، أخرجه أبو يعلى في مسنده بسند رجاله ثقات، إلى أبي هريرة، قال: «دخل عيينة بن حصن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرآه يقبل الحسن والحسين، فقال: أتقبلهما يا رسول الله؟ إنَّ لي عشرة، فما قبَّلتُ أحدًا منهم»، ويحتمل أنْ يكون وقع ذلك لجميعهم، فقد وقع في رواية مسلم «قدم ناس من الأعراب فقالوا... ». فتح الباري (10/ 430).
قوله: «تقبلون الصبيان؟»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «تقبلون الصبيان» كذا للأكثر، بحذف أداة الاستفهام، وثبتت في رواية الكشميهني. فتح الباري (10/ 430).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أتقبلون صِبْيَانَكُم؟» بكسر الصاد، وضمها: جمع صَبِيّ، ويُجمع على صِبْيَة، وفي رواية البخاري: «تُقَبِّلون» بتقدير ألف الاستفهام. دليل الفالحين (3/ 11).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أتقبلون الصبيان؟» أي: الصغار، والهمزة للإنكار. مرقاة المفاتيح (7/ 3100).
قوله: «فما نقبلهم»:
قال العيني -رحمه الله-:
«فما نقبلهم»، وفي رواية الإسماعيلي: «فو الله ما نقبلهم»، وفي رواية مسلم: «لكن والله لا نقبل». عمدة القاري (22/ 100).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الفاء في قوله: «فما نقلبهم» استبعادية، أي: تفعلون ذلك، وهو مستبعد عندنا. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3174).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: الظاهر أنَّ الاستبعاد مفهوم من الاستفهام، لا من الفاء؛ لأنه غير معروف في معانيها. مرقاة المفاتيح (7/ 3100).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«فما نقبلهم» أي: إن كنتم تقبلونهم، فما نقبلهم، وهو إما للاستكبار، أو للاستحقار. مرقاة المفاتيح (7/ 3100).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
الفاء في «فما نقبلهم» للتعقيب في المرتبة نحو (ثم) يجيء للتراخي في الرتبة، تفيد استبعاد التقبيل؛ لكونه منكرًا عنده، وقد أُتِيَ بمثل هذه الفاء في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} الكهف: 57؛ ولهذا جاء في آية أخرى: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} السجدة: 22، فتدبر. لمعات التنقيح (8/ 235).
قوله: «أو أَمْلِكُ لك أن نَزع الله مِن قلبِكَ الرَّحمة؟»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
تفسيره ما جاء في رواية البخاري: «وأملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة»، ومعناه: أو أملك منك في ذلك حتى أصرفه عنك؟ اللام هنا بمعنى: (منك)، وقد تكون الهمزة بمعنى: (لا) على قول بعضهم في قوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} الأعراف:155، إن المعنى لا يفعل ذلك. إكمال المعلم (7/ 282).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«أوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟» الهمزة داخلة على مُقدر، أي: القول هذا، وفي رواية مسلم: «وأملك» بدون الهمزة، ولا بد من تقديرها؛ لأن المعنى على الاستفهام الإنكاري. الكوثر الجاري (9/ 411).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«أوَ أملكُ» قال الزركشي: بفتح الواو على أنَّ الهمزة للاستفهام التوبيخي، ومعناه: النفي، أي: لا أملك، أي: لا أقدر أنْ أضع الرَّحمة في قلبك، ولم يضعها الله فيه. عقود الزبرجد (3/ 245).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أَوَ أَملكُ؟» بهمزة الاستفهام التوبيخي، ومعناه: النفيُ، أي: لا أَقدِرُ أن أَجمعَ الرحمةَ في قلبه، ولم يَضَعْها اللهُ فيه، وفي مسلم: «وأَملكُ» بلا ألفِ استفهامٍ، والواوُ للعطف على مُقدَّرٍ بعدها، أي: أتقول: وأملك.
«أَن نزَع» بفتح الهمزة، ومفعول «أملك» محذوف، أي: لا أَملكُ النزعَ، وإلا ما كنتُ أنزعُه، أو حرفُ الجرِّ مُقدَّرٌ، أي: لا أَملكُ لك شيئًا؛ لأَنْ نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلبك. اللامع الصبيح (15/ 40).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
دلَّ أنَّ تقبيل الولد الصغير، وحمله والتَّحفي به، مما يُسْتَحَقُّ به رحمة الله، ألا ترى حمل النبي -عليه السلام- أُمامة ابنة أبي العاص على عنقه في الصلاة، والصلاة أفضل الأعمال عند الله، وقد أمر -عليه السلام- بلزوم الخشوع فيها، والإقبال عليها، ولم يكن حمله لها مما يضاد الخشوع المأمور به فيها، وكره أن يشق عليها لو تركها ولم يحملها في الصلاة، وفي فعله -عليه السلام- ذلك أعظم أسوة لنا، فينبغي الاقتداء به في رحمته صغار الولد، وكبارهم، والرفق بهم. شرح صحيح البخاري (9/ 212).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: أوَ أملك دفعَ نَزْعِ الله الرحمةَ من قلبك؛ يعني: تقبيلُ الأطفالِ شفقةٌ ورحمةٌ، فإذا لم يكن في قلبك هذه الشفقةُ والرحمة، فقد نزعَ الله الرحمةَ من قلبك، ولا أقدِرُ أنْ أضعَ في قلبك شيئًا نزَعَه الله من قلبك. المفاتيح (5/ 212).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«أو أملك؟» قلتُ: إنَّما هي للإنكار الإبطالي، فيقتضي نفيَ ما بعدها؛ ولهذا لا يكون المعنى هنا: لا أملك، أي: لا أملك لك جعل الرحمة بعد أنْ نزعها الله من قلبك، وأما لو كانت للتوبيخ، لاقتضت وقوع ما بعدها، لا نفيَهُ، فتأملْه. مصابيح الجامع (9/ 305).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قال الشيخ نور الدين البحيري: ويحتمل أنْ يكون مفعول «أملكُ» محذوفًا، و«أن نزع» في موضع نصب على المفعول لأجله على أنه تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري الإبطالي، والتقدير: لا أملك وضع الرحمة في قلبك؛ لأن نزعها الله منه، أي: انتفى ملكي لذلك لنزع الله إياها من قلبك، ا. هـ. إرشاد الساري (9/ 18).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
الاستفهام هنا للإنكار، أي: لا أقدر أنْ أجعل الرحمة في قلوبكم بعد أن نزعها الله من قلوبكم، وقال عبد الله بن نمير في روايته: «من قلبك الرحمة» بكاف خطاب المفرد؛ نظرًا إلى المحاور مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. الكوكب الوهاج (23/ 137).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«وأملك أنْ كان الله نزع الرَّحمة من قلبك؟!» كذا وقع هذا اللفظ محذوف همزة الاستفهام، وهي مرادة، تقديره: أو أملك؟ وكذا جاء هذا اللفظ في البخاري بإثباتها، وهو الأحسن؛ لقلة حذف همزة الاستفهام، و(أن) مفتوحة، وهي مع الفعل بتأويل المصدر، تقديرها: أو أملك كون الله نزع الرَّحمة من قلبك؟! وقد أبعد من كسرها، ولم تصح رواية الكسر، ومعنى الكلام: نفي قدرته -صلى الله عليه وسلم- عن الإتيان بما نزع الله من قلبه من الرحمة. المفهم (6/ 108).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
الرحمة في حقِّنا: هي رقَّة وحُنُوّ يجده الإنسان في نفسه عند مشاهدة مبتلى أو ضعيف أو صغير، يحمله على الإحسان إليه، واللطف به، والرفق، والسعي في كشف ما به، وقد جعل الله هذه الرحمة في الحيوان كله، عاقله وغير عاقله، فبها تعطف الحيوانات على نوعها وأولادها، فتحنو عليها، وتلطف بها في حال ضعفها وصغرها، وحكمة هذه الرحمة: تسخير القوي للضعيف، والكبير للصغير، حتى ينحفظ نوعه، وتتم مصلحته؛ وذلك تدبير اللطيف الخبير، وهذه الرحمة التي جعلها الله في القلوب في هذه الدار، وتحصل عنها هذه المصلحة العظيمة هي رحمة واحدة من مائة رحمة ادَّخرها الله تعالى ليوم القيامة، فيرحم بها عباده المؤمنين وقت أهوالها وشدائدها حتى يخلصَهم منها، ويدخلهم في جنته، وكرامته. المفهم (6/ 108).
وقال السندي -رحمه الله-:
المقصود: بيان أنَّ هذا سببه قِلة ما في قلوبكم من الرحمة، وكثرة القسوة. كفاية الحاجة (2/ 390).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
في الحديث: أنَّ تقبيل الولد وغيره من المحارم وغيرهم، إنَّما يكون للشفقة والرحمة، لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشم والمعانقة. إرشاد الساري (9/ 18).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفي هذه الأحاديث: ما يدلُّ على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة والشفقة، وكراهة الامتناع من ذلك على جهة الأنفة، وهذه القبلة هي على الفم، ويكره مثل ذلك في الكبار؛ إذ لم يكن ذلك معروفًا في الصدر الأول، ولا يدل على شفقة. المفهم (6/ 110).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قوله: على الفم، مما لا دليل عليه، فليُتنبّه -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (37/ 477).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان ما كان عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من شدّة الرأفة والشفقة والرحمة للصغير والكبير، وهذا من فضل الله تعالى عليه، كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران: 159، فكان ذلك مصداق قوله -عز وجل-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة: 128.
2. ومنها: بيان ما عليه الأعراب من بقايا الجفاء، وغِلَظِ الطبع، وقسوة القلب الذي كانوا عليه قبل الإسلام، كما أخبر الله -عز وجل- عن ذلك بقوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة: 97.
3. ومنها: أنَّ مَن لا يرحم الناس لا يرحمهم الله تعالى، ومن يرحمهم يرحمه جزاء وفاقًا {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} الرحمن: 60.
4. ومنها: ما قال القرطبيّ -رحمه الله-: وفي هذه الأحاديث: ما يدلّ على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة، والشفقة، وكراهة الامتناع من ذلك على جهة الأَنفَة. البحر المحيط الثجاج (37/ 477).