«دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بَطْنِ الحوتِ: لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَكَ إنِّي كنتُ من الظالمينَ، فإنَّه لم يَدْعُ بها رَجُلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلا استجابَ اللهُ لَهُ».
رواه أحمد برقم: (1462)، والترمذي برقم: (3505) واللفظ له، والنسائي في الكبرى برقم: (10417)، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3383)، وصحيح الترغيب والترهيب برقم: (1826).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ذِيْ النُّونِ»:
أي: صاحب الحوت، وهو يونس -عليه السلام-. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 6).
والنُّونُ: الحُوت، والجمع أنْوانٌ ونينان، وذو النون: لَقَبُ يونس بن مَتَّى -عليه السلام-. الصحاح للجوهري (6/ 2210).
وقد ذكره الله تعالى في كتابه وسماه كذلك؛ لأنه حَبَسَهُ في جوف الحوت الذي الْتَقَمَهُ. تاج العروس، الزبيدي (36/ 232).
شرح الحديث
قوله: «دعوة ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين».
قال ابن حجر -رحمه الله-:
«ذي النُّونِ» هو يونس بن مَتَّى بفتح الميم وتشديد المثناة، مقصور، ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أُمِّهِ، وهو مردود بما في حديث ابن عباس في هذا الباب، ونسبه إلى أبيه، فهذا أصح، ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفُرْسِ. فتح الباري (6/ 451).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«دعوة ذي النُّونِ» أي: صاحب الحوت، وهو سيدنا يونس -عليه الصلاة والسلام-، «إذ دعا» أي: ربه، كما في نسخة صحيحة، وهو غير موجود في الترمذي، لكنه مذكور في الأذكار، كذا في (المفاتيح)، وهو ظَرْفُ دعوةٍ، «وهو في بطن الحوت» جملة حالية، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِن الظَّالِمينَ} الأنبياء: 87، بدل من الدعوة؛ لأنها في الأصل المرَّة من الدعاء، ويراد هنا المدعو به، مع التوسل فيه بما يكون سببًا لاستجابته. مرقاة المفاتيح (4/ 1590).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«دعوة ذي النُّون» أي: صاحب الحوت وهو يونس، «إذ» أي: حين دعا بها وهو في بطن الحوت، «لا إله إلا أنت» أي: إنك الذي تقدر على حفظ الإنسان حيًّا في باطن الحوت، ولا قُدْرَةَ لغيرك على هذه الحالة، ثم أَرْدَفَ ذلك بقوله: «سبحانك إني كنت من الظالمين»؛ تصريحًا بالعجز والانكسار، وإظهارِ الذلة والافتقار.
قال الحسن: ما نجا إلا بإقراره على نفسه بالظلم، وإنما قَبِل منه ولم يقبل من فرعون حين قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}يونس:90؛ لأن يونس ذكرها في الحضور والشهود، وفرعون ذكرها في الغَيْبة تقليدًا لبني إسرائيل، ذكره الإمام الرازي. فيض القدير (3/ 526).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«دعوة ذي النون» أي: الحوت، وصاحبه يونس؛ لأنه الْتَقَمَهُ فنُسب إليه، «إذ» أي: حين «دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» تقدَّم أنه جَمَعَ فيها نفيَ كلِّ إلهٍ، وإثباته تعالى إلهًا، وتنزيهه عن كل قبيح، والإخبار عن نفسه بأنه اتصف بالكيْنُونَة من جملة الظالمين لأنفسهم، مؤكِّدًا لإخباره، والإخبار في هذا الموضع تنزيهه القادر على كل شيء فيه كمالُ الإيمان والإخلاص. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 98).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
وفي الخبر في هذه الآية شرَطَ الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} الأنبياء: 88، وليس هاهنا صريحُ دعاء، وإنما هو مضمون قوله: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّٰالِمِينَ} الأنبياء: 87، فاعترف بالظلم فكان تلويحًا. الجامع لأحكام القرآن (11/ 334).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الأنبياء: 87 أي: أنا من الظالمين؛ بخروجي من بين قومي قبل أن تَأْذَنَ لي به، فاستجاب الله له، وأمر الحوت بإلقائه إلى أرض (نَصِيبِين) اسم بلدةٍ من بلاد الشام. شرح المصابيح (3/ 115).
وقال الصنعاني -رحمه الله- مُعلِّقًا على كلام الرازي:
قلتُ: بل لأنه كما قال الحسن: إنما نجا بالإقرار على نفسه بالظلم، ولم يكن ذلك من فرعون. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 98).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
{سُبحانَكَ} أي: أُنَزِّهُكَ عن أن يعجزك شيء، قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي: لنفسي، فمِنَ المبادرة إلى التقصير. الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (4/ 11).
وقال فالح آل مهدي -رحمه الله-:
وقد سَمّى -صلى الله عليه وسلم- قول ذِي النون: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» دعوة؛ لأنها تتضمن نوعي الدعاء؛ فقوله: «لا إله إلا أنت» اعتراف بتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية أحد نوعي الدعاء؛ فإن الإله هو المستحق لِأَنْ يُدعى دعاءَ عبادة ودعاءَ مسألة.
وقوله: «إني كنت من الظالمين» صيغةُ خبر يتضمن طلب المغفرة؛ فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسؤول، وإما بوصف الحالتين، كقول نوح -عليه السلام-: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} هود: 47، فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خَسِرَ، ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة، وكذلك قول آدم -عليه السلام-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف: 23، هو من هذا الباب، ومن ذلك قول موسى -عليه السلام-: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} القصص: 24، فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير.
وقريبٌ من حديث ذي النُّون: الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-كان يقول عند الكَرْبِ: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا لله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم». التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية (2/ 136).
قوله: «فإنه لم يَدْعُ بها رَجُلٌ مسلم في شيء قَطُّ إلا استجاب الله له»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«لم يَدْعُ بهَا رَجُلٌ مُسلم» بِزِيَادَة رَجُلٍ، «فِي شَيْء قطّ» بنيَّة صَادِقَة صَالِحَة، «إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُ»، لَمَّا كَانَت مسبوقةً بِالْعَجزِ والانكسار، ملحوقةً بهما؛ صَارَت مَقْبُولَة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 6).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
«فإنَّه» الضمير للشأن «لم يَدْعُ بها» أي: بتلك الدعوة، أو بهذه الكلمات «في شيء» أي: من الحاجات، والتقدير: فعليك أن تدعو بهذه الدعوة، فإنه لم يَدْعُ بها ... إلخ. تحفة الأحوذي (9/ 336).
وقال أبو العباس القرطبيّ -رحمه الله-:
قال الطبريّ: كان السلف يَدْعُون بهذا الدعاء، ويسمُّونه دعاء الكَرْبِ، فإن قيل: كيف يُسمَّى هذا دعاء، وليس فيه من معنى الدعاء شيء، وإنَّما هو تعظيم للَّه تعالى، وثناء عليه؟
فالجواب: إن هذا يُسمّى دعاء لوجهين:
أحدهما: أنه يُستَفْتَحُ به الدعاء، ومِن بَعْدِه يدعو، وقد ورد في بعض طُرُقه: «ثم يدعو».
وثانيهما: أن ابن عيينة قال -وقد سئل عن هذا-: أما علمت أن اللَّه تعالى يقول: «إذا شَغَل عبدي ثناؤُه عن مسألتي أَعْطَيْتُهُ أفضل ما أُعْطِي السائلين»، وقد قال أُمَيَّةُ بن أبي الصَّلْت:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا *** كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
قلتُ: وهذا الكلام حسنٌ، وتَتْمِيْمُهُ: أن ذلك إنما كان لنُكْتَتَين:
إحداهما: كَرَم الْمُثْنَى عليه، فإنه إذا اكتفى بالثناء عن السؤال دلّ ذلك على سهولة البذل عليه، والمبالغة في كَرَم الحقّ.
وثانيهما: أن الْمُثنِيَ لَمّا آثر الثّناء -الذي هو حقّ المثنَى عليه- على حقّ نفسه الذي هو حاجته؛ بُودِرَ إلى قضاء حاجته من غير إحراج إلى إظهار مذلّة السؤال؛ مجازاةً له على ذلك الإيثار، واللَّه تعالى أعلم. المفهم (7/ 56).
وقال ابن علان -رحمه الله- معلِّقًا:
والفرق بين النُّكْتَتَيْنِ: أنَّه على الأول مُتَعرِّض للسؤال، وعلى الثاني مُفوِّض وليس متعرِّضًا، ولا شك إن الثاني حالٌ أكْمَل، وفي القيام بما يجب للربوبية أجمل، كما قال من قال:
وَكَلْتُ إلى المحبوب أمري كلَّه ** فإنْ شاء أَحْيَانِي وإن شاء أَتْلَفَا. الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (4/ 3).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لم يَدْعُ بها» أي: بتلك الدعوة، أو هذه الكلمات، «رَجُلٌ مسلم في شيء» أي: من الحاجات، «إلا استجاب» أي: الله، «له»، ولعله لقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} الأنبياء: 88. مرقاة المفاتيح (4/ 1590).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لم يَدْعُ بها رَجُلٌ مسلم» أو امرأة مُسلمة. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 98).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وقوله: «إلا استجابَ لَهُ» وفي رواية: «ما مِن مَكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إلَّا استُجِيْبَ له». الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (4/ 11).
وقال الألوسي -رحمه الله-:
وقد شاهدتُ أثر الدعاء به ولله تعالى الحمد، حين أمرني بذلك من أَظُنُّ ولايته...، وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به، وفي شرحه طُوْلٌ، وأنت مَلُولٌ. روح المعاني (9/ 81).
وقال الشيخ وهبة الزحيلي -رحمه الله-:
الحق أن العبد إذا صدق في مناجاة ربه بخشوع وخضوع، وأدب وإخلاص؛ صدق الله معه، ونجَّاه من الكروب العِظَام في الدنيا والآخرة. التفسير المنير (17/ 118).
وقال الشيخ وهبة الزحيلي أيضًا:
فهو (أي يونس عليه السلام) قد بدأ بالتوحيد، ثم بالتنزيه والتسبيح والثناء، ثم بالاستغفار والإقرار على نفسه بالظلم أي: الذنب. التفسير الوسيط (2/ 1611).
وقال ماهر بن مقدم -حفظه الله-:
وفي هذا الدعاء الذي فيه جوامع الأدب، والكَلِمُ الطيِّب الفوائد الكثيرة، منها:
1- أن الدعاء كما يكون طلبًا صريحًا يكون كذلك تعريضًا متَضَمِّنًا للطلب.
2- أن هذه الصيغة جَمَعَت آداب الدعاء، وأسباب الإجابة، فيَحْسُنُ بالعبد أن يُكثر منها حال دعائه وكَرْبِه وغمومه وشدائده، كما أخبر بذلك الشارع الحكيم.
3- هذه الدعوة فيها من كمال التوحيد، والإيمان باللَّه تعالى، الذي ينبغي لكل داعٍ أن يضمن هذه المضامين في أدعيته.
4- فيه دلالة على أن التسبيح سبب للإنجاء من الكَربِ والهمّ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} الحجر: 97-99.
5- أن التوحيد والإيمان والإقرار بالذنوب من أكبر أسباب النجاة من مَهَالِك الدنيا والآخرة.
6- أن الذنوب من أعظم الأسباب الموجبة لزوال النعم، وحصول النقم.
7- ينبغي أن يدعو العبد بحُسْنِ ظنٍّ عظيم في حقّ ربه تعالى حال دعائه؛ فإن اللَّه تعالى يعامله على حسب ظنّه به.
8- أن ما يقع على العبد من المصائب فإنَّ سببها تقصيرُه في حق ربه تعالى.
9- صحّة اعتقاد أهل السنة والجماعة أن التنزيه يتضمّن الكمال والتعظيم للَّه ربّ العالمين؛ فإن قوله: {سُبْحَانَكَ} أي: أُنَزِّهُكَ عن كلِّ سوء، ومن ذلك ما وقع مني؛ فإنه ليس بظلم منك؛ فإنّك تُنَزَّهُ عنه، وإنما بسبب جِنَايَتِي على نفسي، فدل أن التنزيه يتضمن الثناء والتعظيم من كل الوجوه.
10- أن كل الخلق مهما كانت رُتَبُهُم ومنزلتهم مفتقرون إلى اللَّه تعالى، فعليهم أن يَفِرُّوا إليه وحده بالدعاء والرجاء والرغبة والرهبة. شرح الدعاء من الكتاب والسنة (ص: 211).