«خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنَّبِيُّونَ مِن قبلِي: لا إله إلا اللهُ، وحدهُ لا شريك له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ».
رواه أحمد برقم: (6961) والترمذي برقم: (3585) واللفظ له، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
ورواه مالك في الموطأ برقم: (32)، من حديث طلحة بن عبيد الله بن كَريز.
صحيح الجامع برقم: (3274)، مشكاة المصابيح برقم: (2598).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يومِ عرفة»:
هو التاسع من ذي الحجة. عمدة القاري، للعيني (1/ 263).
وقال النووي -رحمه الله-:
عرفات وعرفة: اسم لموضع الوقوف، قيل: سُمِّيت بذلك لأن آدم عرف حواء -عليهما الصلاة والسلام- هناك، وقيل: لأنَّ جبريل عرف إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- المناسك هناك...، وقيل: سُمِّيَتْ بذلك للجبال التي فيها، والجبال هي الأعراف، وكل عالٍ فهو عَرْفٌ، ومنه عرف الفرس والديك، قال القاسم بن محمد: سُميت بذلك لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم، ويسألون غفرانها فتغفر.
وجُمعت عرفات، وإنْ كان موضعًا واحدًا؛ لأن كل جزء منه يُسمَّى عرفة؛ ولهذا كانت مصروفة كقصبات، قال النحويون: ويجوز ترك صرفه، كما يجوز ترك صرف عامات وأذرعات على أنَّها اسم مفرد لبقعة. تهذيب الأسماء واللغات (4/ 55-56).
شرح الحديث
قوله: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«خيرُ الدعاءِ» أي: خيره لصاحبه وأنفعه؛ وذلك لكونه أعجل إجابة، وأجزل ثوابًا. الميسر (2/ 608).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قوله: «خير الدعاء» معناه: من خير الدعاء، أو خيره لصاحبه؛ لكونه أعجل إجابةً، وأجزل ثوابًا. الأزهار، مخطوط، لوح (253).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«خير الدعاء دعاء يوم عرفة» أي: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وقد بيَّنه في آخره بأنه: لا إله إلا الله إلى آخره، كأنه قال: خير الدعاء: لا إله إلا الله.. إلى آخره، إلا أنه جاء بهذا على هذا النحو من الإخبار؛ ليفيد أنَّ ليوم عرفة اختصاص بهذا الدعاء بعينه، وتسمى الكلمة الشريفة دعاء، مع أنَّها ثناء؛ لأنها تشارك الدعاء في جلب الإقامة، وحصول المراد. التنوير (5/ 546).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«دعاء يوم عرفة» الإضافة فيه يجوز أنْ تكون بمعنى اللام، أي: دعاء خُصَّ بذلك اليوم. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1989).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «دعاء يوم عرفة» رجَّح المزي جَرَّ دعاء؛ ليكون قوله: «لا إله إلا الله» خبرًا لـ«خير الدعاء»، ولخبر: «ما قلتُ أنا والنبيون». نيل الأوطار (5/ 73).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
إنما سماه دعاء؛ لأنه في معرض الدعاء وفي معناه، وقد سُئل سفيان الثوري عن هذا الحديث، فقيل له: هذا هو الثناء، فأين الدعاء؟ فأنشد قول أُمية بن أبي الصلت في ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني *** حياؤك إن شيمتك الحياء.
إذا أثنى عليك المرء يومًا *** كفاه من تعرضه الثناء. الميسر (2/ 609).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
لما شارك الذكر الدعاء في أنَّه جالب للثواب، ووصلة على حصول الطلبات ساغ عدُّه من جملة الدعاء. تحفة الأبرار (2/ 152).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فإنْ قيل: هو ذكر وليس دعاء؟ أجيب بوجهين:
أحدهما: أنَّه على سبيل التعريض، تجنُّبًا عن التصريح مراعاة للأدب...
وثانيهما: الاشتغال بخدمة المولى، والإعراض عن الطلب اعتمادًا على كرمه، فإنَّه لا يضيع أجر المحسنين، قال: «مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطيْ السائلين». الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1989).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قد يكون الدعاء مجرد إخبار بالحال، واعتراف؛ لقول موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِير} القصص: 24، أخبر عن نفسه فقط، والله -عز وجل- إذا أخبره عبده بحاله فمعناه: أنَّه يسأل أنْ يزيل تلك الحال إلى حالٍ خير منها، وقد يكون الدعاء دعاءً مجرَّدًا فقط، مثل قول الإنسان في صلاته: رب اغفر لي، وارحمني، بين السجدتين ما تقدمه ثناء، بل هو دعاء محض، وقد يكون الدعاء ثناءً محضًا؛ يعني: تثني على الله -عز وجل-: اللهم أنت الكريم العظيم الرحيم، وما أشبه ذلك، فهذا أيضًا من الدعاء؛ ولهذا قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له...» إلخ. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 172).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«خيرُ ما قلتُ» إشارة إلى ذكر غير الدعاء، فلا حاجة إلى جعل «ما قلتُ» بمعنى: ما دعوتُ، نعم قد ورد في بعض الطرق: «دعائي ودعاء مَن قبلي من النبيين». لمعات التنقيح (5/ 358).
قوله: «وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون قبلي»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «وخير ما قلتُ» بمعنى: خير ما دعوت. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1989).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وخير ما قلتُ أنا والأنبياء قبلي» الظاهر أنه أراد بهم ما يشمل المرسلين. فيض القدير (3/ 471).
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
ولا يخفى أنَّ عبارة هذا الحديث لا تقتضي أنْ يكون الدعاء قوله: «لا إله إلا الله...» إلخ، بل المراد: أنَّ خير الدعاء ما يكون يوم عرفة، أيّ دعاء كان، وقوله: «وخير ما قلتُ» إشارة إلى ذكر غير الدعاء، فلا حاجة إلى جعل «ما قلتُ» بمعنى: ما دعوتُ، ويمكن أنْ يكون هذا الذكر توطئة لتلك الأدعية؛ لما يستحب من الثناء على الله قبل الدعاء. تحفة الأحوذي (10/ 33).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يريد -والله أعلم-: أنَّه أكثر ثوابًا من غيره من الأذكار، ويحتمل أنْ يريد أنه أفضل ما دعا إليه، إلا أنَّ الأول أظهر؛ لأنه أورد ذلك في تفضيل الأذكار بعضها على بعض، ويحتمل أنْ يخص هذا الدعاء بأنَّه أفضل ما دعا به هو والنبيون قبله، يعني: أنَّ الأنبياء -صلوات الله عليهم- يدعون بأفضل الدعاء، ويُهدَون إليه، فإذا كان أفضل دعائهم، فهو أفضل الدعاء. المنتقى شرح الموطأ (3/ 79).
قوله: «لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«لا إلهَ» أي: لا معبود في الوجود بحق «إلا اللهُ» الواجب الوجود لذاته، «وحدَهُ» تأكيد لتوحيد الذات والصفات، فهو ردٌّ على الكرامية والجهمية القائلين بحدوث الصفات، ذكره البيهقي.
«لا شريك له» تأكيد لتوحيد الأفعال، ففيه رد على المعتزلة «له الملك» قال السهيلي: هذا أخذ في إثبات ما له بعد نفي ما لا يجوز عليه، «وله الحمد» قدم الملك عليه؛ لأنه ملك فحمد في مملكته، ثم ختم بقوله: «وهو على كل شيء قدير» ليتم معنى الحمد؛ إذ لا يحمد المنعم حقيقة حتى يعلم أنَّه لو شاء لم ينعم، وإن كان قادرًا على المنع، وكان جائزًا أنْ يمنع وأنْ يجود، فلما كان جائزًا له الوجهان جميعًا، ثم فعل الإنعام، استحق الحمد على الكمال. فيض القدير (3/ 471).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أي: أنّه لا معبودٌ بحقٍّ في الوجود «إلا اللهُ» أي: إلَّا الذَّات الواجب الوجود لذاته المستجمع لجميع الكمالات المُنزُّه عن جميع النقائص.الكوكب الوهاج(2/34)
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
سُمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء؛ لأنه بمنزلته في استجلاب الثواب؛ لأن مَن ذكر فقد دعا وطلب. شرح المصابيح (3/ 288).
وقال المظهري -رحمه الله-:
هذا الحديث يشير إلى أنَّ قول: «لا إله إلا الله» من الدعاء، وهو ثناءٌ، فكيف يكون دعاءً؟
جواب هذا الإشكال: أنَّ مَن ذكرَ الله، فقد دعا الله بأي لفظٍ ذكرَه؛ ولأنَّ مَنْ ذكرَ الله يعطيه الله حاجتَه، وإن لم يطلبْ منه قضاءَ حاجته باللَّفظ؛ لقوله -عليه السلام- حكاية عن الله أنَّه قال: «مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أعطي السائلين»؛ فإذا كان الذكر سبب قضاء الحوائج، وتحصيل الثواب، فهو كالدعاء. المفاتيح (3/ 301).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أجيب عن الإشكال المذكور أيضًا: بأنَّه لما شارك الذكر الدعاء في أنه جالب للمثوبات، ووصلة إلى حصول المطلوبات، ساغ عدُّه من جملة الدعوات، فيكون من قبيل الكنايات التي هي أبلغ في قضاء الحاجات، فإنَّ التلويح أولى من التصريح (بل الإلحاح في الدعاء ممدوح ومأمور به؛ وهو من التذلل إلى الله)، ويمكن أنْ تكون الإشارة إلى أنَّه ينبغي للعبد أنْ يشتغل بذكر المولى، ويعرض عن المطالبة في الدنيا، والأخرى اعتمادًا على كرمه وإحسانه وإنعامه وامتنانه، فقد ورد: «مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»، وفي هذا المقام كمال التفويض والتسليم بالقضاء على وجه الرضا، كما قيل:
وكلتُ إلى المحبوب أمري كله *** فإنْ شاء أحياني وإن شاء أتلفا.
ويمكن أنْ يُقال: يلزم من الذكر الدعاء. مرقاة المفاتيح (5/ 1802).
وقال النووي -رحمه الله-:
يُستحبّ الإِكثارُ من هذا الذكر والدعاء، ويَجتهدُ في ذلك، فهذا اليوم أفضلُ أيام السَّنة للدعاء، وهو معظمُ الحج ومقصودُه، والمعوّل عليه، فينبغي أنْ يستفرغَ الإنسانُ وسعهُ في الذكر والدعاءِ، وفي قراءةِ القرآنِ، وأنْ يدعوَ بأنواع الأدعية، ويأتي بأنواع الأذكار، ويدعو لنفسه، ويذكر في كلّ مكانٍ، ويدعو مُنفردًا، ومع جماعة. الأذكار (ص:342).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- معلقًا:
أما الدعاء الجماعي، فلا أعلم له أصلًا، والأحوط تركه؛ لأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم- فيما علمتُ، لكن لو دعا إنسان في جماعة، وأمَّنُوا على دعائه، فلا بأس في ذلك، كما في دعاء القنوت، ودعاء ختم القرآن الكريم، ودعاء الاستسقاء ونحو ذلك. مجموع الفتاوى (17/ 274).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- أيضًا:
فينبغي الإكثار من هذا الذكر، وتكراره بخشوع، وحضور قلب، وينبغي الإكثار أيضًا من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت، ولا سيما في هذا الموضع، وفي هذا اليوم العظيم، ويختار جوامع الذكر والدعاء. مجموع الفتاوى (16/ 69).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ينبغي له أنْ يحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها...، وإذا لم يُحِطْ بالأدعية الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، دعا بما يعرف من الأدعية المباحة. مجموع الفتاوى (24/ 533).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
أفضل الذكر (لا إله إلا الله) كما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا وغيرهما مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله»، وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبيد الله بن كَريز: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، ومَن زَعَمَ أنَّ هذا ذِكْر العامة، وأنَّ ذِكْر الخاصة هو الاسم المفرد (الله)، وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر (هو) فهم ضالون غالطون. الفتاوى الكبرى (5/ 210).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
فيه تفضيل الدعاء بعضه على بعض، وتفضيل الأيام بعضها على بعض، ولا يعرف شيء من ذلك إلا بتوقيف، فقد ثبت في يوم الجمعة ويوم عاشوراء ويوم عرفة ما هو مذكور في كتابنا هذا في مواضعه، ومعروف أيضًا في غيره، وجاء الاستدلال بهذا الحديث على أن دعاء عرفة مجاب كُلُّه في الأغلب إن شاء الله، إلا للمعتدين في الدعاء بما لا يرضي الله. الاستذكار (2/ 531).