الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

«إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَّت لأهلِ المدينة ذا الحُليفة، ولأهلِ الشامِ الجُحْفَةَ، ولأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ المنازل، ولأهلِ اليمنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لهُنَّ، ولمنْ أَتَى عليهنَّ مِنْ غيرهنَّ، ممنْ أرادَ الحجَّ والعُمرةَ، ومَن كان دونَ ذلك، فمِنْ حيثُ أَنْشَأَ حتى أهلُ مكة مِن مكةَ».


رواه البخاري برقم (1524) واللفظ له، ومسلم برقم (1181)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«وقَّتَ»:
أي: حدَّد، وأصل التوقيت: أنْ يُجْعَلَ للشيء وقتٌ يختص به، ثم اتسع فيه، فأطلق على المكان أيضًا. فتح الباري، لابن حجر (3/ 385).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قد تكرَّر ذكر التوقيت والميقات في الحديث، والتوقيت والتأقيت: أنْ يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقَّت الشيء يوقته، ووقته يَقِتُهُ: إذا بيَّن حدَّه، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات، وهو مِفعال منه، وأصله: موقات، فقُلِبَت الواو ياء؛ لكسرة الميم. النهاية (5/ 212).

«ذو الحليفة»:
ذو الحُلَيْفَة بالتصغير: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، منها: ميقات أهل المدينة. مراصد الاطلاع، للقطيعي (1/ 420).

«الجُحفة»:
بالضم، ثم السكون، والفاء: كانت قرية كبيرة، ذات منبر، على طريق مكة، على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام، إنْ لم يمرّوا على المدينة، وكان اسمها مهيعة، وسمّيت الجحفة؛ لأن السيل جحفها، وبينها وبين البحر ستة أميال، وبينها وبين غدير خمّ ميلان. مراصد الاطلاع، للقطيعي (1/ 315).

«نَجْدٍ»:
ناحية المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهلها، وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض، والغَوْر: ما انخفض منها وتهامة كلها من الغَوْر، ومنها مكة. أعلام الحديث (4/ 2330).

«قرن المنازل»:
جُبيل قُرْب مكَّة، يحرم منه حجّاج نَجْد. مراصد الاطلاع، للقطيعي (3/ 1314).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
والقرن: موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني. الصحاح (6/ 2181).
وقال ابن العطار -رحمه الله-: غلط (الجوهري) من أوجهٍ:
أحدها: جعله بالفتح موضعًا، وهو بالإسكان.
الثاني: نسبة أويس القرني إليه، وهو منسوب إلى بطن من مراد، يقال له: قَرَن، بالفتح.
والثالث: جعله ميقات أهل نجد، والميقات بالإسكان بلا خلاف، كما بيناه، فالمكان بالإسكان، والقبيلة بالفتح، والنسبة إليها بالفتح بلا خلاف، وممن ذكر ذلك على الصواب: الدارقطني والسمعاني وابن حبيب في المختلف والمؤتلف في أسماء قبائل العرب -والله أعلم-. العدة في شرح العمدة (2/ 938).

«يَلَمْلَمَ»:
(ألملم) بفتح أوله وثانيه، ويُقال: يلملم، وهما لغتان صحيحتان مستعملتان، جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة، وهو ميقات أهل اليمن. مراصد الاطلاع، للقطيعي (1/ 112).


شرح الحديث


قوله: «إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَّتَ»:
قال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «وَقَّتَ» أي: حدَّ، وجعله لهم ميقاتًا، وحدَّ الحدَّ الذي يحرمون منه، ومنه: الوقت والمواقيت كلها حدود للعبادات، ويكون: «وَقَّتَ» بمعنى: أوجب، أي: أوجب عليهم الإحرام منه، ومنه: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} النساء: 103. مطالع الأنوار (6/ 233).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«وقَّت» أي: عيَّن، والتوقيت التعيين، فلا يُقال: إنَّ ذا الحليفة هو الميقات المكاني، لا الزماني، فَلِمَ قال: «وقَّت»؟ الكواكب الدراري (8/ 62).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وإنَّما قيل له: الميقات، مع أنَّه لتعيين المكان، لا الوقت -وهو الزمان- لأن الحوادث أكثر ما تُضبط بالأوقات. الكوثر الجاري (4/12- 13).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقوله ها هنا: «وقَّت» يحتمل أنْ يُراد به: التحديد، أي: حدَّ هذه المواضع للإحرام، ويحتمل أنْ يُراد بذلك: تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحج أو العمرة، ومعنى توقيت هذه الأماكن للإحرام: أنه لا يجوز مجاوزتها لمريد الحج أو العمرة إلا محرمًا، وإنْ لم يكن لفظة «وقَّت» من حيث هي هي تصريح بالوجوب، فقد ورد في غير هذه الرواية: «يهل أهل المدينة»، وهي صيغة خبر يُراد به الأمر، وورد أيضًا في بعض الروايات لفظة (الأمر). إحكام الأحكام (2/ 46-47).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
حكَى الأثرم عن أحمد أنَّه سُئل: في أي سنةٍ وقَّت النبي -صلى الله عليه وسلم- المواقيت؟ فقال: عام حج، انتهى، وقد سبق حديث ابن عمر في (العلم) بلفظ: «أنَّ رجلًا قام في المسجد، فقال: يا رسول الله، من أين تأمرنا أنْ نُهِلَّ؟» فتح الباري (3/ 389).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
ويُشكل على ذلك أنَّهم تصدوا جميعًا للاعتذار عن مجاوزة أبي قتادة عام الحديبية عن المواقيت بغير إحرام، وذكروا لذلك توجيهات مختلفة، وإذا كان التوقيت عام حجة الوداع لم يكن حاجة إلى الجواب، والاعتذار عنه. مرعاة المفاتيح (8/ 342).

قوله: «لأهلِ المدينةِ ذَا الحُليفة»:
قال ابن العطار -رحمه الله-:
المدينة: اسم لمدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولها أسماء أُخر: الدار وطَابة وطيبة والعذراء وجابرة والمجبورة والمحبة والمحبوبة والقاصمة؛ لأنها قصمت الجبابرة، وكره بعض العلماء تسميتها يثرب، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولم تزل عزيزة في الجاهلية، تمنعت على الملوك السالفة، وغيرهم، أعزها الله -عز وجل- برسوله -صلى الله عليه وسلم-. العدة في شرح العمدة (2/ 936-937).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
فـ(أل) في المدينة للغلبة، كالعقبة لعقبة أيلة، والبيت للكعبة. إرشاد الساري (10/ 338).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
المراد بأهل المدينة ساكنوها، ومَن سلك طريق سفرهم، فمرَّ على ميقاتهم، ويؤيده عراقي خرج من المدينة، فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير محرم. فتح الباري (3/ 386).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله: «ذا الحُليفة» قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي ميقات أهل المدينة، وتُسمَّى أيضًا: الشجرة، وكان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ينزل بها حين يعتمر، وحين حج حجة الوداع، وقد اعتمر منها مرتين: عمرة الحديبية وعمرة القضية.
وقد ذكر ابن عمر في حديثه أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان ينزل بها تحت سمرة في موضع المسجد الذي بُني بها، وهذا يدل على أنَّ المسجد لم يكن حينئذٍ مبنيًّا، إنَّما بُنِيَ بعد ذلك في مكان منزل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- منها، وكان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يحرم منها، وكان يصلي بها في موضع المسجد، وقد رُوي أنَّه صلى في المسجد، ولعل المراد في بقعته وأرضه، قبل أنْ يُجعل مسجدًا؛ حتى يُجمع بذلك بين الحديثين. فتح الباري (3/ 430-431).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أبعد المواقيت من مكة ذو الحُليفة، ميقات أهل المدينة، فقيل: الحكمة في ذلك أنْ تَعْظُم أجور أهل المدينة، وقيل: رفقًا بأهل الآفاق؛ لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة، أي: ممن له ميقات معين. فتح الباري (3/ 386).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ذا الحُليفة» بضم الحاء المهملة، وبعد اللام مثناة تحتية، وفاء تصغير حَلفَة والحلفة واحدة الحَلفَاء: نبت في الماء، وهي مكان معروف بينه وبين مكة عشر مراحل، وهي من المدينة على فرسخ، وبها المسجد الذي أحرم منه -صلى الله عليه وسلم-، والبئر التي تُسمَّى الآن بئر علي، وهي أبعد المواقيت إلى مكة. سبل السلام (1/ 611).

قوله: «ولأهلِ الشامِ الجُحفةَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ولأهل الشام» أي: مِن طريقهم القديم؛ لأنَّهم الآن يمرون على مدينة النبي الكريم. مرقاة المفاتيح (5/ 1745).
وقال النووي -رحمه الله-:
الشأم مهموز، ويجوز تسهيل همزته، والشَّآم بالهمز والمد في لغة قليلة، وهو من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بَالِس (بلد بالشام بين حلب والرقَّة) والشَّام مُذكَّر، وقد يؤَنَّث، فيقال: الشَّام مبارك ومباركة.
قيل: سُمِّي بذلك لأنَّ سام بن نوح -صلى الله عليهما- أول مَن سكنه فسُمِّي به، وقيل: سُمِّيَ بذلك لكثرة قُراه ودُنُوّ بعضها من بعض كالشامات، وقيل: لأن باب الكعبة مشتمل، فَسُمِّي لذلك شامًا، وقيل: إنَّ البيت لما كان اليمن عن يمينه، والشام عن شماله فسُمِّيا بذلك. الإيجاز في شرح سنن أبي داود (ص: 115-116).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقع في حديث عائشة عند النسائي (زيادة): «ولأهل الشام ومصر الجُحفة»، والمكان الذي يحرم منه المصريون الآن رابغ، بوزن فاعل براء وموحدة وغين معجمة قريب من الجُحفة، واختصت الجُحفة بالحمى، فلا ينزلها أحد إلا حُمَّ. فتح الباري (3/ 385).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وهذه زيادة (ومصر) يجب الأخذ بها، وعليها العمل. طرح التثريب (5/ 10).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «ولأهل الشام الجُحفة» وهي ميقات لهم، ولأهل مصر، وهي بجيم مضمومة، ثم حاء مهملة ساكنة، قيل: سُميت بذلك لأنَّ السيل أجحفها في وقتٍ، ويقال لها: مَهْيَعة، بفتح الميم، وإسكان الهاء، وفتح المثناة تحت، كما ذكره في بعض روايات مسلم، وحكى القاضي عياض عن بعضهم كسر الهاء، والصحيح المشهور إسكانها. شرح مسلم (8/ 81).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله: «ولأهل الشام الجُحفة» عامٌّ بالنسبة إلى مَن يمر بميقات آخر أولًا، فإذا قلنا: بالعموم الأول: دخل تحته هذا الشامي الذي مر بذي الحليفة، فيلزم أن يحرم منها، وإذا عملنا بالعموم الثاني -وهو أنَّ لأهل الشام الجُحفة- دخل تحته هذا المار أيضًا بذي الحليفة، فيكون له التجاوز إليها، فلكل واحد منهما عموم من وجه، فكما يحتمل أنْ يُقال: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه، يحتمل أنْ يُقال: «ولأهل الشام الجُحفة» مخصوصٌ بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت. إحكام الأحكام (2/ 48).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
ويحصل الانفكاك عنه بأنَّ قوله: «هن لهن» مفسر لقوله مثلًا: «وقت لأهل المدينة ذا الحليفة»، وأنَّ المراد بأهل المدينة: ساكنوها، ومَن سلك طريق سفرهم، فمر على ميقاتهم، ويؤيده: عراقي خرج من المدينة، فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير محرم، ويترجح بهذا قول الجمهور، وينتفي التعارض. فتح الباري (3/ 386).
وقال العراقي -رحمه الله- مُتعقِّبًا ابن دقيق العيد:
ولو سلك ما ذكرته أولًا من أنَّ المراد بأهل المدينة: مَن سلك طريق سفرهم، ومرًَ على ميقاتهم، لم يرد هذا الإشكال، ولم يتعارض هنا دليلان، ومن المعلوم أنَّ مَن ليس بين يديه ميقات لأهل بلده التي هي محل سكنه، كاليمني يحج من المدينة ليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم؛ وذلك يدل على ما ذكرناه أنه ليس المراد بأهل المدينة سكانها، وإنما المراد بأهلها: مَن حج منها، وسلك طريق أهلها، ولو حملناه على سكانها لوردت هذه الصورة، وحصل الاضطراب في هذا، فنفرق في الغريب الطارئ على المدينة مثلًا بين أنْ يكون بين يديه ميقات لأهل بلده أم لا، فنحمل أهل المدينة تارة على سكانها، وتارة على سكانها والواردين عليها، ويصير هذا تفريقًا بغير دليل، وإذا حملنا أهل المدينة على ما ذكرناه لم يحصل في ذلك اضطراب، ومشى اللفظ على مدلول واحد في الأحوال كلها -والله أعلم-. طرح التثريب (5/ 8).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
هذا الذي قاله وليّ الدين -رحمه الله- حسنٌ جدًّا -واللَّه تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (22/ 111).

وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وقد علم مما ذكرنا أنَّ ها هنا ثلاثة صور أو ثلاثة مسائل:
إحداها: أنْ يمر مَن ليس ميقاته بين يديه كاليمنى والعراقي والنجدي يمر أحدهم بذي الحليفة، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة أنه يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له المجاوزة عنها بغير إحرام؛ لأنه ليس ميقاته بين يديه، وعليه حملت المالكية «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن».
والثانية: أنْ يمر من ميقاته بين يديه، كالشامي مثلًا بذي الحليفة، واختلفوا فيه، فقالت الشافعية والحنابلة وإسحاق: يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له التأخير إلى ميقاته، أي: الجُحفة؛ لظاهر الحديث، خلافًا للمالكية والحنفية وأبي ثور وابن المنذر من الشافعية.
والثالثة: أنَّ المدني إذا جاوز عن ميقاته إلى الجُحفة، فهل يجوز له ذلك أم لا؟ وبالأول قالت الحنفية، كما في كتب فروعهم، وبالثاني قال الجمهور، وهو القول الراجح المعول عليه عندنا. مرعاة المفاتيح (8/ 351).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
الصواب عندي: أنَّ مَن مرَّ على أيّ ميقات من المواقيت المحدّدة شرعًا، وهو مريد لأحد النسكين، لا يجوز له أنْ يتجاوزها بغير إحرام مطلقًا، سواء كان من أهل تلك المواقيت أم من غيرهم، وسواء كان ميقاته أمامه أم لا، عملًا بظاهر النصّ -واللَّه تعالى أعلم بالصواب-. البحر المحيط الثجاج (22/ 111).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال ابن حجر -رحمه الله-: إذا لم يمروا بطريق المدينة وإلا لزمهم الإحرام من ذي الحُليفة إجماعًا، على ما قاله النووي.
أقولُ: وهو غريب منه وعجيب، فإنَّ المالكية وأبا ثور يقولون: بأن له التأخير إلى الجُحفة، وعندنا معشر الحنفية يجوز للمدني أيضًا تأخيره إلى الجُحفة، فدعوى الإجماع باطلة، مع وقوع النزاع. مرقاة المفاتيح (5/ 1745).

قوله: «ولأهل نجد قَرن المنازل»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ولأهل نجدٍ» أي: نجد الحجاز واليمن «قرْن المنازل» بسكون الواو، وتحريكها خطأ، جبل مدور أملس، كأنه بيضة، مشرف على عرفات. مرقاة المفاتيح (5/ 1745).
وقال النووي -رحمه الله-:
«ولأهل نجدٍ قرْن» هكذا وقع في أكثر النسخ «قرن» من غير ألف بعد النون، وفي بعضها «قرنًا» بالألف، وهو الأجود؛ لأنه موضع، واسم لجبل، فوجب صرفه، والذي وقع بغير ألف يقرأ منوَّنًا، وإنما حذفوا الألف كما جرت عادة بعض المحدثين يكتبون: يقول: سمعتُ أنس بغير ألف، ويقرأ بالتنوين، ويحتمل على بُعْد أنْ يُقرأ «قرنَ» منصوبًا بغير تنوين، ويكون أراد به: البقعة، فيترك صرفه. شرح صحيح مسلم (8/ 83).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولأهل نجدٍ قرْن المنازل» أما نجد فهو كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منها هنا التي أعلاها: تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق.
والمنازل بلفظ جمع المنزل، والمركَّب الإضافي هو اسم المكان، ويُقال له: قرْن أيضًا بلا إضافة، وهو بفتح القاف، وسكون الراء بعدها نون، وضبطه صاحب الصحاح بفتح الراء وغلَّطوه، وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى عياض تعليق القابسي أنَّ مَن قاله بالإسكان أراد الجبل، ومن قاله بالفتح أراد الطريق، والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان، وحكى الروياني عن بعض قدماء الشافعية: أنَّ المكان الذي يُقال له: قرن موضعان:
أحدهما: في هبوط، وهو الذي يقال له: قرن المنازل، والآخر: في صعود، وهو الذي يُقال له: قرن الثعالب، والمعروف الأول، وفي أخبار مكة للفاكهي: أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له: قرن الثعالب؛ لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب، فظهر أنَّ قرْن الثعالب ليس من المواقيت. فتح الباري (3/ 385).
وقال الشافعي -رحمه الله-:
وأهل نجدِ اليمن، وكل نجد قرْن. الأم (2/ 221).
وقال النووي -رحمه الله-:
قرن ميقات المتوجهين من نجد اليمن، ونجد الحجاز، هكذا قاله الشافعي في المختصر والأصحاب. المجموع (7/ 197).

قوله: «ولأهلِ اليمنِ يَلَمْلَمَ»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «ولأهل اليمن يَلملمَ» يقالُ له أيضًا: أَلملم بهمزة بدل الياء، ويرمرم براءين: وهو جبلٌ من جبالِ تهامةَ، على مرحلتين من مكَّة. منحة الباري (4/ 18).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وهذا الحديث وإنْ أطلق فيه أنَّ ميقات أهل اليمن يلملم، لكن المراد: أنه ميقات تهامة خاصة، فإنَّ نجد اليمن ميقات أهلها ميقات نجد الحجاز، بدليل أنَّ ميقات أهل نجد قرن، فأطلق اليمن، وأريد بعضه، وهو تهامة منه خاصة. إرشاد الساري (3/ 102).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قال أصحابنا وغيرهم: المراد بكون يلملم ميقات أهل اليمن بعض اليمن، وهو تهامة، فأما نجد فإن ميقاته قرن؛ وذلك لأن اليمن يشمل نجدًا وتهامة، فأطلق اليمن، وأريد بعضه، وهو تهامة منه خاصة.
وقوله فيما تقدم: «نجد» تناول نجد الحجاز، ونجد اليمن، فكلاهما ميقات أهله قرن. طرح التثريب (5/ 11).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فإنَّ لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين:
إحداهما: طريق أهل الجبال، وهم يصلون إلى قرن، أو يحاذونه، فهو ميقاتهم، كما هو ميقات أهل المشرق.
والأخرى: طريق أهل تهامة، فيمرون بيلملم، أو يحاذونه، وهو ميقاتهم، لا يشاركهم فيه إلا مَن أتى عليه من غيرهم. فتح الباري (3/ 386).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ولم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم أهل المواقيت نفسها، والجمهور على أنَّ حكمها حكم داخل المواقيت، خلافًا للطحاوي، حيث جعل حكمها حكم الآفاقي. مرقاة المفاتيح (5/ 1745).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
الأفضل في كل ميقات: أنْ يحرم من طرفه الأبعد من مكة، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز. فتح الباري (3/ 387).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
كون الأفضل الإحرام من الطرف الأبعد يحتاج إلى دليل، فتبصّر -والله تعالى أعلم بالصواب-. البحر المحيط الثجاج (22/ 113).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وأجمع العلماء على أن هذه المواقيت مشروعة تحرم مجاوزتها، فلو جاوزها أثم، ولزمه دم، وصح حجه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور.
وقال عطاء والنخعي: لا شيء عليه، وقال سعيد بن جبير: لا يصح حجه.
وفائدة الإحرام من هذه المواقيت تحرم مجاوزتها بغير إحرام، وأنه يلزمه الدم، فلو عاد إلى الميقات قبل التلبُّس بنسك سقط عنه الدم، وفي المراد بهذا النسك خلاف منتشر. العدة في شرح العمدة (2/ 941-942).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اختُلف فيمن مرَّ على واحد من هذه المواقيت مريدًا للإحرام، فجاوزه، فعن مالك: يرجع ما لم يحرم أو يشارف مكة، فإذا رجع لم يلزمه دم، فلو أحرم لم يرجع، ولزمه الدم، وبه قال ابن المبارك والثوري على خلاف عنه، وجماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة يأمرونه بالرجوع؛ فإن رجع سقط عنه الدم.
فأما من جاوز الميقات غير مريد للإحرام، ثم بدا له في النسك، فجمهور العلماء: على أنه يحرم من مكانه، ولا شيء عليه، وقال أحمد وإسحاق: يرجع إلى الميقات.
فأما من مرَّ على الميقات قاصدًا دخول مكة من غير نسك، وكان ممن لا يتكرر دخوله إلى مكة، فهل يلزمه الإحرام منه أو لا يلزمه؟ وإذا لم يلزمه فهو على الاستحباب، ثم إذا لم يفعله فهل يلزمه دم أو لا يلزمه؟ اختلف فيه أصحابنا.
وظاهر الحديث: أنه إنما يلزم الإحرام مَن أراد مكة لأحد النُّسكين خاصة، وهو مذهب الزهري وأبي مصعب، وجماعة من أهل العلم. المفهم (10/ 35-36).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
مذهب الزهريّ -رحمه الله-
ومن قال بقوله هو الحقّ. البحر المحيط الثجاج (22/ 109).
وقال العيني -رحمه الله-:
وأكمل الأحاديث (في المواقيت) حديث ابن عباس؛ لأنه ذكر فيه المواقيت الأربعة، وحديث ابن عمر لم يحفظ فيه ميقات أهل اليمن، وحديث جابر -رضي الله عنه- لم يجزم برفعه. عمدة القاري (2/ 217).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
(في) حديث ابن عمر وابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر المواقيت الأربعة، ولم يذكر ذات عرق. مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن (1/ 196).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
قد ذكرنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما تقدم منا في هذا الباب ميقات أهل المدينة، وميقات أهل اليمن، وميقات أهل نجد للحج، ولم يذكر ميقات أهل العراق، غير أنَّ في حديث ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي ذكرناه في ذلك أنه قال: «هي لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن»؛ فاحتمل أنْ يكون أهل العراق ممن أريد بذلك، وأنَّ ميقاتهم لحجهم ما أتوا عليه من هذه المواقيت، وقد روي عن ابن عمر ما يدل على أنَّ حكم أهل العراق كان عنده في ذلك هذا الحكم. أحكام القرآن (2/ 26).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
فهذه مواقيت الحجِّ من المكان لم يختلف في شيء منها، إلا في ذات عِرق، والجمهور على أنه: ميقات لأهل العراق، وقد استحب الشافعي لأهل العراق أنْ يُهِلُّوا من العقيق، معتمدًا في ذلك على ما رواه ابن عباس قال: «وقَّت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل المشرق العقيق، خرَّجه أبو داود، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف عندهم، وروي عن بعض السَّلف: أنه الرَّبَذَة.
واختلف أيضًا فيمن وقَّت ذات عِرق، ففي البخاري: أنَّ عمر بن الخطاب حدَّ لأهل العراق ذات عِرق، وقاله مالك، وحديث أبي الزبير عن جابر يدل على أنه بتوقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، غير أن فيه: «أحسبه»
فلم يجزم بالرواية، وقد روى النسائي من حديث عائشة حديث المواقيت على ما جاء في حديث ابن عمر المتقدم، وقال: «ولأهل العراق ذات عِرق» فجزم في الرواية، وهو صحيح، ولا يستبعد هذا بأنْ يُقال: بأنَّ العراق إذ ذاك لم يكن فتح، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أنها ستفتح وسيحج منها، فأعلم بذلك الميقات، وقد أقطع النبي -صلى الله عليه وسلم- مواضع لقوم من المسلمين، وملكهم إيَّاها مع علمه بأنها في أيدي الكفار؛ بناءً منه على علمه بأنها تفتح، كما أقطع تميمًا الداري بلد الخليل، وكتب له بذلك، وأشهد على نفسه أصحابه، على ما هو معروف مروي، وبعض تلك المواضع لم تزل بأيدي عَقِبِه حتى الآن. المفهم (3/ 263).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما ذات عرق بكسر العين، فهي ميقات أهل العراق، واختلف العلماء هل صارت ميقاتهم بتوقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أم باجتهاد عمر بن الخطاب؟
وفي المسألة وجهان لأصحاب الشافعي: أصحهما وهو نص الشافعي -رضي الله عنه- في الأم بتوقيت عمر -رضي الله عنه-؛ وذلك صريح في صحيح البخاري، ودليل مَن قال: بتوقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث جابر، لكنه غير ثابت لعدم جزمه برفعه، وأما قول الدارقطني: إنه حديث ضعيف؛ لأن العراق لم تكن فتحت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكلامه في تضعيفه صحيح، ودليله ما ذكرته، وأما استدلاله لضعفه بعدم فتح العراق ففاسد؛ لأنه لا يمتنع أن يخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلمه بأنه سيفتح، ويكون ذلك من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم-، والإخبار بالمغيبات المستقبلات، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- وقَّت لأهل الشام الجحفة في جميع الأحاديث الصحيحة، ومعلوم أن الشام لم يكن فتح حينئذٍ، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أخبر بفتح الشام واليمن والعراق، وأنهم يأتون إليهم يبسُّون (أي: يسيرون) والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأنه زُوِيَتْ له مشارق الأرض ومغاربها وقال: «سيبلغ ملك أمتي ما زُوِيَ لي منها»، و«أنهم سيفتحون مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط»، و«أن عيسى -عليه السلام- ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق»، وكل هذه الأحاديث في الصحيح، وفي الصحيح من هذا القبيل ما يطول ذكره -والله أعلم-. شرح مسلم (8/ 81-82).
وقال مجد الدين أبو البركات ابن تيمية -رحمه الله-:
والنص بتوقيت ذات عرق، ليس في القوة كغيره، فإنْ ثبت، فليس ببدع وقوع اجتهاد عمر على وفقه، فإنه كان موفقًا للصواب. المنتقى (ص: 285).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي وقَّت المواقيت الخمسة: ذو الحليفة والجحفة وقرن المنازل ويلملم وذات عرق، لكن وافق اجتهاد عمر -رضي الله عنه- توقيته لأهل العراق ذات عرق لسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان لم يعلم ذلك حين وقت لهم ذات عرق، فوافق اجتهاده -رضي الله عنه- سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. مجموع فتاوى بن باز كتاب الحج والعمرة (1/ 76).

قوله: «هُنَّ لَهُنَّ»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «هُنَّ لَهُنَّ» يريدُ أنَّ هذه المواقيت «لَهنَّ» أي: لهذه البلدان الْمُسماةِ. أعلام الحديث (2/ 834-835).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «هُنَّ» أي: هذه المواقيت «لهن» عدل عن ضمير المذكَّرِين إلى ضمير المؤنثات؛ ليشاكلَ ما قبله، أو لإرادة مضافٍ محذوفٍ، أي: لأهلهن، وإلا فالقياسُ «لهم» كما في نسخةٍ. منحة الباري (4/ 18).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «هن لهن» الضمير في «هن لهن» عائد إلى المواضع والأقطار المذكورات، وهي: المدينة والشام واليمن ونجد؛ أي: هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد: أهلها.
وقد ورد ذكر الأهل في بعض الروايات، وحذفه من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. العدة في شرح العمدة (2/ 939)

قوله: «ولمنْ أَتَى عليهنَّ مِنْ غيرهنَّ»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «ولمن أتى عليهِن من غير أهلِهنَّ» يريدُ: مِن غَيرِ أهلِ هذه البلدانِ المذكورةِ، كاليمانيِّ إذا جاءَ من طريق الشامِ كان ميقاتُ إحرامِه الجحفةَ، والنجديِّ إذا جاء من اليمنِ، كان ميقاتُه يلملَمَ. أعلام الحديث (2/ 835).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ» يعني: كونه ميقاتًا للبلد الفلاني، لا يلزم أنْ يكون مخصوصًا بهم؛ بل كل من جاء من تلك الناحية هو ميقاتها؛ سواء كان من ذلك البلد ومن غيره. الكوثر الجاري (4/ 12).

قوله: «ممنْ أراد الحجَّ والعمرةَ»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «ممن أراد الحَجَّ والعمرةَ» أي: الإحرام، بأنْ قرن بينهما، أو الواو بمعنى: (أو). منحة الباري (4/ 19).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «مِمَّن أراد الحَجَّ والعُمرة» بيانُ أنَّ الإحرام في هذه المواضعِ، إنَّما يجب على مَنْ كَانَ عِندَ مُرورِه بها قَاصِدًا حجًّا، أو عمرةً، دونَ من يَرَى الإحرامَ بعدَ مُجاوَزَتِهِ إيَّاها، فإنَّ مَنْ حَضَرَتْهُ نِيَّةُ الحَج أو العمرةِ بعدَما جاوَزَها، كانَ لَهُ إنشاءُ مَا نَواه مِن الحج والعُمرةِ من حيثُ حَضرتهُ النيَّة، ولا يَلزَمُهُ دَمٌ كما يَلزَم من خَرَجَ من بَيتهِ يُريدُ الحَجَّ أو العُمرةَ، فَطوى الميقَاتَ وأحرمَ بعدما جَاوزَه. أعلام الحديث (2/ 835).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «ممن أراد الحج والعمرة» تمسك به الشافعية على أنَّ الإِحرام إنما يجبُ على مَنْ دخل مكة معتمرًا أو حاجًّا، أما مَنْ لم يردهما، بل أرادَ التجارةَ أو غيرها، فليس عليه إحرام.
ويجبُ عليه الإِحرام عندنا (الحنفية) مطلقًا؛ لأنه لتعظيم البقعة المباركة، فيستوي فيه الحاجُّ وغيره، فكأن الإِحرام عندنا لازمٌ لمن دَخَلها.
وأما عند الشافعية فموقوفٌ على إرادته إحدى العبادتين، وقوله: «ممن أراد الحج والعمرة» نصٌّ لهم. فيض الباري (3/ 174).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «مِمَّن أرادَ الحجَّ والعمرةَ» فيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام. البحر المحيط الثجاج (22/ 125).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله: «مِمَّن أراد الحجَّ والعمرةَ» استُدِلَّ به على أنَّ الحج ليس على الفور؛ لأن من مرَّ بهذه المواقيت لا يريد الحج والعمرة، يدخل تحته من لم يحج، فيقتضي اللفظ: أنه لا يلزمه الإحرام من حيث المفهوم، فلو وجب على الفور للزمه، أراد الحج أو لم يرده. إحكام الأحكام (2/ 49).

قوله: «ومَن كان دونَ ذلك، فمِنْ حيثُ أَنْشَأَ»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «فمَن كان دُون ذلك، فمن حيثُ أنشأَ» يريدُ: من كَانتْ دَاره دونَ ذلكَ إلى ما يلي الحَرم، أنشأَ الحَجَّ من دُويرَة أهلِهِ، ولا يلزَمهُ أن يصعَد إلى الميقاتَ، فيحرم منهُ. أعلام الحديث (2/ 835).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فمَن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» أي: مَن كان منزله دون المواقيت إلى مكة، فيحرم من منزله، فخفَّف عنه الخروج إلى الميقات، وحينئذٍ يصير منزله ميقاتًا خاصًّا به؛ إذا ابتدأ الإحرام منه، فلو مرَّ من منزله بعد المواقيت بميقات من المواقيت المعينة العامة، وهو يريد الإحرام وجب عليه أن يحرم منه، ولا يؤخر الإحرام إلى بيته؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «هن لهن، ولكل آتٍ أتى عليهن من غيرهن»، ويخالف هذا من كان ميقاته الجحفة، ومرَّ بذي الحليفة؛ فإن له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة؛ لأن الجحفة ميقات منصوب نصبًا عامًّا لا يتبدل، بخلاف المنزل، فإنه إضافي، يتبدل بتبدل الساكن، فانفصلا -والله تعالى أعلم-. المفهم (10/ 36).

قوله: «حتى أهل مكة من مكة»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «حتى» إنَّ أهل «مكة» يُهِلون من جَوفِ «مكةَ»، قلتُ: وهذا في الحَج، فأما العُمرة: فإنَّ أهل مكة يَخرجُونَ إلى أدنى الحِلّ، فَيُهلّونَ بما لا يجيزه غَيرُ ذلكَ، وإنَّما وجبَ عليهمُ الخُروج للعمْرة مِن أجل أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} آل عمران: 97، والحِجُّ معناه: القَصدُ، فَلَمَّا كانت أعمالُ العمرَةِ كُلُّها واقعَةً في الحَرَمِ، أوجَبنا عليهِ الخروجَ إلى طَرَفِ الحلِّ للإحرامِ لها؛ ليصير قاصِدًا إلى البيتِ، ولما لم يَكن للحَاجِّ بد مِنَ الخروجِ إلى عَرَفة للوقوفِ بها، وعندَ منصَرفِه منها يصيرُ قاصِدًا إلى البيتِ لم نوجِبُ عليه الخُروجَ إلى طرفِ الحِل. أعلام الحديث (2/ 835).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «من مكة» أي: لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه، بل يحرمون من مكة، كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة، فإنه يحرم من مكانه، ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، وهذا خاص بالحاج، واختلف في أفضل الأماكن التي يحرم منها.
وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، قال المحب الطبري: لا أعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة، فتعين حمله على القارن واختلف في القارن، فذهب الجمهور إلى أن حكمه حكم الحاج في الإهلال من مكة، وقال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحل، ووجهه: أنَّ العمرة إنما تندرج في الحج فيما محله واحد كالطواف والسعي عند من يقول بذلك، وأما الإحرام فمحله فيهما مختلف، وجواب هذا الإشكال: أنَّ المقصود من الخروج إلى الحل في حق المعتمر أن يَرِدَ على البيت الحرام من الحل، فيصح كونه وافدًا عليه، وهذا يحصل للقارن لخروجه إلى عرفة، وهي من الحل، ورجوعه إلى البيت لطواف الإفاضة، فحصل المقصود بذلك أيضًا. فتح الباري (3/ 386-387).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: ليس للمكي الإحرام من مكة بالعمرة، بل من الحل.
قلتُ: الحديث مخصوص به، أو لأن العمرة حج أصغر، والحج قصد، وهو الخروج من الحرم. الكواكب الدراري (8/ 62).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: دليل على فضيلة مكة والحرم والحج والعمرة؛ حيث إنَّ الله -عز وجل- شرع هذه المواقيت، والإحرام لمن أراد دخولهما؛ تشريفًا وتعظيمًا، أو التلبس بهما، أو بأحدهما -والله أعلم-.
وفيه دليل: على أنَّ هذه الأربعة المنصوص عليها مواقيت لأهلها المذكورين بنص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما مَن عداهم كأهل العراق، ومَن في معناهم على خطهم، فقد اختلف العلماء فيهم: هل ميقاتهم بنص منه -صلى الله عليه وسلم- أم باجتهاد من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؟ وهو وجهان لأصحاب الشافعي -رحمه الله-: أصحهما وهو نص الشافعي في الأم: أنه اجتهاد من عمر، وهو في صحيح البخاري...
وفيه دليل: على جواز إطلاق الميقات على الأمكنة، وإن كان أصله في الأزمنة؛ ولهذا قال الفقهاء: للحج والعمرة ميقاتان: زماني ومكاني، وسواء كل واحد منهما -والله أعلم-. العدة في شرح العمدة (2/942- 944).
قال الخطابي -رحمه الله-:
وفي الخَبرِ: دَليلٌ على أنَّ الكافِر إذا دَخلَ مكةَ فأسلَم بها، والغُلامَ إذ دخلها فاحتَلمَ هناك، والعبدُ يدخُلها فيُعتق بمكةَ، وأرادوا الحَج فأحرَموا من جَوفِ مكّةَ أنّه يجزيهمْ، ولا دَمَ عليهم، وهو قَولُ أصحابِ الرأيِ، وعند الشافعي يلزَمُهم دَمٌ، وقد علّق القَولُ فيه. أعلام الحديث (2/ 835).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان مواقيت الحجِّ والعمرة لأهل هذه البلاد، وغيرها ممن أتى عليها.
2. ومنها: أنه لا يجوز لأحد يريد مكة للحج والعمرة أنْ يتجاوز هذه المواقيت إلَّا متلبّسًا بالإحرام منها.
3. ومنها: أنه يدلُّ على أنه لا يجوز تأخير الإحرام من هذه المواضع المحدّدة، وفيه: ردّ على الحنفيّة حيث جوّزوا لمن كان داخل الميقات التأخير
إلى آخر الحلّ، ولأهل مكّة إلى آخر الحرم، فإنه مخالف لصريح قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: «فمن كان دونهنّ، فمن أهله، حتى إن أهل مكة يُهلّون منها».
4. ومنها: أنه لا يجوز لأحد أن ينشئ الإحرام قبل هذه المواقيت، حيث إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حدّها له؛ فلذا لا يرى بعض المحققين؛ كالبخاريّ جواز الإحرام قبلها أصلًا، وهو الأرجح عندي؛ لظواهر النصوص.
5. ومنها: أن في التحديد المذكور تعظيم شأن هذا البيت، وتشريفه بجعل هذا الْحِمَى الذي لا يتجاوزه حاجّ، أو معتمر، حتى يأتي بهذه الهيئة، خاشعًا لله تعالى، معظّمًا لشعائره، ومحارمه.
6. ومنها: أنَّ في تعدّد هذا التحديد رحمةً من الله تعالى بخلقه، وتسهيلًا لهم؛ إذ لو كان الميقات واحدًا لجميع البلدان لشقّ ذلك على مريدي النسك.
7. ومنها: أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث حدّد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذه المواقيت قبل إسلام أهلها؛ إشارة إلى أنهم سيدخلون في الإسلام، وأنهم سيحجّون، فيضطرّون إلى مواقيت ينشؤون منها الإحرام، فجاء الأمر كما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم-.
8. ومنها: أنه يؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك، فجاوز الميقات، ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يُحرِم من حيث تجدّد له القصد، ولا يرجع إلى الميقات؛ لقوله: «فمن حيث أنشأ».
9. ومنها: أنه استدلّ به ابن حزم -رحمه الله- على أن من ليس له ميقات، فميقاته من حيث شاء، قال في الفتح: ولا دلالة فيه؛ لأنه يختصّ بمن دون الميقات؛ أي: إلى جهة مكة. انتهى.
(و) لولا أثر عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- في تحديد ذات عرق بمحاذاة الميقات؛ لكان لما قاله ابن حزم وجه، لكن الحقّ هو ما عليه الجمهور؛ لما ذُكر -والله تعالى أعلم بالصواب-. البحر المحيط الثجاج (22/ 114)


ابلاغ عن خطا