«لا يَنْكِحُ الـمُحْرِمُ ولا يُنْكِحُ ولا يَخْطُبُ».
رواه مسلم (1409)، من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لا يَنْكِحُ»:
بفتح الياء، وكسر الكاف، وتحريك الحاء بالكسر؛ لالتقاء الساكنَين على الأصح من النُّسخ، أي: لا يتزوج لنفسه امرأة، مِن (نَكَحَ). مرقاة المفاتيح، للقاري (5/ 1849).
«ولا يُنْكِحُ»:
بضم الياء، وكسر الكاف مجزومًا، أي: لا يزوِّج الرجل امرأة إما بالولاية أو بالوكالة، مِن (أَنْكَحَ). مرقاة المفاتيح، للقاري (5/ 1849).
«ولا يَخْطُبُ»:
بضم الطاء من الخِطْبة بكسر الخاء، أي: لا يطلب امرأة لنكاحٍ (له أو لغيره). مرقاة المفاتيح، للقاري (5/ 1849).
شرح الحديث
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لا يَنكِح المحرم»:
المراد ها هنا العَقد؛ لأن الْمُحْرِم ممنوع من الوطء إجماعًا. نخب الأفكار (10/ 311- 312).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«لا يَنْكِح المحْرِم» بفتح الياء، أي: لا يتزوج. فتح العلام بشرح الإعلام (ص: 390).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«لا يَنكِح» بفتح أوله، أي: لا يَعقد لنفسه «المحرِم» بحجٍّ أو عُمرة أو بهما. شرح الموطأ (2/ 408).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «لا يَنكِح المحرم» هل هو الرجل أو المرأة؟ يشمل الرجل والمرأة، فالرجل لا يعقد على امرأة، والمرأة لا يُعقد لها على رجل. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 377).
قوله: «ولا يُنْكِحُ»:
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولا يُنكِح» بضمها أي: لا يُزَوِّج غيره، ولو بنيابة. فتح العلام بشرح الإعلام (ص:390).
وقال المازري -رحمه الله-:
معناه: ولا يعقد على غيره، ووجهه أنه لما كان ممنوعًا إنكاح نفسه مدة الإِحرام كان معزولًا تلك المدة عن أن يعقد لغيره، وشابه المرأة التي لا تَعقد على نفسها، ولا على غيرها. المعلم بفوائد مسلم (2/ 137).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ولا يُنكِح» يعني: ولا يُنكح غيره، وهذا يدل على أنه لا يكون وليًا في عقد النكاح، فلو أن الولي كان محرِمًا والزوج والزوجة مُحِلِّين، فعَقَدَ الولي فهذا حرام؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ولا يُنكِح». فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 377).
قوله: «ولا يَخْطُبُ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ولا يَخطب» مِن خَطَبَ يَخطُبُ -من باب نَصَرَ يَنْصُرُ- خِطبةً بالكسر فهو خاطب، والاسم منه الخِطبة أيضًا، فأما الخُطْبَة بالضم، فهو من القول والكلام، وإنَّما نهي عن الخِطبة أيضًا لما فيها من التعرض إلى النكاح. نخب الأفكار (10/ 311).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يخطب» يحتمل أنْ يريد به السفارة في النكاح، والسعي فيه، ويحتمل أن يريد به إيراد الخطبة حال النكاح، فأما السعي فإنه ممنوع، فإن سعى فيه وتناول العقد لسواه أو سعى فيه لنفسه، وأكمل العقد بعد التحلُّل، لم أرَ فيه نصًّا، وعندي أنه قد أساء والنكاح لا يفسخ. المنتقى شرح الموطأ (2/ 239).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولا يخطب» أي: لا يطلب تَزَوُّج امرأة لنفسه، أو غيره. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص:390).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال: «ولا يخطب» الخِطْبة أن يخطب امرأة إلى نفسه فيتزوجها، فلا يحل له أن يخطب، أما العقد فلأنه وسيلة قريبة إلى الجماع، وأما الخِطبة فلأنها وسيلة إلى العقد، فالخِطبة وسيلة إلى العقد، والعقد وسيلة إلى الجماع، والجماع معروف أنه محرَّم، فحُرِّمت هذه الأشياء الثلاثة سدًّا للذريعة، وهما ذريعتان أولى وثانية، الخِطبة ذريعة أولى، والعقد ذريعة ثانية. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 377).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
جاءت الرواية في الكلمات الثلاث بالنهي والنفي، والأول أصح، والثاني محمول عليه، وهو دليل على أن المحْرم ليس له أن يتزوج، ولا أن يزوِّج، وهو مذهب عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، وأكثر علماء التابعين، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
غير أن مالكًا قال: إذا نكح يفسخ بطلقة، وذهب الباقون إلى أنه لا يصح أصلًا، وقال ابن عباس: يصح منه العقد، ولا يحرم؛ لأنه -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرم، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي، والأصح -وهو ما عليه أكثرون-: أنه -عليه السلام- تزوجها عام عمرة القضاء في طريق مكة، قبل أن يحرم، وظهر أمر تزويجها بعد أن أحرم؛ ولذلك وَهِمَ ابن عباس، ثم بنى بها وهو حلال في المراجعة بِسَرِف؛ لما رُوي عن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة، عن ميمونة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال، وبنى بها حلالًا، وماتت بسَرِف، ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها.
وعن أبي رافع قال: تزوَّج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميمونة حلالًا، وبنى بها حلالًا، وكنت أنا الرسول بينهما.
ومن البيّن: أن خبر صاحب الواقعة والسفير فيه مرجَّح -عند التعارض- على خبر غيره. تحفة الأبرار (2/ 181- 182).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قلتُ: وقد ذهب إلى ظاهر هذا الحديث مالك والشافعي، ورأيَا النكاح إذا عقد في الإحرام مفسوخًا، سواء عقده المرء لنفسه، أو كان وليًّا فعقده لغيره.
وقال أصحاب الرأي: نكاح المحرِم لنفسه، وإنكاحه لغيره جائز، واحتجوا في ذلك بخبر ابن عباس: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محْرِم».
وتأوَّل بعضهم خبر عثمان على معنى أنه إخبار عن حال المحرِم، وأنه لاشتغاله بنُسكه لا يتسع لعقد النكاح، ولا يفرغ له.
وقال بعضهم: معنى «لا يَنكِح» أي: لا يطأ ليس أنه لا يعقد.
قلتُ: الرواية الصحيحة: «لا يَنْكِحِ المحرِم» بكسر الحاء على معنى النهي، لا على حكاية الحال، وقصَّة أبان في منعه عمر بن عبيد الله من العقد، وإنكاره ذلك عليه، وهو راوي الحديث دليل على أن المعنى في ذلك العقد، فأما أن المحرِم مشغول بنُسكه ممنوع من الوطء، فهذا من العلم العام المفروغ من بيانه باتفاق الجماعة والعامة من أهل العلم، والخبر الخاص إنما يُساق لعلم خاص، ومعنى مستفاد لولا الخبر لم يُعلم، ولم يستقر، فلا معنى لقصره على ما لا فائدة له، وعلم أن الظاهر من لفظ النكاح العقد في عُرف الناس، ولا شك أن قوله: «ولا يَنكِح» عبارة عن التزويج بلا إشكال، فكذلك «لا يُنكِح» عبارة عن العقد؛ لأن المعطوف به لا يخالف معنى المعطوف عليه في حكم الظاهر. معالم السنن (2/ 182- 183).
وقال الطيبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا الخطابي:
وذكر الخطابي أنَّها على صيغة النهي أصح.
قلتُ: قد أخرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وأبو عيسى وأبو عبد الرحمن (النسائي) في كتبهم، والذي وجدناه الأكثر فيما يعتمد عليه من روايات الأثبات هو الرفع في تلك الكلمات، وقد ذهب الأكثرون من فقهاء الأمصار، لا سيما من أصحاب الحديث إلى أنَّ المراد منه النهي، وإنْ روي على صيغة الخبر. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 2026-2027).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا الخطابي أيضًا:
روى الكلمات الثلاث بالنفي والنهي، وذكر الخطابي: أنَّها على صيغة النهي أصح على أنَّ النفي بمعنى النهي أيضًا، بل أبلغ، والأوَّلان للتحريم، والثالث للتنزيه عند الشافعي، فلا يصح نكاح المحرم، ولا إنكاحه عنده، والكل للتنزيه عند أبي حنيفة -رحمه الله-. مرقاة المفاتيح (5/ 1849).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ظاهر النهي في الثلاثة التحريم، إلا أنه قيل: إن النهي في الخِطْبة للتنزيه، وإنه إجماع، فإن صح الإجماع فذاك، ولا أظن صحته، وإلا فالظاهر هو التحريم، ثم رأيتُ بعد هذا نقلًا عن ابن عقيل الحنبلي: أنها تحرم الخطبة أيضًا.
قال ابن تيمية: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الجميع نهيًا واحدًا، ولم يفصِّل، وموجب النهي التحريم، وليس ما يعارض ذلك من أثر أو نظر. سبل السلام (1/ 621).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واختلف الفقهاء في ذلك (نكاح المحرِم) من أجل اختلاف الآثار، فذهب أهل المدينة إلى أن المحرم لا يَنكِح غيره، فإن فعل فالنكاح باطل، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر، وبه قال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد، واحتجوا أيضًا بحديث مالك عن نُبَيْهِ بن وهب عن أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان، قال: سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا ينكِح المحرِم ولا يُنكِح ولا يخطُبُ»، وذهب الثوري والكوفيون إلى أنه يجوز للمحرِم أن يَنكِحَ ويُنكِحُ غيره، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك، ذكره الطحاوي، ورُوي عن القاسم بن محمد والنخعي، وحجَّتهم حديث ابن عباس، وقالوا: الفُروج لا تحل إلا بنكاح أو بشراء، والأُمَّة مجمعة على أن المحْرِم يملك ذلك بشراء وهبة وميراث ولا يبطل ملكه، فكذلك إذا ملكه بنكاح لا يبطل ملكه قياسًا على الشراء، عن الطبري قال: والصواب عندنا أن نكاح المحرِم فاسد يجب فسخه؛ لصحة الخبر عن عثمان عن النبي -عليه السلام- بالنهي عن ذلك، وخبر ابن عباس أن النبي -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرِم، فقد عارضهم فيه غيرهم من الصحابة، وقالوا: تزوجها وهو حلال، فلم يكن قول القائلين: تزوجها وهو محرم أولى من قول القائلين تزوجها وهو حلال، وقد قال سعيد بن المسيَّب: وَهِمَ ابن عباس وإن كانت بخالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل، وحدثني يعقوب، حدثني ابن علية، حدثني أيوب قال: أنبئتُ أن الاختلاف إنما كان في نكاح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميمونة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث العباس بين يديه ليُنكحها إياه، فأنكحه، قال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: بعدما أحرم، وقد ثبت أن عُمر وعليًّا وزيدًا فرَّقوا بين محرِم نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن صحة ويقين، وأما قياسهم النكاح على الشراء؛ فإن الذين أفسدوا نكاح المحْرم لم يفسدوه من جهة القياس والاستنباط، فلتزمهم المقاييس والنظائر والأشباه، وإنما أفسدوه من جهة الخبر الوارد عن النبي -عليه السلام- بالنهي عن ذلك، فالذي ينبغي لمخالفيهم أن يناظروهم من جهة الخبر؛ فإن ثبت لزمهم التسليم له، وإن بطل صاروا حينئذٍ إلى استخراج الحكم فيه من الأمثال والأشباه، فأما والخبر ثابت بالنهي عن النكاح فلا وجه للمقايسة فيه. شرح صحيح البخاري (4/ 508- 510).
وقال المازري -رحمه الله-:
اختلف في نكاح المحرم: هل يجوز أم لا؟ فقيل: لا يجوز، وتعلق مَن لا يجيزه بهذا الحديث وشِبهه، وقيل: يجوز، وتعلق مَن يجيزه بما رُوي «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نكح ميمونة وهو محرم»، فرجح مَن لا يجيز ذلك مذهبه بأن النهي الذي ورد من النبي -صلى الله عليه وسلم- قولٌ، والذي ذكر من حديث ميمونة فعلٌ، والقول مقدم على الفعل؛ لأنه يتعدى، والفعل قد يكون مقصورًا عليه -صلى الله عليه وسلم-، وقد خص في النكاح وفي غيره بخصائص، وقد روي أيضًا في حديث ميمونة من طريق آخر أنه تزوجها وهو حَلال، وهذا ما يقوي تقديم القول ها هنا بلا شك؛ لأن القول أولى بأن يقدَّم من فعل مختلف فيه، ويصح بناء الروايتين في الفعل، فيقال: الرواية مَن روى أنه حلال هي الأصل، وتحمل الرواية الأخرى على أن قوله: «نكحها وهو محرم» أي: حالٌّ في الحرم لا عاقد الإِحرام على نفسه -صلى الله عليه وسلم-، ومَن حلّ بالحرم ينطلق عليه اسم محرِم وإن كان حلالًا، فتُبنى القولتان على هذا، ويخرجان عن التكاذب. المعلم بفوائد مسلم (2/ 137).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لا يَنكِح المحرِم، ولا يُنكِح، ولا يخطُب» لا خلاف في منع المحرِم من الوطء، والجمهور على منعه من العقد لنفسه ولغيره، ومن الخطبة كما هو ظاهر هذا الحديث، وكما دل عليه قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} البقرة: 197، على أحد التأويلات المتقدمة في كتاب الحج، وذهب بعضهم: إلى أنه يجوز للمحرم ذلك؛ تمسكًا بحديث ابن عباس: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرِم» وهذا لا حجة فيه لأوجه:
أحدها: أن هذا الحديث مما انفرد به ابن عباس دون غيره من كبراء الصحابة ومعظم الرواة.
وثانيها: إنكار ميمونة لهذا، وإخبارها بأنه -صلى الله عليه وسلم- تزوَّج بها، وهو حلال، وهي أعلم بقصتها منه.
وثالثها: أن بعض أهل النقل والسِّير ذكر: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث مولاه أبا رافع من المدينة، فعقد نكاحها بمكة بوكالة النبي -صلى الله عليه وسلم- له على ذلك، ثم وافى النبي -صلى الله عليه وسلم- محرِمًا، فبنى بها بِسَرِف حلالًا، وأشهر تزويجها بمكة عند وصوله إليها.
ورابعها: أن قول ابن عباس: "وهو محرِم" يحتمل أن يكون دخل في الحرم، فإنه يقال: أَحَرَم؛ إذا دخل في الحرم، واسم الفاعل منه: محرِم؛ كما يقال: أنجد، وأَتْهَم، وهو مُنجِد، ومُتهِم؛ إذا دخل ذلك.
وخامسها: تسليم ذلك كله، وادعاء الخصوصية بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ظهرت تخصيصاته في باب النكاح بأمور كثيرة؛ كما خُص بالموهوبة، وبنكاح تسع، وبالنكاح من غير ولي، ولا إذن الزوجة؛ كما فعل مع زينب، إلى غير ذلك.
وسادسها: أن هذه حكاية حال واقعة معينة، تحتمل أنواعًا من الاحتمالات المتقدمة.
والحديث المقتضي للمنع ابتداء تقعيد قاعدة وتقريرها، فهو أولى على كل حال، والله الموفق. المفهم (4/ 104- 106).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
وفيه: أنه يحرم على المحرِم أن يتزوج أو يزوج غيره للنهي المذكور؛ ولأن الإحرام عبادة تحرِّم الطيب، فحرَّمت ذلك كالعِدة، فلو فعل ذلك لم يصح، وظاهر الحديث أنه يحرم عليه الخطبة أيضًا، وليس مرادًا، بل المراد أنها تُكره كراهة تنزيه، كما نص عليه الشافعي والأصحاب، فهي جائزة وإن كُرهت.
فإن قلتَ: كيف تجوز وما عُطفت عليه حرام؟
قلنا: لا يمتنع ذلك، كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141، والأكل مباح والإيتاء واجب.
ويكره أيضًا للحلال خطبة محرمة؛ ليتزوجها بعد إحلالها، بخلاف خطبة المعتدة، فإنها تحرم، وفرق بأن المحْرمة متمكنة من تعجيل تحللها، والمعتدة لا يمكنها تعجيل، فربما غلبتها الشهوة، فأخبرت بانقضاء عدتها قبل انقضائها. فتح العلام بشرح الإعلام (ص:390- 391).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
وتُكره الخطبة للمُحرِم، وخِطبة المحرَّمة، ويُكره للمُحرِم أن يخطب للمُحِلِّين؛ لأنه قد جاء في بعض ألفاظ حديث عثمان: «لا يُنكِحُ المُحرِم، ولا يُنكَح، ولا يخطُب» رواه مسلم. ولأنه تسبب إلى الحرام، فأشبه الإشارة إلى الصيد.
والإحرام الفاسد كالصحيح في منع النكاح، وسائر المحظورات؛ لأن حكمه باقٍ في وجوب ما يجب في الإحرام، فكذلك ما يُحرَّم به. المغني(3/308)
وقال النووي -رحمه الله-:
واعلم أنّ النهي عن النكاح والإنكاح في حال الإحرام نهيُ تحريم، فلو عُقِد لم ينعقد، سواء كان المُحرِم هو الزوج أو الزوجة، أو كان العاقد لهما بولاية أو وكالة، فالنكاح باطل في كل ذلك، حتى لو كان الزوجان والولي مُحلَّين، ووكّل الولي أو الزوجُ مُحرِمًا في العقد، لم ينعقد.
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا يخطب» فهو نهي تنزيه ليس بحرام، وكذلك يكره للمحرم أن يكون شاهدًا في نكاح عقده المحِلُّون، وقال بعض أصحابنا: لا ينعقد بشهادته؛ لأن الشاهد ركن في عقد النكاح كالولي، والصحيح الذي عليه الجمهور انعقاده. شرح صحيح مسلم (9/ 195).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
هذا الذي قاله النووي (في أن النهي عن الخِطبة للتنزيه) غريبٌ؛ لأنه سيأتي له أن النهي في النكاح نهي تحريم، فيبطل به النكاح، فلماذا فرق بين النكاح والخِطْبة وقد وردا في نص واحد؟ وما هو الدليل الذي يدل على التفريق بينهما؟ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (25/ 28).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ولهذا نقول: هذا الحديث يدل على تحريم هذه الأشياء الثلاثة: النكاح والإنكاح والخطبة في حال الإحرام؛ لأنها وسيلة إلى الجماع الذي هو أشد محظورات الإحرام إثمًا وأثرًا...
الإنكاح والنكاح والخِطْبة هذه الثلاثة حرام؟ نقول: الأصل في النهي التحريم، وعليه فلو تزوج المحرم رجلًا كان أو امرأة فالعقد فاسد؛ لأن النهي عاد إلى ذات الشيء، والنهي إذا عاد إلى الشيء أو إلى شرطه يقتضي الفساد؛ إذ إننا لو قلنا بصحة المنهي عنه لكان في ذلك مضادة لله ورسوله؛ لأن لازم التصريح النفوذ والنهي يقتضي التحريم...
هل على النكاح والإنكاح والخطبة للمحرم فدية؟ الآن نقول: هذه الأشياء حرام هل فيها فدية؟
يقول أهل العلم: إنه لا فدية فيها، حتى المشهور من المذهب أن لا فدية فيها، يقولون: لأنه إنما ورد النهي عنها، ولم يرد فيها إيجاب الفدية براءة للذمة، وهذا التعليل واضح... فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 377- 379).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عقد النكاح وعن وسائله وذرائعه، الوسائل والذرائع هما الخطبة والنكاح والعقد.
ففي هذا الحديث: تحريم نكاح المحرم، يُؤخذ ذلك من قوله: «لا يَنكِح»؛ وهو إن كان بالجزم فهو نهي صريح، وإن كان بالرفع فهو نفي بمعنى النهي، وظاهر الحديث أنه ما دام مُحرمًا فالنكاح غير صحيح، حتى ولو بقي عليه التحلل الثاني..
ومن فوائد الحديث: تحريم خِطْبة المحرم خاطبًا كان أو مخطوبًا؛ لقوله: «لا يخطب» «ولا يخطب عليه».
ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى سد الذرائع، كقوله: «ولا يخطب»، وظاهر الحديث أنه لا تجوز الخطبة تصريحًا ولا تعريضًا، وقد يقول قائل: إن الخِطْبة الكاملة هي الصريحة، وإن التعريض لا بأس به، مثل أن يصادف رجل آخر وهو مُحرِم ويقول مثلًا: لا تفوتني ابنتك، أو أنا أرغب في مثل ابنتك، هذا يُسمى عند العلماء تعريضًا، ولكن لا شك أن الأحوط هو ألا يخطب لا تعريضًا ولا تصريحًا. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 491 - 493).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
سِرُّ ذلك (سر النهي): أن المحرم قد تلبَّس بعبادة تستغرق وقته، فلا يشتغل بعبادة أخرى تنافي حالة تلك العبادة، كما أنه لو دخل في الصلاة لم يجز له أن يلابس الصدقة بنفسه، ولو دخل في صيام الفرض أو النذر لم يجز له أن يؤاكل الضيف؛ لأنها ليست من جنس العبادة التي شَرع فيها، بخلاف ما لو كانت العبادة من جنس عبادته، كذكر الله، وقراءة القرآن، فإنه لا يكون ممنوعًا من ذلك، وإلا فالنكاح عبادة، والخطبة له عبادة، لكن لكل عبادة موطن، ولكل مقام حال. الإفصاح (1/ 238).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وهذا دليل على أنه لا يصح أن يعقد المحْرم عقد نكاح لنفسه ولا لغيره، فإن فعل فالنكاح باطل، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: النكاح صحيح.
وأما الرجعة في حال الإحرام فلا تصح في إحدى الروايتين عن أحمد، وفي الرواية الأخرى تصح، وهو قول مالك والشافعي.
فأما الخطبة والشهادة على النكاح فيكره عندنا (الشافعية) في حق المحرِم. كشف المشكل (1/ 172- 173).
وقال اللكنوي -رحمه الله-:
والسرّ في النهي عن هذه الأمور: أنها من أمور العيش الدنيوي، والإحرام ينبغي فيه ترك الترفُّه والتعيُّش؛ ولذا نهي عن التطيُّب، ولُبْس المخيط، ونحو ذلك. التعليق الممجد على موطأ محمد (2/ 321).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال الشافعي والأصحاب: ويجوز أنْ يُراجِع المحْرِم المحْرِمة والْمُحِلَّة، سواء أطلَّقها في الإحرام أو قبله؛ لما ذكره المصنف (الشيرازي) هذا هو الصواب، وهو نص الشافعي في كتبه، وبه قطع المصنف والعراقيون، وذكر الخراسانيون وجهين: أصحهما هذا، والثاني: أنَّه لا تصح الرجعة بناء على اشتراط الشهادة على أحد القولين، والصواب الأول، والله أعلم. المجموع، شرح المهذب(7/ 285).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فهنا فرَّقنا بين ابتداء النكاح، وبين استدامة النكاح؛ لأن الرجعة لا تُسمى عقداً، وإِنما هي رجوع؛ ولأن الاستدامة أقوى من الابتداء. الشرح الممتع(7/١٥٦).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يؤخذ من الحديث:
- تحريم عقد النكاح للمحْرِم لنفسه، سواء كان رجلًا أو امرأة مُحْرِمَين، أو أحدهما محرِمًا، والآخر حلالًا، وهو نفي في معرض النهي فيقتضي فساد العقد.
- تحريم عقد النكاح لغيره إذا كان محرِمًا، ولو كان المعقود عليه حلالًا، سواء كان وليًّا أو وكيلًا؛ لعموم الحديث، وهو نفي بمعنى النهي فيقتضي فساد العقد.
- تحريم خِطْبة النكاح على المحرِم؛ لأن الخطبة وسيلة إلى عقد النكاح، والنكاح وسيلة إلى الجماع المحرَّم قبل التَّحَلُّلين: الأول والثاني للمحرم؛ لأن الجماع هو أغلظ محظورات الإحرام...
-الحكمة في تحريم النساء على المحرم: هو بعده عن ملاذ الحياة الدنيا وزينتها، وأن يجمع قلبه على أعمال الآخرة، وما يقربه إلى الله تعالى...
- الحديث من أدلة القاعدة الشرعية: "الوسائل لها أحكام المقاصد" فإن الخِطْبة لما كانت وسيلة إلى العقد، والعقد وسيلة إلى الجماع، حرمت الخطبة والعقد.
- جمع الحديث بين ما يحرم ولا يصح، وهو العقد، وبين ما يحرم ولا يوصف بصحة ولا فساد، وهو الخِطْبة. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (4/ 75- 77).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
منها: ما ترجم له المصنف (النسائي) -رحمه الله تعالى-، وهو بيان النهي عن نكاح المحرم، والنهي للتحريم، فلا ينعقد نكاحه أصلًا.
ومنها: تحريم الخِطبة على المحرِم أيضًا.
ومنها: أنه لا يجوز أن يعقد المحرم النكاح لغيره أيضًا، لا بالولاية، ولا بالوكالة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (25/ 30).