الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

«أعظمُ الناس ِأجرًا في الصلاةِ أبعَدُهم فأبعَدُهم مَمشىً، والذي ينتظرُ الصلاةَ حتى يصلِّيها مع الإمامِ أعظمُ أجرًا من الذي يُصلِّي، ثُمّ ينامُ».


رواه البخاري برقم: (651) واللفظ له، ومسلم برقم: (662)، من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.
وزاد مسلم «في جماعة»


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«مَمْشىً»:
اسم مكان، ويحتمل أنْ يكون مصدرًا ميميًّا، والأول أولى؛ لأنه الذي يوصف بالبُعد. دليل الفالحين، لابن علان (6/ 542)


شرح الحديث


قوله: «أعظم الناس أجرًا في الصلاةِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أعظمُ الناسِ» أي: أكثرهم «أجرًا في الصلاة» أي: في الإتيان إليها. مرقاة المفاتيح (2/ 592).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أعظم الناس أجرًا» أي: ثوابًا، وهو نُصب على التمييز. فيض القدير (2/ 4).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«في الصلاة» (في) تعلِيليّة: أي: لأجلها. دليل الفالحين (6/ 542).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أعظمُ الناس أجرًا في الصلاة» الفريضة. التنوير (2/ 501).

قوله: «أبعدُهم فأبعدُهم ممشى».
قال المناوي -رحمه الله-:
«أبعَدُهم» بالرفع خبر «أعظم الناسِ»، «إليها مَمْشًى» بفتح فسكون، تمييز، أي: أبعَدُهم مسافةً إلى المسجد؛ لكثرة الخُطا فيه المتضمنة للمشقّة؛ «فأبعَدُهم» أي: أبعَدُهم ثم أبعَدُهم، فالفاء هنا بمعنى: ثُمّ. فيض القدير (2/ 4).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«الممشَى» مصدر ميمي، أو مكان؛ يعني: من كان من بيته إلى المسجد أبعد مسافةً فأجرُه أكثرُ؛ لأن الأجر بقدر التعب (إذا لم يكن التعب مقصودًا لذاته). المفاتيح (2/ 64).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«فأبعَدُهم» الفاء فيه للاستمرار، كما في قوله: «الأمثل فالأمثل»، و«الأكمل فالأكمل». الكاشف عن حقائق السنن (3/ 932).
وقال العيني -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: لم يذكر أحدٌ من النُحاة أنَّ الفاء تجيء بمعنى الاستمرار، ولكن يمكن أنْ تكون الفاء ها هنا للترتيب مع تفاوت من بعض الوجوه...، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} المؤمنون: 14، فالفاءات فيها بمعنى: ثُمّ؛ لتراخي معطوفاتها، فعلى هذا: يجوز أنْ تكون الفاء ها هنا بمعنى: ثُمّ، بمعنى: أبعَدُهم ثم أبعَدُهم. عمدة القاري (5/ 169-170).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
«أبعدُهم ممشَى» فيه: أنَّ سبب أعظمية الأجر في الصلاة هو: بُعدُ المَمشَى، وهو المسافة؛ وذلك لوجود المشقة فيه، وقد علم أنَّ أفضل الأعمال أَحمزُها (أي: أشقها) فكلُّ صلاة تُوجد فيها المشقَّة من حيثُ بُعد المَمْشَى فهي أعظم أجرًا وأفضل من الصلاة التي لا يوجد فيها ذلك. عمدة القاري (5/ 169).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أبعَدُهم إليها مَمْشَى» فإنّه كلّما بَعُدَ ممشاهُ، كثرت خُطاه، وحُطّت خطاياه، ورُفعت درجاته، وهذا الأجر بالنظر إلى المشي، فلا ينافيه أعظمية أجرها بالنظر إلى غيره. التنوير (2/ 501).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
«ممشَى» فيه التصريحُ بأنَّ أجر مَن كان مسكنه بعيدًا من المسجد، أعظمُ ممَّن كان قريبًا منه؛ وذلك لما ثبت عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاةُ الرجلِ في جماعةٍ تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه: خمسًا وعشرين درجة؛ وذلك بأنَّ أحدَكم إذا توضّأ فأحسنَ الوُضوء، وأتى المسجد لا يريد إلا الصّلاة، لم يخطُ خُطْوَةً إلا رفع له بها درجة، وحُطّ عنه بها خطِيئة، حتى يدخل المسجد». نيل الأوطار (3/ 159).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
إنَّ الأبعد من المسجد أعظمُ أجرًا من القريب منه، فكلُّ مَن كان أبعدَ، كان أكثر أجرًا...، وهذا من بابِ التَسلِية لمَن بَعُد مسكنُه عن المسجد؛ لأن مَن قرُب مسكنُه منه، سهُل عليه مكثُه فيه، وكثرةُ صلاته فيه، فثوابُه موفورٌ.
أمّا البعيدُ من المسجد فمحرومٌ من ذلك، فكان من السَّلوى أن يُبشّر بأن خُطاه ومشقته بمنزلة صلاته؛ لما في البُعد من كثرة الخُطا، وفي كل خُطوة رفعُ درجة، أو حطُّ خطيئة. المنهل العذب المورود (4/ 248).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
«أبعدهم ممشى» وليس هذا أجرًا لنفس الجماعة، بل هو من المكمِّلات، ولا مُعْتَبر عندي بصِغَر الخُطا وكِبَرِ، كما نُقِلَ عن بعض السلف؛ لأن المراد عندي: بُعْدُ المسافة وقُرْبُها، فإن كانت خطواتُه صغيرةً كان ثوابها أيضًا مثلها، فلا فرقَ بين صغَرِها وكِبَرِها. فيض الباري (2/ 246).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
لأنَّ الإنسان إذا تطهَّر في بيته، وخرج إلى المسجد، لا يُخرجه إلا الصلاةُ لم يخطُ خُطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحطّ عنه خطيئة ولا تزال الملائكة تُصلي عليه، ما دام في مصلَّاه، فإذا كان بيتُك بعيدًا عن المسجد، ولم يمنعْك البُعد من حُضُور الجماعة، فإنك أعظمُ أجرًا من القريب؛ لأن القريب ليس له عذرٌ؛ يسهُلُ عليه الوصولُ للمسجد، أما البعيد فقد يكون له شيءٌ من العذر لبُعده، ومع ذلك يتجشّمُ البُعد، ويأتي إلى المسجد، ويصلي مع الجماعة، فكان هذا أفضل. شرح رياض الصالحين (5/ 65).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
ليس المرادُ: أنَّه يطلبُ إبعاد المساكن عن المسجد؛ لأن بيته -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- كان قريبًا من المسجد، فهو على حدّ قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لخَلوفُ فم الصّائم أطيب عند الله من رائحة المسك»؛ فإنه ليس فيه حثّ على إفساد رائحة الفم بعدم الاستياك، وإنما الغرض تبشير الصائم بأنَّ له أجرًا كثيرًا. المنهل العذب المورود (4/ 248).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
لكن ليُعلم أن المَمْشَى هذا إنما يرتب عليه الأجر إذا احتِيج إليه من أجل الصلاة، فالمشقةُ لذاتها ليست مطلوبةً شرعًا، لكن إذا اقتضتها عبادةٌ ترتب عليها الأجر، وإذا كان لك طريقان إلى المسجد أحدُهما قريب، والثاني بعيد، تسلك القريب أو البعيد؟ القريب، هذا الأصل؛ لأن سلوكك البعيد ليس من متطلبات الصلاة، وإلا بالإمكان أن يدور الإنسان حول الحيّ، وبدلًا من أن يصل بعشرين خُطوة يصل بألف خطوة، لكن هذا ليس مطلوبًا، والله -جل وعلا- غنيٌّ عن تعذيب الإنسان نفسه، وبالإمكان إذا أراد الحجَّ من نجد يذهب إلى الشرقية، ثم يمسك جهة الشرق، ثم الشمال، ثم الغرب ويأتي، وبدلًا من أقل من ألف كيلو، يمشي خمسة آلاف كيلو، من أجل الأجر، نقول: ما لك أجر، إلا بقدر ما تتطلبه هذه العبادة من بيتك إلى موضع العبادة، وما زاد على ذلك فليس فيه أجرٌ. شرح المحرر (33/ 12).

قوله: «‌والذي ‌ينتظر ‌الصلاة، ‌حتى ‌يصليها ‌مع ‌الإمام»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«والّذي ينتظرُ الصلاة حتى يصليها مع الإمام» غاية الانتظار، ويجوزُ كونُ «حتَّى» تعليليَّة لبيان عِلَّةِ الانتظار المرتب عليه. دليل الفالحين (6/ 543).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«والذي ينتظر الصلاة» يرتقب إتيانه بها في جماعة «حتى يصلِّيها مع الإِمام»، وهو راتب المسجد لا الخليفة. التنوير (2/ 501).

قوله: «أعظمُ أجرًا مِن الذي يُصلّي، ثُمّ ينامُ»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«حتى يصليها مع الإمام» زاد مسلم: «في جماعة»، «أعظم أجرًا من الذي يصلي» أي: وحدَه «ثمَّ ينام» أي: يستريح بخروجه من عهدة ما عليه...، وظاهر الحديث: يقضي أنَّ تأخير الصلاة للجماعة أفضل من تقديمها أولَ الوقت ولو مع الجماعة؛ لزيادة أجره بمشقة الانتظار، وليس مرادًا؛ إذ يعارضه الأخبار الدَّالَّة على طلب الصلاة أول الوقت. مرعاة المفاتيح (2/ 405).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«مِن الذي يُصَلِّي» يعني: مَن أخَّر الصلاة، وانتظر الإمام ليُصلي معه، أعظمُ أجرًا من الذي يصلي في وقت الاختيار ولم ينتظر الإمام، ويحتمل أنْ يُراد بقوله: «يصلي» يصليها مع الإمام ثمَّ ينام، أي: لا ينتظر الصلاة الثانية، فهو دون مَن صلَّى مع الإمام وانتظر الصلاة الثانية. الكاشف عن حقائق السنن(3/ 932).
وقال الطيبي -رحمه الله- أيضًا:
في قوله: «ثم ينام» غرابة؛ لأنه جعل عدم الانتظار نومًا؛ فيكون المنتظرُ وإنْ نام فيه يقظانًا؛ لأنه مراقبٌ للوقت، كالمرابط ينتظر فرصةَ المجاهدة، وهذا يضيع تلك الأوقات كالنائم، فهو كالأجير الذي أدّى ما عليه من العمل، ثم مضى لسبيله -والله أعلم-. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 932).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
ولا يخفى ما فيه من البُعد لفظًا ومعنىً، فتأمَّل. لمعات التنقيح (2/ 457).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«من الذي يصليها» أول الوقت منفردًا «ثم ينام»؛ وذلك لأن الأوَّل في صلاة مدة انتظاره لها؛ ولِذَا كُرِهَ له ما يُكره للمصلي من تشبيكِ أصابعٍ وفرقعتِها وعبثٍ ونحوه. دليل الفالحين (6/ 543).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: كونُ الإنسان ينتظرُ الإمام ليصلي به جماعة، أفضلُ من صلاة المنفرد بلا ريب، معلومٌ بالبديهة، فلماذا ذكره؟
قلتُ: أشار إلى أنَّ كونَ أول الوقت رضوان الله ليس على الإطلاق. الكوثر الجاري (2/ 303).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «ثم ينام» فإنْ قلتَ: هذا التفضيلُ أمرٌ ظاهرٌ ضروريٌّ، فما الفائدة في ذكره؟
قلتُ: معناه: أنَّ الذي ينتظرُها حتى يصليها مع الإمام آخرَ الوقتُ أعظمُ أجرًا من الذي يصلي في وقت الاختيار وحدَه، أو الذي ينتظرها حتى يصليها مع الإمام، أعظم من الذي يصليها أيضًا مع الإمام بدون الانتظار، أي: كما أن بُعد المكان مؤثر في زيادة الأجر، كذلك طول الزمان؛ لأنهما متضمِّنان لزيادة المشقَّة الواقعة مقدمة للجماعة.
فإن قلتَ: فما فائدة «ثم ينام»؟
قلتُ: إشارة إلى الاستراحة المقابِلة للمشقّة التي في ضمن الانتظار. الكواكب الدراري (5/ 41).
وقال الكوراني -رحمه الله- مُعلِّقًا:
هذا غلطٌ في الموضعين؛ فإن الكلام إنما هو فيما إذا لم يجاوز وقت الاختيار، دل عليه حديث أبي ذر في مسلم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كيف أنتَ إذا كانت عليك أمراءُ يُمِيتُون الصّلاة؟» قلتُ: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإنْ أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة». الكوثر الجاري (2/ 303).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ثمَّ ينَام» قد عُلم أنَّ السّبب في تحصيل هذا الأجر العظيم، انتظار الصلاة، وإقامتها مع الإمام، فإن وُجد أحدُهما دون الآخر فلا يحصلُ له ذلك، ويُعلم من هذا أيضًا أن تأخير الصلاة عن وقت الاختيار لا يخلُو عن أجرٍ، كما في تأخير الظهر إلى أن يبرُد الوقت عند اشتداد الحرِّ، وتأخير العصر إلى ما قبل تغير قرص الشمس، وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وتأخير الصبحِ إلى وقت الإسفارِ. عمدة القاري (5/ 170).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
أما قوله (أي: العيني): كما في تأخير الظهر... إلخ، وكذا قوله: وتأخير العشاء إلى ثلث الليل، فصحيحٌ، وأما قوله: وتأخير العصر... إلخ، وكذا قوله: وتأخير الصبح... إلخ، فهذا بناءً على مذهبه؛ لأن الحنفيّة يستحبُّون تأخير هاتين الصلاتين، والحقُّ في هذا: ما ذهب إليه الجُمهور من استحباب تعجيل العصر، وتغليس الصبح؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، وقد مضى تحقيقه في موضعه، فلا تكن أسير التقليد. البحر المحيط الثجاج (14/ 356-357).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أعظمُ أجرًا من الّذي يصلِّي، ثم ينام» كأنه أُريد بها: العِشاء؛ لأنها الصلاة التي يُنام بعدها، وفيه: أنَّ بُعد المكان تزيد به فضيلةُ الصلاة، كما أنَّ مشقَّة الانتظار تزيد به أجرُها. التنوير (2/ 501).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:

قوله: «من الذي يصلي ثم ينام» أي: سواءٌ صلى وحده، أو في جماعة، ويُستفاد منه: أنَّ الجماعة تتفاوت. فتح الباري (2/ 138)
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
فيُفهم منه: أنَّ التّأخير من أول الوقت لانتظار الجماعة، ولو لتكثيرها أفضلُ من الصلاة في أول الوقت، وهذا سرُّ أفضليَّة الإسفار في الفجر عند الحنفية. لمعات التنقيح (2/ 457).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «والذي ينتظر الصلاة حتى يُصلِّيها مع الإِمام، أعظمُ أجرًا من الذي يُصَلِّي ثم ينام»، يحتمل أنْ يكون المرادُ من الأول: مَن صلَّى مع الجماعة، ثم لم يَزَل جالسًا في انتظار صلاةٍ أخرى، حتى صلاها مع الإمام، ومن الثاني: مَن صلَّى مع الجماعة ثُمّ نام، ولم يُحْرِز فضيلةَ الانتظار للصلاة الأخرى.
ويحتمل أنْ يكون المرادُ من الثاني: مَن صَلَّى مُنْفَرِدًا ثم نام، ولم يرغب في الجماعة؛ فالمقابلةُ على الأول: بين المصلِّيَيْن بالجماعة إذا انتظر أحدُهما لصلاةٍ أخرى، ولم ينتظر الآخر، وعلى الثاني: بين المصلِّي بالجماعة والمصلِّي في بيته منفردًا. فيض الباري (2/ 247).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا في صلاة العِشَاء، فإن المشروعَ في صلاة العشاء أنْ تُؤخَّر إلى ثلث الليل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى العِشاء ذات يوم، وقد مضى عامَّةُ الليل، وقال: «إنَّه لوقتُها لولا أنْ أشقّ على أمتي»؛ فهذا الذي صلّى وحده ونام لأنه يشقّ عليه أنْ ينتظر صلاة الجماعة؛ لكونهم يُؤخِرونها، نقول له: إذا انتظرتَ وصليتَ مع الجماعة فهو أفضل، وأما إذا كان الإمام يصلّي على العادة، فإنه لا يجوز للإنسان أن يصلي ثم ينام؛ لأن صلاةَ الجماعة واجبةٌ، حتى إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لقد هممتُ أن آمرَ بالصلاة فتُقام ثم آمر رجلًا فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حُزَم من حطبٍ إلى قومٍ لا يَشْهدُون الصّلاة، فأُحَرِّقَ عليهم بُيوتهم بالنار». شرح رياض الصالحين (5/ 65).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
في وقتنا هذا لو قيل: بأنَّ المراد بالصلاة: صلاةُ الفجر ما بَعُد؛ لأن أكثر الناس اليوم يسهرُون إلى صلاة الفجر، ثم يصلُّون وينامون، وبعضهم قد لا ينتظر الإمام؛ لأنه تعب من السهر. شرح المحرر (33/ 13).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
هذا الحدِيثُ أيضًا: إنَّما يدل على فضل المشي إلى المسجد من المكان البعيد، وأنَّ الأجر يكثر، ويعظم بحسب بُعد المكان عن المسجد، وعلى فضل السّبق إلى المسجد في أول الوقت، وانتظار الصلاة فيه مع الإمام. فتح الباري (6/ 25).
وقال العيني -رحمه الله-:
فيه (أي: الحديث) الدلالة على كثرة الأجر لكثرة الخُطا في المشي إلى المسجد، وسُئل أبو عبد الله بن لبابة عن الذي يدع مسجده، ويصلي في المسجد الجامع للفضل في كثرة الناس، قال: لا يدع مسجده، وإنَّما فضل المسجد الجامع للجمعة فقط، وعن أنس بن مالك أنه كان يجاوز المساجد المحدثة إلى المساجد القديمة، وفعله مجاهد وأبو وائل، وأما الحسن (البصري) فسُئل: أيدع الرجل مسجد قومه ويأتي غيره؟ فقال: كانوا يحبون أن يكثر الرجل قومه بنفسه. عمدة القاري (5/ 174).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
يُؤخذ من الحديث: فضلُ انتظار الصلاة بالمسجد، حتى لو شارك نية الانتظار أمر آخر، وظاهر العبارة: أن الأجر لمنتظر الصلاة سواءٌ أكان انتظاره خارج المسجد أو داخله؟ لكن رواية: «فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه» يشير إلى أنَّ أعظم الأجر مرتبط بالمكان وبالنِّيَّة. المنهل الحديث (1/ 157).
وقال المناوي -رحمه الله-:
استُثني من أفضلية بُعْدِ الدار عن المسجد الإمامُ ومَن تُعَطَّل القُربة لغيبته (لكونه لا يحضر الناس إلى بحضوره)، ولا يعارض هذا الحديث خبر: «فضل البيت القريب من المسجد على البعيد كفضل المجاهد على القاعد»؛ لأن هذا راجع لتعيين البقعة، والأول للفعل. فيض القدير (2/ 4).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
مع هذا فنفسُ الدار القريبة من المسجد أفضلُ من الدار البعيدة عنه، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل...، والمشي إلى المسجد أفضل من الركوب. اختيار الأولى (ص: 59).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قال العلماء: ينبغي أنْ ‌يُستثنى ‌من ‌أفضلية ‌الأبعد ‌الإمام، فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأئمة بعده لم يتباعد عن المسجد لطلب الأجر، ويدل أحد أقوال الأصحاب أنه يُستحب التبكير للغير إلا الإمام، فلا يُستحب، بل يأتي حين يصعد إلى المنبر، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله بنفسه، فإنْ قيل: روى الإمام أحمد في مسنده: «فضل البيت القريب من المسجد على البعيد منه، كفضل المجاهد على القاعد عن الجهاد».
فالجواب: إنَّ هذا في نفس البقعة، وذاك في الفعل، فالبعيد دارًا مشيه أكثر، وثوابه أعظم، والبيت القريب أفضل من البيت البعيد. فتح القريب المجيب (3/ 100).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: حديث حذيفة: «فضل البيت القريب من المسجد على البعيد منه كفضل المجاهد على القاعد عن الجهاد» ضعيف لضعف علي بن يزيد أبي عبد الملك الدمشقي، وقد رواه عن حذيفة بلاغًا. مرعاة المفاتيح (2/ 405).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا الحديثُ والأحاديث التي قبله: تدل على أنَّ البُعد من المسجد أفضلُ، فلو كان بجوار مسجد فهل له أن يجاوزه للأبعد؟ اختُلَف فيه؛ فرُوِيَ عن أنس أنه كان يجاوز المحدَث إلى القديم، ورُوِي عن غيره أنه قال: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا، وكره الحسن (البصري) وغيره هذا، وقال: لا يدع مسجدًا قُرْبَهُ ويأتي غيره، وهو مذهبنا، وفي المذهب عندنا في تخطِّي مسجده إلى مسجده الأعظم: قولان. المفهم (2/ 292).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
قد عرفت مما أسلفته من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- (ولفظه: «ليُصلّ أحدكم في مسجده، ولا يتتبّع المساجد»): أنَّ القول بكراهية ترك المسجد القريب هو الأرجح، إلا إذا كان لحاجة، فقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يتركون مساجدهم، ويأتون إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لقضاء غرضهم، ويصلُّون معه. البحر المحيط الثجاج (14/381).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
استنبَط منه بعضهم: استحباب قصد المسجد البعيد، ولو كان بجنبه مسجدٌ قريبٌ، وإنما يتم ذلك إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياؤه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال، كأن يكون إمامه مبتدعًا. فتح الباري (2/ 141).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- تعليقًا:
هذا الاستنباط يردّه ما أخرجه الطبرانيُّ من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: «ليُصلّ أحدكم في مسجده، ولا يتتبّع المساجد»، وهو حديث صحيح، فلا يستحبّ الذهاب إلى المسجد الأبعد، إلا لحاجة. البحر المحيط الثجاج (14/ 380).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: الحديث):
1. منها: بيان فضل كثرة الخُطا إلى المساجد.
2. ومنها: بيان فضل المسجد البعيد على القريب لأجل كثرة الخُطا.
3. ومنها: بيان أنَّ الأجر يكثر، ويَعظُمُ بحسب بُعْد المكان عن المسجد.
4. ومنها: بيان فضل السبق إلى المسجد في أول الوقت؛ لانتظار الصلاة. البحر المحيط الثجاج (14/ 357).


ابلاغ عن خطا