الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

سُئلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟ قال: «أَدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ»، وقال: «اكْلَفُوا مِن الأعمالِ ما تطيقونَ».


رواه البخاري برقم: (6465)، ومسلم برقم: (782)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أَدْوَمُهَا»:
أي: أكثرها تتابُعًا ومواظبةً. فيض القدير (1/ 165).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فإنّ أحبَّ العمل إلى الله تعالى أدْوَمُه، أي: ما داوم عليه صاحبه. شرح سنن أبي داود (6/ 598).

«اكْلَفُوا»:‌
بفتح اللّام، يقال: كَلِفَ الرَّجُلُ -بكسر العين- يَكْلَفُ -بفتحها-: إذا بالغَ في الشَّيءِ. المسالك في شرح موطأ مالك، ابن العربي (2/ 488).
أي: أَوْلِعُوْا وأَحِبُّوا. فيض القدير (2/ 97).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اللام في قوله: «اكْلَفُوا» مفتوحة، كذلك قال أهل اللغة، والمعنى: تَكَلَّفُوا فِعْلَ ما تقوى عليه طاقَتُكم، دون ما تعجزون عنه. كشف المشكل (4/ 277).


شرح الحديث


قولها: سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «أَدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟» لم أقف على تعيين السائل عن ذلك، لكن قوله: قال: «أدْوَمُها وإنْ قَلَّ» فيه سؤال وهو أن المسؤول عنه أحبُّ الأعمال، وظاهره: السؤال عن ذات العمل، فلم يتطابقا، ويمكن أن يقال: إن هذا السؤال وقع بعد قوله في الحديث الماضي في الصلاة وفي الحج وفي بِرِّ الوالدين، حيث أجاب بالصلاة، ثم بالبِرِّ إلخ، ثم خَتَم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البِرِّ ولو كان مفضولًا أحبّ إلى الله من عملٍ يكون أعظمَ أجرًا لكن ليس فيه مداومة. فتح الباري (11/ 298).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أَدْوَمُه وإنْ قَلَّ» لا تنافي بينهما أي بينه وبين قوله: «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون» من حيث إن الدوام استغراق الأوقات، فلا يكون قليلًا؛ بل هو غير مقدور؛ لأن المراد بالدوام: المواظبة العُرْفية، وهي الإتيان بها في كل شهر، أو كل يوم بِقَدْرِ ما يُطْلَق عليه عُرفًا اسم المداومة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 496).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
حضّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَهُ على القصد والمداومة على العمل وإنْ قَلَّ؛ خشية الانقطاع عن العمل الكثير، فكأنه رجوعٌ في فعل الطاعات، وقد ذمَّ الله ذلك. شرح صحيح البخاري (10/ 179).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إنما أَحَبَّ الدائم لمعنيين:
أحدهما: أن المقْبِل على الله -عز وجل- بالعمل إذا تركه من غير عذر كان كالْمُعْرِضِ بعد الوصل، فهو مُعرَّض للذم؛ ولهذا ورد الوعيد في حق مَن حَفِظَ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حِفْظِهَا لا يتعين عليه الحفظ، ولكنه أعرض بعد المواصلة، فَلَاقٍ به الوعيد، وكذلك يُكْرَهُ أن يُؤْثِرَ الإنسان بمكانه من الصف الأول؛ لأنه كالراغب عن القُرَب إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا قال -عليه السلام- لعبد الله بن عمرو: «لا تكوننَّ مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل».
والثاني: أن مُداوِم الخير مُلازِمٌ للخدمة، فكأنه يتردد إلى باب الطاعة كل وقت، فلا يُنسى من البِرِّ لتَرَدُّدِهِ، وليس كمن لازَمَ الباب يومًا دائمًا ثم انقطع شهرًا كاملًا. كشف المشكل (4/ 278).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
قطرات من الماء تقع على الحجر على توالٍ فتؤثر فيه؛ وذلك القَدْرُ من الماء لو صُبَّ عليه دفعة واحدة لم يؤثر؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الأعمال أَدْوَمُهَا وإن قَلَّ»، والأشياء تُسْتَبَانُ بأضداها، وإن كان النافع من العمل هو الدائم وإن قلَّ، فالكثير المنصرم قليلُ النفع في تنوير القلب وتطهيره. إحياء علوم الدين (4/ 32).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: مَنْ عَمِلَ وِرْدًا من صوم أو صلاة فلْيُدَاوِمْ عليه. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 278).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أَدْوَمُهَا»، فإن قلتَ: الدائم كيف يكون قليلًا؛ إذ معنى الدوام شُمُول الأزمنة مع أنه غير مقدور أيضًا؟
قلتُ: المراد من الدوام: المواظبة العُرْفية، وهي الإتيان بها في كل يوم، أو كل شهر بقدر ما يُطْلَق عليه عُرْفًا اسم المداومة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (22/ 223-224).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وإنْ قلَّ» أي: العمل، وإنما كان العمل الذي يُداوَم عليه أحبَّ؛ لأن النفس تَأْلَفُ به، ويدوم بسببه الإقبالُ على الله تعالى؛ ولهذا يُنْكِرُ أهل التصوف ترك الأَوْرَادِ كما يُنكِرون ترك الفرائض. شرح المصابيح (2/ 171).
وقال ابن الملك -رحمه الله- أيضًا:
مَن سلك الطريقَ المتوسطَ يَقدِر على المداومة والمواظبة، وأفضلُ الأعمال عند الله «أَدْوَمُها وإن قَلَّ»، وإنْ بالَغَ في العمل وأَتعبَ نفسَه عجزَ عن المداومة على ذلك وانقطعَ عنه، بل ربما إذا بالَغَ وأقبلَ الناسُ عليه بوجوههم اغترَّ بنفسه، وتَدَاخَلَه أنه خيرٌ من غيره، فيصير أحمقَ مُعجَبًا بنفسه، متكبرًا بعمله. شرح المصابيح (5/ 448).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
ينبغي أن يُعْلَم أن المداومة على الوِرْدِ ضربان: بالشخص وبالنوع، أما بالشخص: فَبِأَنْ يُواظِبَ ويُداوِمَ على وِرْدٍ واحد بالشخص من صلاة أو صيام أو آية أو دعاء أو ذِكْرٍ، ويُكرِّره كل يوم، وأما بالنوع: فَبِأَنْ يقرأ كل يوم فردًا منها غير ما قرأ اليوم السابق أيًّا شاءه، وبهذا الطريق أيضًا يحصل المداومة، ويحصل تأثيره. لمعات التنقيح (3/ 348).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
الغرض من العمل: ملاحظة جَلَالِ المعبود على الدوام؛ وذلك إنما يكون مع قِلَّةِ العمل، فإنَّ الإفراط يُورِثُ الانقطاع. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (10/ 151).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإنْ قَلَّ» أي: ولو قَلَّ العمل.
والحاصل أن العمل القليل مع المداومة والمواظبة خيرٌ من العمل الكثير مع ترك المراعاة والمحافظة. مرقاة المفاتيح (3/ 933).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
هذه الأَحَبِّيَّةُ للعمل باعتبار صفة الدوام، فيكون أعمّ من الأول باعتبار الصفة، فالصلاة المداوَم عليها أوَّل وقتها أحبُّ إلى الله من صلاة أوَّل الوقت لا يُداوَم عليها، فالعمل المداوَم عليه أفضلُ من عمل لا يُداوَم عليه من حيث صفة الدوام، وإن كان ذلك أفضل باعتبار ذاته.
ويحتمل أنَّه أُريدَ بهذا فرائض الطاعات؛ لأَنَّها دائمة متكررةٌ، فكأَنَّه قال: أحَبُّ الأعمال إلى الله الفرائض؛ لِدَوامها في كل يوم كالصلاة، أو في كل عام كالحجِّ والزَّكاة والصَّوم، إلا أنَّ قوله: «وإنْ قَلَّ» لا يُنَاسِب هذا. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 384).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ومحبّةُ الله إرادةُ إِثَابَتِهِ، وقيل: المحبّةُ من اللهِ هي: إرادة حُبِّ الجزاء وكريم المآب، والبُغضُ منه: شدَّةُ العقاب وسوء المآب. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 501).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلقًا:
قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعالى: تَعَلُّق الإرادة بالثواب، أي: أكثر الأعمال ثوابًا أدومها، وإن قلَّ.
وهذا تأويل لمعنى المحبة بلازمها، وهذا غير صحيح؛ لأنه يؤدي إلى نفي صفة المحبة عن الله تعالى بمعناها الحقيقي اللائق به -سبحانه وتعالى-، فالصواب إثباتها له، كما أثبتتها النصوص الصحيحة من الكتاب والسُّنة على المعنى اللائق به -سبحانه وتعالى-، كسائر صفاته العليَّة، من الرضا، والإرادة، والقدرة، والعلم، وغيرها من غير فَرْقَ، ولا يلزم في ذلك تشبيهه بالمخلوقين؛ إذ صفاته تعالى لا تُشْبِهُ صفات المخلوقين، كما أن ذاته تعالى لا تُشْبِهُ ذواتهم، ولا فَرْقَ، وإنما يلزم التشبيه لو أثبتناها على المعنى الذي تُفَسَّر به إذا كانت للمخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فتَبَصَّر، ولا تتحَيَّر، واسلك سبيل السلف، تَسْلَم من الضلال والتَّلَف. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 487).
وقال الباجي -رحمه الله-:
المداومة على ضربين:
أحدهما: بالنية.
والثاني: بتكرر العمل
فأما بالنية فعلى ضربين:
أحدهما: تكررها قبل وقت العمل.
والثاني: تكررها مع العجز عن العمل، والعزم على الإتيان به متى أمكن. وأما تكرار العمل فهو: أن تكون له نافلة صوم أو صلاة أو صدقة فيُدَاوِمُها، فكانت هذه النافلة أحبَّ الأعمال إليه، وإن قلَّت، ويراها أفضلَ من كثيرِ النافلة التي لا يُداوِم عليها، ويحتمل أن يكون ذلك لمعنيين:
أحدهما: أنَّ يسير العمل الذي يَدُوم عليه صاحبُه يكون منه في جميع العُمُر أكثر من الكثير الذي يُفْعَل مرَّة أو مرتين، ثم يَتْرُكُهُ، ويتركُ العزمَ عليه، والعزمُ على العمل الصالح يُثاب عليه.
والثاني: أن العمل الذي يُداوَم عليه هو المشروع، وأنَّ ما تُوُغِّلَ فيه بعُنْفٍ ثم قُطِعَ فإنه غير مشروع. المنتقى شرح الموطأ (1/ 310).
وقال الشيخ محمد الأمين الإتيوبي -رحمه الله-:
أكثره أجرًا عند الله تعالى وثوابًا «أَدْوَمُهُ» أي: ما داوَم عليه صاحبُه وواظَبَ «وإنْ قَلَّ» ذلك العمل المداوَم عليه؛ لأن تارك العمل بعد الشروع والابتداء كالْمُعْرِضِ بعد الوصل، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
والمراد بالمداومة عليه: العُرْفِية؛ وإلا فحقيقة الدوام: شمول جميع الأزمنة؛ وهو غير مقدور عليه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (26/ 88-89).

وقوله: «اكْلَفُوا مِن الأعمال ما تطيقون»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
«اكْلَفُوا» بألف وصل وفتح اللام، يقال: كَلِفْتُ به كَلَفًا: أُوْلِعْتُ به، وأَكْلَفَهُ غيرُه، وروي بألف قطع ولام مكسورة، ولا يصح عند اللغويين، والتكليف: الأمر بما يَشُقُّ. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 496).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«اكْلَفُوا» بهمزة وصل وفتح اللام في الفرع (أي المقابِل للمخطوط الأصل)، وتُضَمُّ، «مِن الأعمال» كالصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولأبي ذر عن المستملي: «من العمل».
«ما تطيقون» (ما) مصدرية، أي: قَدْرَ طاقتكم، أو موصولة، أي: الذي تطيقونه، أي: ابْلُغُوا بالعمل غايته التي تطيقونها مع الدوام من غير عجز في المستقبل. إرشاد الساري (9/ 266-267).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «اكْلَفُوا» بفتح اللام وبضمها أيضًا، قال ابن التين: هو في اللغة بالفتح ورويناه بالضم، والمراد به: الإبلاغ بالشيء إلى غايته، يقال: كَلِفْتُ بالشيء إذا أُوْلِعْتُ به، ونقل بعض الشُّراح أنه روي بفتح الهمزة وكسر اللام من الرباعي، ورُدَّ بأنه لم يُسْمَع: أَكْلِفُ بالشيء، قال المحبّ الطبري: الكَلَفُ بالشيء التَّوَلُّع به، فاسْتُعِير للعمل؛ للالتزام والملابَسَة، وأَلِفُهُ أَلِفُ وَصْلٍ، والحكمة في ذلك: أن الْمُديم للعمل يُلازم الخدمة فيُكْثِر التردُّد إلى باب الطاعة كل وقت؛ ليُجَازَى بالبِرِّ؛ لكثرة ترَدُّدِه، فليس هو كمن لازَمَ الخدمة مثلًا ثم انقطع، وأيضًا فالعامل إذا ترك العمل صار كالْمُعْرِضِ بعد الوصل، فيتَعَرَّض للذمِّ والجفاء، ومِن ثَمَّ ورَدَ الوعيد في حقِّ مَن حفظ القرآن، ثم نَسِيَهُ.
والمراد بالعمل هنا: الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات.
قوله: «ما تطيقون» أي: قدْرَ طاقتِكم، والحاصل أنه أَمَرَ بالجِدِّ في العبادة، والإبلاغ بها إلى حدِّ النهاية، لكن بقيْدِ: ما لا تقع معه المشقة الْمُفْضِية إلى السآمة والملال. فتح الباري (11/ 298-299).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: «ما تطيقون» فيه إشارة إلى بذل المجهود، وغاية السعي، وهو خلاف المقصود من السياق، قلتُ: المراد ما تطيقون عليه دائمًا، ولا تعجزون عنه في المستقبل. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (22/ 224).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: الحث على المداومة على العمل، وأنَّ قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذِّكْر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق -سبحانه وتعالى-، ويُثْمِر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. شرح النووي على مسلم (6/ 71).
وقال العيني -رحمه الله-:
فيه: الحث على المداومة على العمل، وأن قليله ‌الدائم ‌خير ‌من ‌كثير ‌ينقطع؛ وذلك لأن ما يداوم عليه بلا مشقة ومَلَل تكون النفس به أنشط، والقلب مُنْشَرحًا، بخلاف ما يتعاطاه مِن الأعمال الشاقة؛ فإنه بصدد أن يتركه كله أو بعضه، أو يفعله بغير الانشراح فيفوته خير كثير. وفيه: الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها. عمدة القاري (7/ 182).


ابلاغ عن خطا