«إذا رأيتَ اللهُ يُعطِي العبدَ من الدُّنيا على مَعاصِيه ما يُحبُّ، فإنَّما هو اسْتِدْرَاجٌ» ثم تَلَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {فَلَمَا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} الأنعام: 44».
رواه أحمد برقم: (17311) واللفظ له، والطبراني في الكبير برقم: (913) والأوسط برقم: (9272)، من حديث عُقبة بن عامر-رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (413)، مشكاة المصابيح برقم: (5201).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«اسْتدراج»:
أي: مكْرٌ منه سُبحانه. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3257).
قال الفيومي -رحمه الله-:
ودَرجَ ودرَّجتُه إلى الأمر تدريجًا، فَتَدرَّج واستَدرَجتُه: أخذتُه قَلِيلًا قليلًا. المصباح المنير (1/ 191).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
استَدرجَه: رقَّاه، وأدناه منه على التَّدريج، فتدرَّج هو كدرَّجه إلى كذا تدريجًا: عوَّده إياه كأنّما رقَّاه منزلةً بعد أخرى، وهذا مجاز. تاج العروس (5/ 560).
«بَغْتَةً»:
معناه: فَجأة، وهي الأخذ على غِرَّة، ومن غير تَقدُّم أمَارة، فإذا أُخذ لإنسان وهو غارٌّ غافلٌ فقد أُخِذ بَغْتَةً، وأنكى شيء ما يفجأ من البغت. الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (6/ 426).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
بَغَتَهُ بَغتًا مِنْ باب نَفعَ: فَاجَأَهُ وجاءَ بغتةً أي: فجْأَة على غِرَّة، وبَاغتَه كَذلك. المصباح المنير(1/ 56).
«مُبْلِسُونَ»:
أي: واجمون ساكتون متحسرون متحيرون آيسون. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3257).
وقال البغوي -رحمه الله-:
آيسُون من كلِّ خير، المبلس النادم الحزين، وأصل الإبلاس: الإطرَاق من الحزن والندم. معالم التنزيل (3/ 143).
شرح الحديث
قوله: «إِذا رأيت الله يُعطي العبدَ من الدُّنيا على معاصيه مَا يُحبُّ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«إِذَا رَأَيْتَ اللهَ» أي: علمتَ أنه «يُعْطِي العَبْدَ» عبَّر بالمضارع إشارة إلى تجدد الإعطاء وتكرُّره «من الدُّنْيَا» أي: من زهرتها وزينتها «مَا يُحبُّه» أي: العَبْدُ من نحو مَال وولدٍ وجاه. فيض القدير (1/ 354).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«على معاصيه» أي: مع وجُود فعله إياها «مَا يُحبُّ» أي: من أسبابها. مرقاة المفاتيح (8/ 3257).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «على معاصيه» الجار والمجرور حال، أي: كونه ثابتًا على معاصيه، ويحتمل أنْ تكون (على) بمعنى (مع) «ما يحب» أي: ما يحبه العبد. حاشيته على مسند أحمد (4/1949].
وقال عبد الحق الدهلوي-رحمه الله-:
قوله: «على معاصيه» أي: مع وجُود المعاصِي، أي: يُعْطِي العبدَ العاصي ما يُحبُّ العبدُ، ويحتمل أنْ يحمل على معنى المقابلة، كما يُقال: أعطاه على عمله، يعني: عمل العبدُ عملًا وهو معصية، يكون سببًا في حصول رزق حرام. لمعات التنقيح (8/ 435).
قوله: «فإنما هو استدراج»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنما هو» أي: ذلك الإعطاء «استدراج» أي: مَكر منه سبحانه، قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} الأعراف: 182. مرقاة المفاتيح (8/ 3257).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«استدراج» مأخوذ من الدرجة، يعني: الاستصعاد والاستنزال، درجة بعد درجة، والمُراد: أخذُه على التدريج دَرَجَة بعد درجة، أي: قليلًا قليلًا؛ وذلك لأن العبدَ معتقد بإدرار نِعَم الله عليه، أنَّه لكرامته على الله، ورضاه عنه، فلا يزالُ في غيِّه مِطْلِقًا رَسْنَهُ (أي: الحبل الذي يقاد به البعير) في ضلاله، حَتَّى يأتيه حِمَامه (أي: قضاء الموت).
فإنْ قيل: في هذا الاسْتِدْرَاج منه تعالى لعبده إيهام رضاه عنه، وهو سبب إصراره على القَبيح.
أُجيب عنه: بأنَّ المكلَّف إذا كان عالمًا بقُبح القبيح، أو مُتمَكِّنًا من العلم به، ثم رأى نِعَم الله عليه تتوالى، وهو مقيمٌ على عصيانه، كان ترادفُها كالْمُنَبِّه له على الحذر، فلا قُبح حينئذٍ. التنوير (2/ 60).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ومعنى اسْتِدْرَاج الله: اسْتِدْرَاجهم قليلًا قليلًا إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم مِنْ حيثُ لا يعلمونَ ما يُراد بهم؛ وذلك أنَّ يواتر (أي: يوالي) الله نعمه عليهم مع انهمَاكهم في الغَيّ، فكلما جدَّد عليهم نعمة، ازدادوا بَطَرًا، وجدَّدوا معصية، فيُسْتَدْرَجون في المعاصي؛ بسبب ترادُف النعم، ظانِّين أنَّ تواتُر النعم أَثَرَةٌ (أي: حظ) من الله وتقريبٌ، وإنَّما هي خذلان منه وتبعيدٌ. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3297).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّما هو استدراج» استدراج الله تعالى العبدَ: أنه كلما جدَّد خطيئةً، جدَّد له نعمة، ظانًّا أنه أَثَرَةٌ من الله وتقريب، حيثُ يُعْطِيه من الدُّنيا ما يُحِبّه، وفاته الاستغفار، وأنَّه يأخذه قليلًا قليلًا، ولا يُبَاغِتُه.
وقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} الأعراف: 182: نمهلهم، ثم نأخذهم، كما يرقي الراقي دَرَجَة درجة، والاسْتِدْرَاج: الأخذ على غِرَّة. لمعات التنقيح (8/ 435).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«استدراج» أي: استنزالٌ له من درجة إلى أخرى، حتَّى يُدْنِيْه من العذاب فيصُبَّه عليه صبًّا، ويسحَّه عليه سحًّا، فالمراد بالاسْتِدْرَاج هنا: تقريبه من العقوبة شيئًا فشيئًا. التيسير (1/ 98).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
رُبَّما اتَّكل بعض المُغترِّين على ما يرى من نعم الله عليه في الدُّنيا، وأنه لا يُغَيّر ما به، ويظن أنَّ ذلك من محبَّة الله له، وأنَّه يُعْطِيه في الآخرة أفضل من ذلك، فهذا من الغرور.
وقال بعض السلف: رُبَّ مُستدرَج بنعم الله عليه، وهو لا يعلم، ورُبَّ مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم، ورُبَّ مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم. الداء والدواء (ص:35-36).
وقال ابن القيم -رحمه الله- أيضًا:
قالوا: وقلَّ أنْ يقع إعطاء الدُّنيا وتوسعتها إلا اسْتِدْرَاجًا من الله، لا إكرامَا ومحبة لمن أعطاه...، قالوا: ولِهوان الدُّنيا على الله منعها أكثر أوليائه وأحبائه. عدة الصابرين (1/ 386).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإن قال قائل: كيف يُعرف الفرق بين النِّعم التي يُجازى بها العبد، والنِّعم التي يُستدرج بها العبد؟
فالجواب: إنّ الإنسان إذا كان مستقيمًا على شرَع الله، فالنِّعم من باب الجزاء.
أما إذا كان مقيمًا على معصية الله، مع توالي النِّعم، فهي استدراج.تفسير سورة الفاتحة(1/59)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
(الواجب) أن يحذر الإنسان عقوبة الله -عز وجل- إذا منَّ الله عليه بتيسير أمور الدُّنيا، من مأكل ومشرب ونكاح ومركب ومسكن، فلا يغترّ بهذا؛ لأنه قد يكون اسْتِدْرَاجًا؛ ولهذا رُوِي: «إذا رأيت الله -عز وجل- يُعْطِي العبدَ من الدُّنيا ما يُحبُّ وهو مقيم على معاصي، فإنَّما ذلك منه اسْتِدْرَاج» ... فلا تغترّ أيها الإنسان؛ فقد تُبتلى بالنعم كما تُبتلى بالنقم، وقد تكون البلوى بالنِّعم، أشد من البلوى بالنِّقم. تفسير الأنعام(ص: 226).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يجب الحذر من الفرح الذي هو فرح البَطَرِ بنعم الله -عز وجل-؛ لقوله: {فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي: فرح بَطَر، أما إذا فرح الإنسان بما يَسُرُّه من أمور الدُّنيا، أو من أمور الآخرة فرح سرور وانبساط بنعمة الله، فإنَّ هذا لا بأس به، قال الله -عز وجل-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفَرَحُوا} يونس: 58. تفسير الأنعام (ص:227).
قوله: «ثم تَلَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الأنعام: 44».
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ثم تلا رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم-» أي: استشهادًا أو اعتضادًا {فَلَمَّا نَسُوا} الأعراف: 165، أي: عهده سبحانه، أو تركوا أمره ونهيه، وهو المعني بقوله: {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} الأنعام: 44، أي: وعظوا، {فَتَحْنَا} بالتخفيف ويشدد، {عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الأنعام: 44، أي: من أسباب النعم التي في الحقيقة من موجبات النقم. مرقاة المفاتيح (8/ 3257).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله تعالى: {فَلَمَا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا به} قال ابن عباس: تركوا مَا وُعظوا به، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء} يريد رخاء الدُّنيا وسرورها...، قال الزجاج: {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء} كان مغلقًا عنهم من الخير، حتَّى إذا ظنوا أنَّ ما كان نزل بهم، لم يكن انتقامًا، وما فتح عليهم باستحقاقهم...، وقال ابن الأنباري: إنما أراد بقوله تعالى: {كُلِّ شَيْء} التأكيد، كقول القائل: أكلنا عند فلان كُلَّ شيء، وكنا عنده في كُلِّ سرور، يريد بهذا العموم: تكثير ما يصفه، والإطناب فيه، كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} النمل: 23.
وقال الحسن (البصري): «مَن وُسِّع عليه فلم يرَ أنه يُمكر به، فلا رأي له، ومَن قُتِّر عليه فلم يَرَ أنه يُنظَر له، فلا رأي له»، ثم قرأ هذه الآية، وقال: «مُكِر بالقوم وربِّ الكعبة، أُعْطُوا حاجاتهم ثم أُخِذوا». زاد المسير (2/ 29).
وقال ابن كثير -رحمه الله-:
{فَلَمَا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا به} أي: أعرضوا عنه وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء} أي: فَتَحْنَا عليهم أبوابَ الرزق من كل ما يختارون، وهذا اسْتِدْرَاجٌ منه تعالى، وإملاءٌ لهم -عياذًا بالله من مكره-. تفسير القرآن العظيم (3/ 256).
قوله تعالى: «{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} الأنعام: 44»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} الأنعام: 44، أي: أُعطوا من المال والجاه وصحة البدن، وطول العمر، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} الأنعام: 44، أي: فجأة بالموت، أو العذاب، فإنه أشد في تلك الحالة. مرقاة المفاتيح (8/ 3257).
وقال البغوي -رحمه الله-:
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} وهذا فَرحُ بَطَرٍ، مثل فرح قارون بما أصاب من الدُّنيا، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فجأةً آمَنَ ما كانوا، وأعجب ما كانت الدُّنيا إليهم. معالم التنزيل (3/ 143).
وقال ابن عطية -رحمه الله-:
{فَرِحُوا} معناه: بَطرُوا وأَشِروا وأُعجبوا، وظنُّوا أنَّ ذلك لا يَبيد، وأنَّه دالٌّ على رِضا الله عنهم، وهو اسْتِدْرَاج من الله تعالى، وقد رُوِي عن بعض العلماء أنه قال: رحم الله عبدًا تدبَّر هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}.
و "أَخَذْنَاهُمْ" في هذا الموضع معناه: استأصلناهم، وسَطَوْنَا بهم، "وبَغْتَةً" معناه: فجأة، والعامل فيه {أَخَذْنَاهُمْ}، وهو مصدر في موضع الحال لا يُقَاس عليه عند سيبويه. المحرر الوجيز (2/ 292).
قوله تعالى: «{فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} الأنعام: 44»:
قال ابن عطية -رحمه الله-:
و«المبلس» الحزين الباهت اليائسُ من الخير، الذي لا يحِيرُ جوابًا؛ لشدّة مَا نزل به من سوء الحال. المحرر الوجيز (2/ 292).
وقال أبو حيّان -رحمه الله-:
{فإِذَا هم مُبْلِسُونَ} أي: باهتون بائسون...، {إِذَا} هي الفجائية...، ففي ذلك المكان {هم مُبْلِسُونَ} أي: مكان إقامتهم؛ وذلك الزمَان {هم مُبْلِسُونَ}، وأصل الإبلاس: الإطراق لحلول نقمة، أو زوال نعمة.
قال الحسن (البصري): مُكتئبون، وقال السدي: هالكون، وقال ابن كيسان وقطرب: خاشعون، وقال ابن عباس: مُتَحَيِّرُون، وقال الزجاج: مُتَحَسِّرون، وقال ابن جرير: الساكت عند انقطاع الحجة. البحر المحيط في التفسير (4/ 515).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: {فإِذَا هم مُبْلِسُونَ} (إِذَا) فجائية، والمعنى: فاجأهم الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله -عز وجل-. تفسير الأنعام (ص:219).