«كانَ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قبلَ التَّرْوِيَةِ بيومٍ، خَطَبَ الناسَ فأخبَرَهُمْ بمناسِكِهِمْ».
رواه الحاكم برقم: (1693)، وابن خزيمة برقم: (2793)، والبيهقي في الكبرى برقم: (9436)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (4774)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2082).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«التّروية»:
التروية بالتاء المثناة فوق، وهو الثامن من ذي الحجة، سُمِّي بذلك؛ لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي: يحملونه معهم من مكة إلى عرفات؛ ليستعملوه في الشرب وغيره. المنهاج، للنووي (8/ 96).
وقال الفيروز آبادي -رحمه الله-:
أو لأنَّ إبراهيمَ -عليه السلام- كانَ يَتَرَوَّى ويتفكر في رُؤْياهُ فيه، وفي التاسِعِ عَرَّفَ، وفي العاشِرِ اسْتَعْمَلَ. القاموس المحيط، للفيروز أبادي (ص: 1290).
وقال يحيى العمراني الشافعي -رحمه الله-:
قال الصيمري: وسُمي يوم التروية؛ لأن جبريل -عليه السلام- أُري إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مناسكه في هذا اليوم.
وقيل: لأن آدم -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- رأى حواء فيه، عندما أُهبط إلى الأرض.
وقيل: لأن الناس يتروون الماء، ويحملونه في الروايا إلى منى، وهذا هو المشهور. البيان (4/ 309-310).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
وقيل: لأن الإمام يَروي للناس مناسكهم من الرواية، وقيل غير ذلك. فتح القدير (2/ 466).
«بمناسِكِهِمْ»:
المناسك: جمع منسك، بفتح السين وكسرها، وهو التعبُّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، وسُميت أمور الحج كلها مناسك الحج، وسُئل ثعلب عن المنسك ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النسيكة، وهو سبيكة الفضة المصفَّاة، كأنه صفَّى نفسه لله تعالى. عمدة القاري، للعيني (3/ 273).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
المناسك: مواضع متعبَّدات الحج، والمَنْسَكُ: موضع الذبح، ومنه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} الحج: 34، وقيل: مذهبًا في الطاعة. مطالع الأنوار (4/ 214).
شرح الحديث
قوله: «كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قبلَ التروية بيومٍ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «كان إذا كان قبل التروية بيوم» وهو سابع الحجة، ويوم التروية الثامن. التيسير (2/ 257).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان إذا كان قبل التروية» والتروية: ثامن ذي الحجة؛ لأنهم كانوا يتروون من الماء، ويغترفونه لما بعده من أيام الحج. التنوير (8/ 442-443).
قوله: «خطب الناس، فأخبرهم بمناسكهم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «خطب الناس» بعد صلاة الظهر، أو الجمعة، خطبة فردة، عند باب الكعبة «فأخبرهم بمناسكهم» الواجبة وغيرها، وبترتيبها، فيندب ذلك للإمام أو نائبه في الحج، ويُسنُّ أنْ يقول -إن كان عالِمًا-: هل من سائل؟ فيض القدير (5/ 158).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «بيوم خطب الناس» في اليوم السابع «فأخبرهم بمناسكهم» يعلمهم إياه، وقد علم أنَّه لم يحج إلا مرة واحدة، فالخطبة هذه واحدة، ويحتمل أنَّه كان يخطب بذلك في المدينة إلا أنه بعيد، وجزم الشارح (المناوي) أنَّ الخطبة في مكة عند باب الكعبة، وأنَّه يُسَنُّ ذلك للإمام ونائبه. التنوير (8/ 443).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
الدليل على الخطبة في اليوم السابع من ذي الحجة: ما رواه البيهقي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قبل التروية بيوم، خطب الناس أخبرهم بمناسكهم» ...
ولم يذكر الإمام أحمد شيئًا في مسنده عن خطبة اليوم السابع، ولم يقل بها، والظاهر: أنَّه لم يصح عنده هذا الحديث، ولا غيره فيها.
وذكر الهيثمي في ذلك لابن الزبير -رضي الله عنهما- خُطبة طويلة، أعرضتُ عن ذكرها لطولها؛ ولأنها غير مرفوعة، وفي سند حديثها طعن، قال الهيثمي بعد إيراده: رواه الطبراني في الكبير، وفيه سعيد بن المرزبان، وقد وُثِّقَ، وفيه كلام كثير، وفيه غيره ممن لم أعرفه. الفتح الرباني (12/ 133).
وقال أبو جعفر العباسي الحنبلي -رحمه الله-:
ليس في اليوم السابع خطبة، خلافًا لأكثرهم، دليلنا: أنَّه يوم لا يُفعل فيه نُسك من مناسك الحج، أشبه اليوم الذي قبله، وعكسه على أصلنا يوم عرفة والنفر الأول. رؤوس المسائل (1/ 391-392).
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي -رحمه الله-:
مسألة: ليس في اليوم السابع خطبة: وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم؛ لأنه سأله: متى يخطب يوم عرفة؟ فقال: قبل صلاة الظهر، فقيل له: ثم يخطب في الحج؟ فقال: يخطب بعد يوم النحر، وظاهر هذا: أنهما خطبتان في الحج؛ يوم عرفة ويوم النَّفر الأول.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يخطب يوم السابع.
دليلنا: أنَّه يوم لم يُشرع فيه نسك من مناسك الحج، فلم تُشرع فيه الخطبة.
دليله: اليوم الأخير من أيام التشريق، ولا يلزمه عليه يوم عرفة، ويوم النفر الأول؛ لأنه يوم شُرع فيه النسك.
واحتج المخالف بما روي: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلّم- خطب الناس اليوم السابع من ذي الحجة، وأمرهم بالغدو إلى منى.
والجواب: أنه ليس فيه بيان الخطبة.
واحتُج بأنَّ هذا اليوم وإنْ لم يكن فيه نُسك؛ فإنه يخطب لما يعلمونه من اليوم الثامن وهو يوم التروية؛ فإنه يأمرهم بالغدو إلى منى محرمين، وأن يوفوا منى قبل صلاة الظهر، فيصلون الظهر فيها مع الإمام، ويصلون العصر في وقتها، والمغرب في وقتها، والعشاء الآخرة في وقتها، والصبح في الغد في وقتها، فإذا طلعت الشمس رحلوا إلى عرفة في أول بزوغها، فهو كيوم عرفة، يُبيِّن لهم ما يفعلون في يومهم؛ لأنَّ في مناسك كثيرة، ويُبيِّن لهم رجوعه من عرفة، ومبيتهم بالمزدلفة، وجمعهم بين المغرب والعشاء الآخرة، ووقوفهم على قزح (موضع كانت قريش تقف فيه بالمزدلفة) إذا أصبحوا، ودفعهم الإمام منها إذا اشتدَّ النهار قبل طلوع الشمس إلى أن يوافوا منى.
والجواب: أنَّ هذه الأشياء ليست مناسك في أنفسها، ولا هي مقصودة، فلم تُشرع الخطبة لبيانها، وتُفارق الخطبة في يوم عرفة ويوم النفر الأول؛ لأنها تتضمَّن بيان أشياء مقصودة؛ إما أركان، أو واجبات يأثم بتركها، ويجبرها الدم. التعليقة الكبيرة (2/148- 150).
وقال النووي -رحمه الله-:
حديث ابن عمر الأول في الخطبة قبل يوم التروية بيوم، رواه البيهقي بلفظه المذكور في المهذب، وإسناده جيد. المجموع (8/ 80).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
مذهبنا: أنَّه يُستحب في الحج أربع خطب: وهي يوم السابع بمكة من ذي الحجة، ويوم عرفة بمسجد إبراهيم، ويوم النحر بمنى، ويوم النفر الأول بمنى أيضًا، وبه قال داود.
وقال مالك وأبو حنيفة: خطب الحج ثلاث: يوم السابع والتاسع ويوم النفر الثاني، قالا: ولا خطبة في يوم النحر.
وقال أحمد: ليس في السابع خُطبة.
وقال زفر: خُطب الحج ثلاث: يوم الثامن، ويوم عرفة، ويوم النحر، ولقد ذكرنا دليلنا في خطبة السابع، وخطبة يوم عرفة. المجموع، شرح المهذب (8/ 89).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
قال أصحابنا: ويذكر لهم في كل واحدة من هذه الخطب ما بين أيديهم من المناسك، وأحكامها، وما يتعلق بها إلى الخطبة الأخرى...، قال أصحابنا: وكل هذه الخطب الأربع أفراد، وبعد صلاة الظهر، إلا التي بعرفات، فإنهما خطبتان، وقبل صلاة الظهر، وبعد الزوال. المجموع، شرح المهذب (8/ 82).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
هذه هي خطب الحج (الأربع)، وأما ما رواه أبو داود عن رافع بن عمرو المزني، قال: رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى، على بغلة شهباء، وعليٌّ يُعبِّر عنه، والناس بين قائم وقاعد ومحمول، على أنها خُطبة تعليم، لا أنَّها من خُطب الحج. إتحاف السادة المتقين (4/ 435).
وقال النووي -رحمه الله-:
فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الإمام بعد صلاة الظهر عند الكعبة خطبة فردة، وهي أول الخطب الأربع المشروعة في الحج، ويأمر الناس في هذه الخطبة بأن يتأهبوا إلى الذهاب إلى منى في الغد، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة المسمى يوم التروية، ويعلمهم المناسك التي بين أيديهم إلى الخطبة الثانية المشروعة يوم عرفة بنمرة، فيذكر أنَّ السُّنة أنْ يخرجوا غدًا قبل الزوال، أو بعده. المجموع (8/ 81).
وقال الدميري الشافعي -رحمه الله-:
قال (أي: النووي في المنهاج): «ويعلمهم (أي: في خطبة السابع) ما أمامهم من المناسك»؛ لما روى البيهقي بإسناد جيد عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: «أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، ويعلم الناس المناسك».
والمراد: يعلمهم ما يفعلونه إلى خطبة نمرة، وكذلك كل خُطبة من خطب الحج يندب أنْ يعلمهم فيها ما بين أيديهم من المناسك إلى الخطبة التي تليها. النجم الوهاج في شرح المنهاج (3/ 505).
وقال الماوردي -رحمه الله-:
عن نافع عن ابن عمر: «أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، ويعلم الناس المناسك»؛ فإذا ثبت هذا، وكان يوم السابع من ذي الحجة، خطب الإمام الناس بعد صلاة الظهر، فإنْ كان مُحْرِمًا افتتح خطبته بالتلبية، وإنْ كان حلالًا افتتحها بالتكبير.
ويُستحب إنْ كان الإمام مقيمًا بمكة، أو من أهلها أنْ يحرم ويصعد المنبر محرمًا، ويخبرهم أنه يخرج بهم من الغد إلى منى ليتأهبوا لذلك.
قال الشافعي: فإن كان عالِمًا فقيهًا أحببتُ أن يقول لهم: هل من سائل فأجيبه؟ وإن لم يكن فقيهًا لم يتعرَّض لذلك؛ لئلا يسأل عن شيء فلا يكون عنده معرفته، فيكون فيه شَيْن وقباحة، ولا ينبغي للإمام أنْ يكون إلا بمنزلة مَن إذا سُئل أجاب.
ثم يكون بمكة باقي يومه وليله، فإنْ وافق يوم السابع يوم الجمعة بدأ فخطب للجمعة، وصلاها، ثم رقى المنبر بعد الصلاة، فخطب للحج، فلو تركها الإمام كان تاركًا للسُّنة، ولا فدية عليه. الحاوي الكبير (4/ 167).
وقال النووي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وهذا الذي ذكره من إحرام الإمام غريب محتمل. المجموع، شرح المهذب(8/ 82).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال ابن الموَّاز: الخطبة الأولى قبل التروية بيوم في المسجد الحرام بعد الظهر، لا يجلس فيها. شرح صحيح البخاري (4/ 411).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
وهذه الخطبة (خطبة اليوم السابع) خُطبة واحدة، بلا جلوس، وكذا خطبة الحادي عشر، وأما خطبة عرفة فيجلس بينهما، وهي قبل صلاة الظهر والخطبتان الأوليان بعده.
قوله (في الهداية للمرغيناني): «أولها يوم التروية» قلنا: خلاف المروي عنه -صلى الله عليه وسلم- فإنه روي عنه أنه خطب في السابع، وكذا أبو بكر، وقرأ عليٌّ -رضي الله عنه- عليهم سورة براءة. فتح القدير (2/ 466).
وقال ابن كثير -رحمه الله-:
وقد رُوي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب قبل هذا اليوم (أي: يوم التروية) ...، قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ... عن نافع، عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم التروية خطب الناس، فأخبرهم بمناسكهم». السيرة النبوية (4/ 337).
وقال ابن كثير -رحمه الله- أيضًا:
قال الطبراني: حدثنا زكريا الساجي...، عن محمد بن عبد الله الثقفي قال: شهدتُ خطبة ابن الزبير بالموسم، خرج علينا قبل التروية بيوم، وهو محرم، فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط، ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد:
فإنكم جئتم من آفاق شتى وفودًا إلى الله -عز وجل-، فحق على الله أن يكرم وفده، فمن كان منكم يطلب ما عند الله، فإن طالب ما عند الله لا يخيب، فصدقوا قولكم بفعل، فإنَّ ملاك القول الفعل، والنية النية، والقلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه، فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة، ولا طلب مال، ولا دنيا ترجونها ها هنا، ثم لبَّى، ولبَّى الناس، فما رأيتُ باكيًا أكثر من يومئذٍ. البداية والنهاية (12/ 218).