«عن رجلٍ مِن مُزَيْنَةَ، أنَّه قالتْ له أمُّهُ: ألا تَنْطَلِقُ فتسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يَسأَلُهُ النَّاسُ، فانْطَلَقْتُ أَسْأَلُهُ، فوجدتُهُ قائمًا يخطبُ وهو يقولُ: مَنْ اسْتَعَفَّ أَعفَّهُ اللهُ، ومَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللهُ، ومَنْ سألَ الناسَ وله عدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ، فقدْ سألَ إِلْحَافًا، فقلتُ بيني وبين نفسِي لناقةٌ له: هي خيرٌ مِنْ خَمْسِ أَواقٍ، ولغلامهِ ناقةٌ أُخرى هي خيرٌ مِنْ خَمْسِ أَواقٍ، فرجعتُ ولم أَسأَلْهُ».
رواه أحمد برقم: (17237) واللفظ له، وأبو داود برقم: (1627)، والنسائي برقم: (2596)، ومالك في الموطأ برقم: (11)، من حديث رجل من مزينة.
ورواه النسائي برقم: (2594) بلفظ: «مَنْ سَأَلَ وله أربعونَ دِرْهمًا، فهو الْمُلْحِفُ» من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
وبنحوه في أبي داود برقم: (1627)، والنسائي برقم: (2596) بلفظ: «مَن سألَ منكم وله أُوقِيَّةٌ، أو عِدْلُهَا، فقدْ سأل إِلْحَافًا» عن رجل من بني أسد.
صحيح الجامع برقم: (6022 ـ 6282)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2314)، صحيح سنن النسائي برقم: (2594 ـ 2596).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«عَدْل»:
بفتح المهملة، وسكون المهملة الثانية، أي: قَدْر. التنوير، للصنعاني (10/ 87).
«خَمْسِ أَوَاقٍ»:
أواقٍ: جمع أوقية، والأُوقيَّة بضم الهمزة، وبالتشديد، وهي عند العرب أربعون درهمًا (والخمس الأواق مائتا درهم)، وهي في تقدير: أفعولة كالأعجوبة والأحدوثة، والجمع: الأواقي بالتشديد وبالتخفيف. المصباح المنير، للفيومي (2/ 669).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وسُمِّيت بذلك من الوقاية؛ لأن المال مخزون مصون، أو لأنه يقي الشخص من الضرورة. فيض القدير (6/ 58).
«إِلْحَافًا»:
أي: مُلحفًا، أي: سؤال إلحاف، وهو أنْ يلازم المسؤول حتى يعطيه. التيسير، للمناوي (2/ 396).
شرح الحديث
قوله: «عن رجلٍ مِن مُزَينة، أنَّه قالت له أمُّهُ»:
قال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال مسلم، غير الرجل المزني، وهو من الصحابة، كما تدل عليه الرواية نفسها، وجهالته لا تضر؛ لأنَّهم عدول عند أهل السُّنة. السلسلة الصحيحة (8/ 393).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
يبدو أنَّ هذا الرجل المزني هو أبو سعيد الخدري، فقد قال ابنه عبد الرحمن بن أبي سعيد: عن أبيه قال: «سرحتني أمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله، فأتيته...» فذكره نحوه، وفيه: «فقلتُ: ناقتي الياقوتة خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله» أخرجه أحمد. السلسلة الصحيحة (6/ 295).
قوله: «ألا تَنْطَلِقُ فَتسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يسأله الناس»:
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فتسألَ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلَّم- كما يَسْأَلُهُ النَّاسُ» أي: ليسأله شيئًا من المال؛ لحاجة أَلَمَّتْ بهم. ذخيرة العقبى (23/ 199).
قوله: «فانطلقت أسأله، فَوَجدته قائمًا يخطبُ، وهو يقول: «مَنْ اسْتَعَفَّ أَعفَّهُ الله»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «مَن استعفَّ» بتشديد الفاء، أي: من طلب من الله تعالى أنْ يكفه من السؤال «أعفَّه الله» أي: كفَّه الله تعالى من السؤال. حاشيته على مسند أحمد (4/ 183).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مَن استعفَّ» طلب العِفَّة، وأرادها «أعفَّه الله» ييسر الله له ما طلبه منها. التنوير (10/ 87).
قوله: «ومَنْ استغنى أغناه الله»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ومَن استغنى» عن الناس «أغناه الله» بأنْ يسوق إليه ما يغنيه عنهم، وملأ قلبه غنى، والغنى غنى النفس. التنوير (10/ 87).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ومَن» ترقَّى مِن هذه الرتبة «واستغنى» أي: أظهر الغنى عن الخَلْق «أغناه الله» أي: ملأ اللهُ قلبه غنىً. التيسير (2/ 396).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «أغناه الله» أي: ملأ الله قلبه غنىً؛ لأن مَن تحمَّل الخصاصة، وكتم الفقر، فصبر، علمًا بأنَّ الله القادر على كشفها، كان ذلك تعرَّضًا لإزالتها عنه، كالمعترِّ الذي يتعرَّض ولا يسأل، وقد أمر الله بإعطاء المعترِّ، فالله أولى أنْ يُعطي مَن يتعرَّض لفضله. فيض القدير (6/ 56).
قوله: «ومَنْ سأل الناس وله عدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ومَن سأل الناس وله عَدل» بفتح المهملة، وسكون المهملة الثانية، أي: قَدْر «خمس أواق» من الفضة. التنوير (10/ 87).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ومَن سأل الناس» أنْ يعطوه من أموالهم شيئًا، مُدَّعيًا للفقر «وله عِدل خمس أواق» من الفضة. التيسير (2/ 396).
وقال العيني -رحمه الله-:
يُخبِر (أي: في هذا الحديث) أنَّ السؤال إنَّما يحرُم إذا كان عنده عدل خمس أواق -أي: قيمة خمس أواق- يريد ما يساوي خمس أواق في القيمة، وقد قلنا: إنَّ الأوقية إذا أُطلقت فالمراد بها: أنْ تكون من الفضة، والأوقية: أربعون درهمًا، فخمس أواق تكون مائتي درهم. نخب الأفكار (16/ 548).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
إلا أنَّه قال (أي: في هذا الحديث): «عدل خمس أواق» وهذا إسناد صحيح أيضًا على ضعف يسير في عبد الحميد، ولعله أخطأ في قوله: «عدل خمس أواق» (أي: لكونه يخالف حديث أبي سعيد الذي فيه ذِكْر الأوقية). السلسلة الصحيحة (6/ 295).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلفوا كم الغنى الذي لا يجوز لصاحبه أَخْذ الصدقة وتحرُم عليه المسألة؟
فقال بعضهم: هو بوجود المرء قوت يومه لغدائه وعشائه، وهذا قول بعض المتصوفة الذين زعموا أنه ليس لأحدٍ ادّخار شيء لغدٍ، وقولهم مردود بما ثبت عن النبي وأصحابه أنهم كانوا يدَّخرون.
وقال آخرون: لا تجوز المسألة إلا عند الضرورة، وأحلُّوا ذلك محل الميتة للمضطر. وقال آخرون: لا تحل المسألة بكل حالٍ، واحتجوا بما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأبي ذر: «لا تسأل الناس شيئًا»، وجعلوا ذلك نهيًا عامًّا عن كل مسألة، وبما رواه ابن أبي ذئب عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، عن ثوبان مولى رسول الله، أنه قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن تكفل لي بواحدةٍ تكفلتُ له بالجنة» قال ثوبان: أنا، قال: «لا تسأل الناس شيئًا، فكان سوطه يقع فما يقول لأحد: ناولنيه، فينزل فيأخذه»، وقال قيس بن عاصم لبنيه: إياكم والمسألة، فإنها آخر كسب المرء، فإنَّ أحدًا لن يسأل إلا ترك كسبه.
وقالت طائفة: لا يأخذ الصدقة من له أربعون درهمًا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سأل وله أوقية، أو عِدلها، فقد سأل إلحافًا»، وممن قال بذلك أبو عبيد، روي عن مالك أنه قال: يُعطى مَن له أربعون درهمًا إذا كان له عيال.
وقالت طائفة: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا، هذا قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق، واحتجوا بحديث يُروى عن ابن مسعود عن النبي بذلك، وعلله يحيى بن سعيد وشعبة، فقالا: يرويه حكيم بن جبير، وهو ضعيف.
وقالت طائفة: مَن ملك مائتي درهم تحرم عليه الصدقة المفروضة، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ورواه المغيرة المخزومي عن مالك، وقال المغيرة: لا بأس أن يُعطى أقل مما تجب فيه الزكاة، ولا يُعطى ما تجب فيه الزكاة، واحتج أصحاب أبي حنيفة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمرتُ أنْ آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها في فقرائكم»؛ فجعل المأخوذ منه الزكاة غير المردود عليه، ومَن معه مائتا درهم تُؤخَذ منه الزكاة، فلم يجز أنْ ترد عليه؛ لما فيه من إبطال الفرق بين الجنسين، بين الغني والفقير. شرح صحيح البخاري (3/ 518-519).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ثم هو (أي: حديث الأوقية) منسوخٌ بما روي مرسلًا أنَّه قال: «ومَن سأل الناس وله عدل خمس أواق، فقد سأل إلحافًا»، وعليه أصحاب أبي حنيفة -رحمهم الله-. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1517).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
مذهبه (أي: أبي حنيفة) مَن ملك مائتي درهم يحرُم عليه أَخْذ الصدقة، ومَن ملك قوت يومه يحرُم عليه السؤال، ففرقٌ بين الأخذ والسؤال، فما نُسب إليه غير صحيح. مرقاة المفاتيح (4/ 1313).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله (أي: في حديث سَهْل ابن الحنْظَلِيَّةِ): «ما يغديه ويعشيه»؛ فقد اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم: مَن وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث.
وقال بعضهم: إنَّما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات، فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة، فقد حرمت عليه المسألة، وقال آخرون: هذا منسوخ بالأحاديث التي تقدَّم ذكرها. معالم السنن (2/ 58).
وقال المنذري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
ادعاء النسخ مشترك بينهما (أي: بين حديث سهل وحديث الرجل من بني أسد «مَن سأل منكم وعنده أوقية أو عَدلها») ولا أعلم مرجِّحًا لأحدهما على الآخر. الترغيب والترهيب (1/ 326).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
فتأملنا هذه المقادير التي رُوِيَتْ عن النبي -عليه السلام- في تحريم المسألة بوجودها، هل يتهيَّأ لنا تصحيحها حتى لا يكون شيء منها ضدًّا لما سواه منها؟
فوجدناه محتملًا أنْ يكون أول هذه المقادير التي حُرِّمت بها المسألة هو المقدار الذي في حديث ابن الحنظلية، ثم تلاه تحريمها بوجود ما في حديث الأسدي، ثم تلاه تحريمها بوجود ما في حديث ابن مسعود، ثم تلاه تحريمها بوجود ما في حديث المزني، فكان المقدار الذي في حديث المزني هو المقدار الذي يتناهى تحريم المسألة عند وجوده، فصار أولى هذه المقادير التي رويناها بالاستعمال في هذا الباب.
فإن قال قائل: فكيف استعملت في هذا أغلظ المقادير بدءًا، ثم استعملت بعده ما هو أخف منه، حين استعملتها كلها كذلك، ولم تستعمل الأخف منها أولًا، ثم بعده ما هو أغلظ منه، حتى تأتي عليها كلها؟
فكان جوابنا له: أنَّ نسخ الأشياء تكون بمعنى من معنيين:
منها: للعقوبة، وهو نسخ التخفيف بالتغليظ، وهو قول الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} النساء: 160، الآية.
ومنها: بخلاف العقوبة، وهو نسخ التغليظ بالتخفيف؛ وذلك رحمة من الله تعالى، وتخفيف عن عباده، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} الأنفال: 65، إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الأنفال: 65، فكان فرض الله تعالى عليهم في هذه الآية أن لا يفروا من عشرة أمثالهم، وكان معقولًا في ذلك أنه جائز لهم أن يفروا مما هو أكثر من هذا، ثم نسخها الله تعالى رحمة منه لهم، وتخفيفًا لضعفهم، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الأنفال: 66، الآية، فرد الله فرضه عليهم أن لا يفروا من مثليهم، وكان معقولًا في ذلك أن لهم أن يفروا من أكثر من مثليهم من العدد. بيان مشكل الآثار (2/ 23-24).
وقال ابن بطال -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قال الطحاوي: وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سأل وله أوقية أو عِدلها» منسوخ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سأل وله خمس أواق، فقد سأل إلحافًا»؛ فجَعَلَ هذا حدًّا لمن لا تحل له الصدقة.
قال بعض العلماء: وكل مَن حَدَّ من الفقهاء في الغنى حدًّا أو لم يحدّ، فإنَّما هو بعد ما لا غنى عنه من دار تحمَّله، ولا تفضل عنه، وخادم هو محتاج إليه، ولا فضل له من مال يتصرف فيه، ومن كان هكذا فأجمع الفقهاء أنه يجوز له أنْ يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه. شرح صحيح البخاري (3/ 519).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا الطحاوي:
الأنسب بمسألة تحريم السؤال: أنْ يكون أمر النسخ بالعكس، بأن نسخ الأكثر فالأكثر، إلى أنْ تقرَّر أنَّ مَن عنده ما يُغدِّيه ويعشِّيه يحرُم عليه السؤال، فيكون الحكم تدريجيًا بمقتضى الحكم، كما وقع في تحريم الخمر.
وأما في العبادات فوقع التدريج في الزيادات؛ لما تقتضيه الحِكَم الإلهيات، على وفق الطباع والمألوفات. مرقاة المفاتيح (4/ 1313).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قال الشافعي -رضي الله عنه-: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًّا مع كسبه، ولا تغنيه الألف مع ضعفه وكثرة عياله.
وذهب سفيان الثوري وابن المبارك والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق إلى أنَّ مَن له خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب لا يدفع إليه شيء من الزكاة، وكان الحسن البصري وأبو عبيدة يقولان: من له أربعون درهمًا فهو غني.
وقال أصحاب الرأي: يجوز دفعها إلى مَن يملك دون النصاب، وإن كان صحيحًا مكتسبًا، مع قولهم: مَن كان له قوت يوم لا يحل له السؤال. الزواجر (1/ 306).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
ليس شيء من هذه الأحاديث بمختلفٍ، فكأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- علم ما يغني كل واحد منهم، فجعل غناه به؛ وذلك لأن الناس يختلفون في قدر كفاياتهم، فمنهم من يغنيه خمسون درهمًا، لا يغنيه أقل منها، ومنهم من له كسب يدرُّ عليه كل يوم ما يغدِّيه ويعشِّيه، ولا عيال له، فهو مستغنٍ به. السنن الكبرى (7/ 39).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ليس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه في هذا الباب شيء يرفع الاشكال، ولا ذَكَرَ أحد عنه ولا عنهم في ذلك نصًّا، غير ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من كراهية السؤال وتحريمه لمن ملك مقدارًا ما، في آثار كثيرة مختلفة الألفاظ والمعاني، فجعلها قومٌ من أهل العلم حدًّا بين الغني والفقير، وأبى ذلك آخرون، وقالوا: إنما فيها تحريم السؤال أو كراهيته، فأما مَن جاءه شيء من الصدقات من غير مسألة، فجائز له أخذه وأكله، ما لم يكن غنيًّا الغنى المعروف عند الناس، فتحرم عليه حينئذٍ الزكاة، دون التطوع. التمهيد (4/ 105).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الطبري: والصواب عندنا في ذلك: أنَّ المسألة مكروهة لكل أحد، إلا المضطرّ يخاف على نفسه التَّلف بتركها، ومَن بلغ حدَّ الخوف على نفسه من الجوع، ولا سبيل له إلى ما يَرُدُّ به رمَقه، ويقيم به نفسه إلا بالمسألة، فالمسألة عليه فرض واجب؛ لأنه لا يحل له إتلاف نفسه، وهو يجد السبيل إلى إحيائها بما أباح الله له إحياءها به.
والمسألة مباحة لمن كان ذا فاقة، وإن كرهناها له ما وجد عنها مندوحة بما يقيم به رَمَقَهُ من عيش، وإن خاف، وإنما كرهناها له لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، ولقوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس»، ولا مأثم عليه إلا على سائل سأل من غنى، متكثرًا بها ماله، فالمسألة عليه حرام. شرح صحيح البخاري (3/ 520).
قوله: «فقدْ سألَ إِلْحَافًا»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إلحافًا» أي: على وجه المكروه في السؤال، وهو الإلحاح فيه، وقلة الصبر. حاشيته على مسند أحمد (4/ 183).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «فقد سأل إلحافًا» أي: مُلحفًا، أي: سؤال إلحاف، وهو أنْ يلازم المسؤول حتى يعطيه. التيسير (2/ 396).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«فقد سأل إلحافًا» أي: إلحاحًا، وهو أنْ يُلازم المسؤول حتى يعطيه، فهو نصب على الحال، أي: مُلحفًا، يعني: سؤال إلحاف، أو عامله محذوف، وهو أنْ يلازم المسؤول حتى يعطيه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده. فيض القدير (6/ 56).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فقد سأل الناس إلحافًا» هو كالإلحاح، وهو ملازمة المسؤول حتى يعطيه، وهو مذموم، وهل يدخل فيه من ملك ما قيمته ذلك؟ محل نظر، وقد تكلمنا عليه في رسالة مستقلة. التنوير (10/ 87).
قوله: «فقلتُ بيني وبين نفسي لِناقةٌ له: هي خيرٌ منْ خَمْسِ أَوَاقٍ، ولغلامهِ ناقةٌ أُخرى، هي خيرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «لناقةٌ» بكسر اللام، أي: قلتُ: في شأنها «ولغلامه» الجار والمجرور خبر مُقدَّم «ناقةٌ» مبتدأ. حاشيته على مسند أحمد (4/ 183).
قوله: «فرجعت ولم أَسأله»:
قال الزرقاني -رحمه الله-:
قوله: «فرجعتُ ولم أسأله» يدل على قوة فهمه؛ لأنه اتَّعظ بغيره. شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 677).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
(من فوائد الحديث): ما كان عليه الصحابة من قوَّة الفهم، وشدَّة الحزم والعزم، فإن هذا الصحابي جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله في حاجة له، فلمَّا سمع منه الموعظة اتَّعظ، وأعرض عن حاجته، وتوكّل على ربِّه. ذخيرة العقبى (23/205-206).
وينظر الرواية الأخرى في عقوبة من يسأل الناس أموالهم لغير حاجة(هنا)