«أهلُ الجنةِ مَن ملأَ اللهُ أُذُنَيه مِن ثنَاءِ الناسِ خَيرًا، وهو يسمعُ، وأهلُ النَّارِ مَن مَلأَ اللهُ أُذنيه مِن ثنَاءِ الناسِ شرًّا، وهو يسمعُ».
رواه ابن ماجه برقم: (4224) واللفظ له، والطبراني في الكبير برقم: (12787)، وأبو نعيم (3/ 80)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (2527)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1740).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ثَنَاء»:
الثَّنَاء: تعمُّدك لشَيءٍ تُثْنِي عليه، بحَسَنٍ أو قَبيحٍ. العين، للفراهيدي (8/ 244).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
الثَّنَاء: ما تصِفُ به الإنسان من مدحٍ أو ذمٍّ، وخصَّ بعضُهُم به المدح. المحكم (10/ 199).
شرح الحديث
«أهلُ الجنة مَن مَلأَ الله أُذُنَيه مِن ثَنَاءِ الناسِ خيرًا، وهو يسمَع»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أهل الجنَّة» بالرفع مبتدأٌ، خبرُه «مَن» الموصولة في قوله: «مَن مَلَأَ الله»، ولفظ الجلالة بالرفع فاعل «ملأ»، «أذنيه» مفعول مَلَأ، والضمير عائد على «مَن» الموصولة، «مِن ثَنَاء النَّاس» لهم متعلق بـ«ملأ» على كونه مفعولًا ثانيًا له، «خيرًا» بالنَّصب على أنه تمييز ثناء، أو بنزع الخافض.
والمعنى: أنَّ أهل الجنَّة هم الذين مَلَأَ الله -عز وجل- آذانهم من سماع ثناء النَّاس لهم بخير، أو من سماع ذكر النَّاس لهم خيرًا؛ أي: من جهة الخير، «وهو» أي: والحال أنه تعالى «يسمع» ثَنَاءهم له بخير.
ويحتمل عودُ ضمير «أُذُنيه» إلى أهل الجنَّة، ولكنه أُفرد؛ نظرًا للفظ «مَن» الموصولة، وكذلك ضمير «وهو يسمع» يعود إلى أهل الجنَّة، وأُفرد الضَّمير للعلَّة المذكورة آنفًا.
والمعنى حينئذٍ: أهل الجنَّة هم الذين مَلَأَ الله آذانهم من سماع ثناء النَّاس لهم بخير، والحال أنهم أحياء يسمعون ثناءهم لهم بآذانهم. مرشد ذوي الحجا والحاجة (26/ 42).
وقال المناوي -رحمه الله-:
كأنه قال: أهل الجنَّة مَن لا يزال يعملُ الخير حتّى ينتشر عنه، فيُثنى عليه بذلك، وفي الشّرّ كذلك، ومعنى قوله: «أهل الجنَّة» أي: الذين يدخلونها، ولا يدخلون النَّار...
فإنْ قلتَ: ما فائدة قوله: «وهو يسمع» بعد قوله: «مَلَأَ الله أُذُنَيْه»؟
قلتُ: قد يقال: فائدته الإيماء إلى أنَّ ما اتّصف به من الخير والشرِّ بلغ من الاشتهار مبلغًا عظيمًا، بحيث صار لا يتوجه إلى محل ويجلس بمكان إلا ويسمع النَّاس يصفُونه بذلك، فلم تمتلئ أُذُنَيه من سماعه ذلك بالواسطة والإبلاغ، بل بالسَّماع الْمُستفيض المتواتر. فيض القدير (3/ 66).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «مَن مَلَأَ الله أُذُنيه» أي: في حياته. كفاية الحاجة (2/ 556).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«أهلُ الجنَّة مَن مَلَأَ الله تعالى أُذُنَيه مِن ثَنَاء النَّاس عليه خيرًا» عمله «وهو يسمع» الجملة مؤكدة، أي: مَن وفَّقه الله تعالى لفعل الخير حتى ينتشر عنه، فيُثني النَّاس عليه به. السراج المنير (2/ 196).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أهل الجنَّة مَن مَلَأَ الله أُذُنَيه مِن ثَنَاء النَّاس خَيرًا» أي: مَن أطلق الله ألسُن العباد بالثَّنَاء عليه بصفات الخير؛ لأنه ما يزال يفعل الخير حتى انتشر عنه، وعُرِفَ به، وأثني عليه بفعله؛ وزاد قوله: «وهو يسمع» إعلامًا بأنه فاض عنه ذلك، وطفِحَتْ به الألسنة، حتى لا يقف بمحل إلا سمع الثَّنَاء عليه فيه بنفسِه، لا أنه على جهة البَلاغ من الغير. التنوير (4/ 297).
قوله: «وأهلُ النارِ مَن مَلأَ الله أُذُنيه مِن ثَنَاءِ الناسِ شرًّا، وهو يَسمعُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وأهل النَّار» هم «من مَلَأَ الله أُذُنَيه مِن ثَنَاء النَّاس» وذكرهم لهم «شرًّا» أي: بسُوء، «وهو» أي: والحال أنه -سبحانه وتعالى- «يسمع» ذكر النَّاس له بِشَرٍّ وسُوء. مرشد ذوي الحجا والحاجة (26/ 43).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأهل النَّار» أي: المحكُوم عليه بأنه من أهلها، «مَن مَلَأَ الله أُذُنَيه مِن ثَنَاء النَّاس شرًّا، وهو يسمع» استعمال الثَّنَاء في الشر من مجاز المُشاكَلَة، وإلا فإنه لا يُستعمل إلا في ثَنَاء الخير، وأما في الشَّر فيقال: نثا بتقديم النون على الثاء المثلثة، وفيه: أنه تعالى يُجري على ألسِنة العباد ما اتصف به العبد من خيرٍ أو شرٍّ، ويفيض على أفواههم، وأنه من علامات الخير والشر. التنوير (4/ 297).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وأهل النَّار مَن ملأ الله تعالى أُذُنيه من ثنَاء النَّاس عليه شرًّا وهو يسمع» يعني: مَن ملأ أُذُنيه من ثناء الناس خيرًا عمله، ومَن ملأ أذنيه من ثناء الناس شرًّا عمله، فكأنه قال: أهل الجنَّة مَن لا يزالُ يعمل الخير حتى ينتشرَ عنه، فيُثني الناس عليه بذلك، والشر كذلك، والثناء حقيقة في الخير مجاز في الشَّرِّ. التيسير (1/ 383).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
معنى «أهل النَّار» أي: الذين استحقُّوها لسوء أعمالهم، سُمُّوا بدخولها أهل النَّار، لكنهم سيدخلون الجنَّة إذا صحبهم إيمانٌ، ويكون أهل النَّار بمعنى الذين استحقوها بعظائم وأفعال السُّوء، ثم يخرجون بشفاعته، ويجوز أنْ يرحم منهم مَن يشاءُ ولا يعذبُه. فيض القدير (3/ 66).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وأهل النَّار مَن مَلَأَ الله» تعالى «أُذُنَيه مِن ثَنَاء النَّاس شرًّا وهو يسمع» أي: مَن ينتشر عنه فعل الشر حتى يثني النَّاس عليه به. السراج المنير (2/ 196).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
ليس المُراد: مَن خُلق للجنة يصير للنار بقولهم، ولا عكسُه، بل قد يقع الثَّنَاء بالخير أو الشَّر وفي الباطِن خلافُه، إنما المراد: أن الثَّنَاء علامة مطابقة وعِلَّة دالَّة على ما في الواقع غالبًا. الفتوحات الربانية (4/ 207).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
فالْمُعوَّل عليه في ذلك شهادة أهل الفضل والصلاح والصدق والأمانة، بخلاف الفَسَقة؛ لأنهم قد يذكرون أهل الفِسق بالخير، وأهل الفضل والصلاحِ بالشّر، فليسُوا داخلين في هذا. الدين الخالص (7/ 425).