أنَّ ضُباعَةَ بنتَ الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ المطلبِ -رضي الله عنها- أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: إني امرأةٌ ثقيلةٌ، وإني أريدُ الحجَّ، فما تأمرُني؟ قال: «أَهِلِّي بالحجِّ، واشترطي أنَّ مَحِلِّي حيثُ تحبِسُني» قال: فأدركَتْ.
رواه مسلم برقم: (1208)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وهو في البخاري برقم: (5089)، ومسلم برقم: (1207)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
ورواه النسائي برقم: (2766) عن ابن عباس بلفظ: «قولي: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، ومَحِلِّي من الأرضِ حيثُ تحبسُني؛ فإنَّ لكِ على ربِّك ما استثنيتِ».
صحيح الجامع برقم: (4425)، وإرواء الغليل برقم: (1010).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَهِلِّي»:
أي: أَحْرِمِي. النظم المستعذب، لبطال (1/ 186).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قد تكرر في أحاديث الحج ذكر الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية، يُقال: أهلّ المحْرِمُ بالحج يهلُّ إهلالًا، إذا لبَّى ورفع صوته. النهاية (5/ 271).
«امرأةٌ ثقيلةٌ»:
أي: أَثِقَلَها المرض. مرعاة المفاتيح، للمباركفوري (9/ 441).
«مَحِلِّي»:
بفتح الميم، وكسر الحاء، أي: محل خروجي من الحج، وموضع حلالي.مرقاة المفاتيح، للقاري (5/ 1861).
«تحبِسُني»:
أي: تمنعني يا ألله، يعني: مكان مَنْعِي فيه من الحج للمرض. مرقاة المفاتيح، للقاري (5/ 1861).
«فأدركَتْ»:
أي: أدركَتْ الحجَّ، ولم تتحلَّل حتى فرغتْ منه. شرح صحيح مسلم، للنووي(8/ 133).
شرح الحديث
قوله: «أنَّ ضُباعة بنتَ الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ المطلبِ -رضي الله عنها-»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفي الرواية الثالثة: «أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، فيحتمل أنها أتته تسأله، فنزلت على عائشة، فأخبرتها بمسألتها، فأخبرت عائشة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدخل عليها، فسألها فعرضت أمرها. فتح المنعم (5/ 167).
قوله: «أتت رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم-، فقالت: إني امرأةٌ ثقيلةٌ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقالت: إني امرأة ثقيلة» أثقلني المرض، وأضعفني. الكوكب الوهاج (13/ 393).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قولها: «إني امرأة ثقيلة» أي: أثقلني المرض، فهو بمعنى قولها في الرواية السابقة: «ما أجدني إلا وجِعَة»، وقولها: «وأنا شاكية». البحر المحيط الثجاج (22/ 435).
قولها: «وإني أريدُ الحجَّ، فما تأمرُني؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وإني أريد الحج» معك «فما تأمرني؟» أي: فأيّ شيء تأمرني به، أأحجُّ في هذه السَّنة أم أتركه يا رسول الله؟ فلم يجبها عقب سؤالها؛ انتظارًا للوحي. الكوكب الوهاج (13/ 393).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قولها: «فقالت: إني أريد الحج» قد يقتضي ظاهره أنها قالت له ذلك ابتداءً، وفي صحيح البخاري: «لعلكِ أردتِ الحج؟» وفي صحيح مسلم من ذلك الوجه: «أردتِ الحج؟» ولا منافاة؛ فقد تكون إنما قالت: إنما أريد الحج في جواب استفهامه لها، وليس اللفظ صريحًا في أنها قالت ذلك ابتداءً، وكذا قوله في رواية ابن ماجه من حديث ضُباعة: «أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لها: أما تريدين الحج العام؟» ومن رواية أسماء أو سعدى: «ما يمنعكِ من الحج؟» كل ذلك يقتضي أن كلامها كان جوابًا لسؤاله، لكن في حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن الأربعة: «أن ضُباعة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت» وهذا قد ينافي قوله في حديث عائشة: «دخل على ضُباعة» وقد يجمع بينهما بأنها أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن إذ ذاك في منزله، ثم جاء فدخل عليها وهي في منزله، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي: «أنها قالت له: فأشترط؟ فقال لها: نعم» وهذا يقتضي أن أمره بالاشتراط ما كان إلا بعد استئذانها. طرح التثريب (5/ 168).
قوله: «قال: أَهِلِّي بالحَجِّ»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
الإهلال بالحج: التلبية. كشف المشكل (2/ 448).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«حجِّي...» أي: انوي الحج، وأحرمي به، كما جاء في الرواية الثالثة: «أهلِّي بالحج». فتح المنعم (5/ 167).
قوله: «واشترطي أنَّ مَحِلِّي حيثُ تحبِسُني»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ومعنى «اشترطي» ضعي شرطًا في الإحرام: إن حُبستُ عن إتمام الحج أحللتُ.
«اللهم مَحِلِّي حيث حبستني»، «مَحِلِّي» بفتح الميم وكسر الحاء، أي: مكان إحلالي، أو زمان إحلالي، مكان وزمان إحصاري ومنعي واحتباسي عن تكملة حَجِّي. فتح المنعم (5/ 167).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«واشترطي» أي: اجعلي شرطًا في حجكِ عند الإحرام، وهو اشتراط التحلُّل متى احتجتِ إليه، فكأنها قالت لما سألها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إرادتها الحج: إني أريده، وإني أحس من نفسي مرضًا يمنعني من الاستمرار على الإحرام، أفأشترط شرطًا يجعلني في حِلٍّ متى أحتاج إليه؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: نعم، ثم قالت كما في النسائي: «كيف أقول؟ قال: قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لكِ على ربكِ ما استثنيتِ» أي: قولي لدى إحرامك: اللهم محلي؛ أي: موضع إحلالي من الأرض حيث حبستني؛ أي: هو المكان الذي عجزتُ عن الإتيان بالمناسك، وانحبستُ عنها بسبب قوة المرض.
«وقولي: اللهم محلي»... والمعنى: زمان، أو مكان تحلُّلي من الإحرام فـ«محلي» مبتدأ، خبره قوله: «حيث حبستني» أي: منعتني من السير بسبب ثقل المرض. البحر المحيط الثجاج (22/ 419- 420).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قوله: «محِلِّي» بكسر الحاء أي: موضع حُلولي، أو وقت حلولي، والمحِلُّ يقع على المكان والزمان، وقوله: «حبستني» أي: منعتني من السير بسبب ثقل المرض، ويجوز في قوله: «أنَّ» الفتح، وهو الظاهر المروي، والكسر على أن يكون المعنى: قولي هذا اللفظ وهو: «إن محِلِّي حيث حبستني». طرح التثريب (5/ 168).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
ومعنى هذا الاشتراط: أني أحِلُّ إذا حبسني المرض، ولا خلاف أن المحصَر بالعدو يتحلَّل، فأما المحصَر بالمرض فعند أبي حنيفة أنه كالمحصَر بالعدو، وعند الشافعي ومالك وأحمد لا يباح له التحلُّل، إلا عند الشافعي وأحمد أنه إذا شرط في ابتداء إحرامه أنه إذا مرض تحلَّل جاز له التحلُّل عند وجود الشرط، وعند أبي حنيفة ومالك أن اشتراطه لا تأثير له، فأبو حنيفة يقول: لا يحل له إلا بالهدي، ومالك يقول: لا يستفيد التحلُّل أصلًا، والحديث حُجة جلية؛ لأنه لو كان المرض يبيح لها التحلل لم يكن لاشتراطها معنى، فإن قالوا: فائدة هذا الشرط ألا يلزمها الهدي، قلنا: الحكم المعلق على الشرط: التحلل، ولم يجرِ للهدي ذكر، ثم عندكم إن وجود هذا الشرط كعدمه، وإنه يجوز لها التحلل قبل الهدي فما قلتم به. كشف المشكل (2/ 448).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«واشترطي، وقولي: اللهم محلِّي حيث حبستني» معناه: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما استفهمها عن إرادة الحج اعتلَّت بأنها مريضة، وأنها خافت إن اشتد مرضها أن يتعذر عليها الإحلال؛ بناء منها على أن المحصَر بالمرض لا يتحلل إلا بالطواف بالبيت، وإن طال مرضه، كما هو مذهب مالك وغيره، فلما خافت هذا أقرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، ثم رخص لها في أن تشترط: أن لها التحلُّل حيث حبَسها مرضُها. المفهم (3/ 295- 296).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معقبًا:
لا يخفى أن المذهب الأرجح هو ما ذهب إليه الأولون، وأنَّ التأويلات التي تمسَّكَ بها المانعون غير مقبولة. البحر المحيط الثجاج (22/ 420- 421).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«حيث حبَسْتني» أي: بالوجع والمرض، وفائدة هذا القول: أنْ تصير حلالًا بدون دم الإحصار...، استدل به أحمد والشافعي على أن المحرم إذا اشترط في إحرامه أن يتحلل بعذر فله ذلك، وخالفهما أبو حنيفة ومالك وجعلا الحديث رخصة لضُباعة خاصة. مبارق الأزهار (3/193).
وقال العراقي -رحمه الله-:
في قوله: «محِلِّي حيث حبستني» أن المحصَر يحِلُّ حيث يُحْبَس، وهناك ينحر هديه، ولو كان في الحل، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم. طرح التثريب (5/ 173).
وقال العراقي -رحمه الله-:
خرج بقوله: «حيث حبستني» ما إذا شرط التحلُّل بلا عذر، بأن قال في إحرامه: "متى شئتُ"، أو "كسلتُ خرجت"، وهذا لا عبرة به بالاتفاق، وممن نَقل الاتفاق فيه الروياني. طرح التثريب (5/ 173).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
هذا الذي قاله من أن الاشتراط لا بد أن يكون بعذر هو الذي يدل عليه ظاهر حديث الباب، فما يفعله بعض الناس من أنه يشترط، ثم يتحلل بلا عذر، وإنما لمجرد كسل وعدم نشاط فمخالف لما يقتضيه النص، فليتنبه لذلك. البحر المحيط الثجاج (22/ 427).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
والمقارنة: أنَّ ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب -رضي الله تعالى عنها-، أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: «إني امرأة ثقيلة»، أثقلني المرض وأَضعفني، «وإني أريد الحج» معك، «فما تأمرني؟» أي: فأيَّ شيءٍ تأمرني به؟ أأحج في هذه السَّنة أم أتركه، يا رسول الله؟ فلم يُجِبْها عقبَ سؤالها؛ انتظارًا للوحي، ثم دخل عليها، فقال لها: «أهلِّي بالحج، واشترطي أن محلي» أي: أن موضع تحلُّلي «حيث تحبسني» يا ربِّ، أي: المكان الذي منعتني فيه عن أداء المناسك، فبهذا التقدير يحصل الجمع بين حديث عائشة وحديث ابن عباس لما بينهما من التعارض؛ لأن عائشة قالت: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ضُباعة، وقال ابن عباس: إن ضُباعة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: «إني امرأة ثقيلة». الكوكب الوهاج (13/ 393).
قوله: «قال: فأدركَتْ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» ابن عباس «فأدركتْ» ضُباعة الحج، ولم تتحلل حتى فرغت منه. الكوكب الوهاج (13/ 393).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فأدْرَكت» أي: فأدركت الحج وأتَمَّتْهُ، ولم تُحبس، ولم تتحلل حتى فرغت منه. فتح المنعم (5/ 167).
قوله في لفظ النسائي: «قولي: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، ومَحِلِّي من الأرضِ حيثُ تحبسُني»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ومحِلِّي» بضم الميم، وكسر الحاء المهملة إن حبسني حابس «من الأرض» أي: بالأرض «حيث حبستني» وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يجري مجراه. شرح سنن أبي داود (8/ 306).
وقال القنازعي -رحمه الله-:
«ومحلِّي من الأرض حيث حبستني» يعني: حيث ما حبسك مرض أو غيره حتى فاتك الحج أنك تحل من حجتك وترجع. تفسير الموطأ (2/ 676).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
في قوله: «ومحلي من الأرض حيث حبستني» دليل على أن المحصر يحل حيث يُحبس، وينحر هديه هناك حرمًا كان أو حِلًّا، وكذلك فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية حين أُحصر نحر هديه وحلّ، وقال أصحاب الرأي: دم الإحصار لا يُراق إلا في الحرم، يقيم المحصَر على إحرامه، ويبعث بالهدي، ويواعدهم يومًا يقدر فيه بلوغ الهدي المنسك، فإذا كان ذلك الوقت حلّ. معالم السنن (2/ 159).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قولها: «ومحِلِّي من الأرض حيث تحبسني» فهذا ظاهره المكان -والله أعلم-، فيكون معنى ذلك الدعاء بالعون والاعتراف بالعجز مع بذل الجهد في بلوغ الغرض من إتمام العبادة؛ لما يُخاف من عوائق المرض، تريد إني يا رب خارجة رجاء عونك على البلوغ إلى قضاء نُسكي، فإن حبستني دون ذلك فإني إنما أُمسك عن التمادي حيث حبستني وسلبتني القوة على السعي إلى قضاء نسكي، وهذا غير خارج عن صفة الباني على إحرامه إذا أُحصر بمرض، والله أعلم. المنتقى شرح الموطأ (2/ 277).
قوله: «فإنَّ لكِ على ربِّك ما استثنيتِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «فإن لكِ على ربكِ ما استثنيتِ» أي: إن لك على الله تعالى ما اشترطتِه من التحلُّل عند الحبس بالمرض. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (24/ 268).
وقال المازري -رحمه الله-:
من الناس مَن ذهب إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، وأجاز الاشتراط، وجمهور الفقهاء على أن ذلك لا ينفع، وحملوا الحديث على أنها قضية في عَيْنٍ خُصَّتْ بها هذه المرأة.
وفيه دلالة على أن الإِحصار بمرض لا ينحلّ به المحرِم من إحرامه، ولو كان ينحل به لم يفتقر للشرط في هذا الحديث. المعلم بفوائد مسلم (2/ 78).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
بظاهر هذا الحديث قال جماعة من العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم؛ منهم: عمر وعلي وابن مسعود، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور، وللشافعي قولان، فقال كل هؤلاء: يجوز الاشتراط في الحج، وأنه له الفسخ إذا وقع شرطه، ومنع ذلك جماعة أخرى، وقالوا: إنه لا ينفع؛ منهم: ابن عمر والزهري ومالك وأبو حنيفة؛ متمسكين بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} البقرة: 196، وبقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد: 33، واعتذروا عن هذا الحديث بوجهين:
أحدهما: ادعاء الخصوص بهذه المرأة.
وثانيهما: أنهم حملوه على التحلُّل بالعمرة، فإنها أرادت أن تحج؛ كما جاء مفسرًا من رواية ابن المسيب، وهو: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر ضُباعة أن تشترط وتقول: «اللهم الحجَّ أردتُ، فإن تيسر وإلا فعمرة»، وروي عن عائشة أنها كانت تقول: «للحج خرجتُ، وله قصدتُ، فإن قضيتُه فهو الحج، وإن حال دونه شيء فهو العمرة» والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 295- 296).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معقبًا:
لا يخفى أن المذهب الأرجح هو ما ذهب إليه الأولون، وأنَّ التأويلات التي تمسَّكَ بها المانعون غير مقبولة. البحر المحيط الثجاج (22/ 420- 421).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه دلالة لمن قال: يجوز أن يشترط الحاج والمعتمر في إحرامه أنَّه إن مرض تحلل، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وآخرين من الصحابة -رضي الله عنهم-، وجماعة من التابعين وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وحجتهم هذا الحديث الصحيح الصريح، وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين: لا يصح الاشتراط، وحملوا الحديث على أنها قضية عين، وأنه مخصوص بضُباعة، وأشار القاضي عياض إلى تضعيف الحديث، فإنه قال: قال الأصيلي لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، قال النسائي: لا أعلم أحدًا أَسْنَدَهُ عن الزهري غير معمر، وهذا الذي عرَّض به القاضي وقال الأصيلي من تضعيف الحديث غلط فاحش جدًّا، نبَّهتُ عليه لئلا يُغتر به؛ لأن هذا الحديث مشهور في صحيح البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، وسائر كتب الحديث المعتمَدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة، وفيما ذكره مسلم من تنويع طُرقه أبلغ كفاية.
وفي هذا الحديث: دليل على أنَّ المرض لا يبيح التحلل إذا لم يكن اشتراط في حال الإحرام، والله أعلم. شرح صحيح مسلم (8/ 131-132).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
اختلف العلماء فرقتين في جواز الاشتراط، فمالك وأبو حنيفة، وبعض التابعين لا يرونه نافعًا، وروي كراهته عن ابن عمر، وتأول بعضهم الحديث بما ذكره (المازري) وقال: أظنها كانت مريضة أو ذات عذر، فخصها بذلك، كما خص أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة لعلَّةِ مخالفة الجاهلية، وأجاز عمر وعلي وابن مسعود في جماعةٍ من الصحابة والتابعين، وهو قول أحمد وإسحاق، وأبي ثور والشافعي القولين جميعًا، وقد تأوله آخرون على معنى النية بالتحلل بعمرةٍ، وقد جاء مفسَّرًا من رواية ابن المسيب: أن رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- أمر ضُبَاعَة أن تشترط: «اللهم الحجَّ أردتُ فإن تيسر وإلا فعمرة»، وعن عائشة نحوه أنها كانت تقول: «للحج خرجتُ، وله قصدتُ، فإن قضيتُه فهو الحج، وإن حال دونه شيء فهو عمرة».
قال الأصيلي: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح.
قال النسائي: لا أعلم أَسْنَدَه عن الزهري غير مَعْمَر، وغيره من جماعة الحفاظ لا يذكرونه، وقد أنكر الزهري الاشتراط، وأنكره ابن عمر وغيره. إكمال المعلم (4/ 227).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا عياض والنسائي:
قول النسائي، لا يلزم منه تضعيف طريق الزهري التي تفرَّد بها معمر، فضلًا عن بقية الطرق؛ لأن معمرًا ثقة حافظ، فلا يضره التفرد، كيف وقد وجد لما رواه شواهد كثيرة؟! فتح الباري (4/ 9).
وقال العراقي -رحمه الله-:
ظاهر الحديث: أنه لا يجب عليه عند التحلل بالشرط دم؛ إذ لو وجب لذكَره، فإنه وقت الاحتياج إليه، وبهذا صرح الحنابلة والظاهرية، وهو الأصح عند الشافعية، ومحل الخلاف عندهم في حالة الإطلاق فلو شرط التحلل بالهدي لزمه قطعًا، وإن شرطه بلا هدي لم يلزمه قطعًا. طرح التثريب (5/ 172).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه دليل على أن المحرم إذا شرط عند الإحرام شرطًا مقترنًا به أنه إذا مرض أو اشتد مرضه تحلَّل، صح شرطه عند الشافعي، ولا يخرج من الإحرام إذا مرض إلا بالتحلل، وهو قول الحنابلة، قال الشافعية: لو تقدَّمه أو تأخر عنه لم ينعقد الشرط، قالوا: ولو قال: إن مرضتُ وفاتني الحج فهو عمرة كان على شرطه، ولو شرط التحلُّل لغرض آخر كضلال الطريق، وضياع النفقة، والخطأ في العدد، ونحو ذلك، فهو كالمرض على مذهب الشافعية، وقال الحنابلة: يستحب لمن أحرم بنسك أن يشترط عند إحرامه. شرح سنن أبي داود (8/ 304).
وقال العراقي -رحمه الله-:
ظاهر الحديث أنه لا بد من التلفظ بهذا الاشتراط كغيره من الشروط، وهو ظاهر كلام أصحابنا الشافعية وذكر فيه ابن قدامة الحنبلي احتمالين:
أحدهما: هذا، قال: ويدل عليه ظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث ابن عباس: «قولي: محِلِّي من الأرض حيث تحبسني»، قلتُ: وكذا في حديث عائشة في الصحيحين: «وقولي: اللهم محلي حيث حبستني».
والثاني: أنه تكفي فيه النية، ووجهه بأنه تابع لعقد الإحرام، والإحرام ينعقد بالنية. طرح التثريب (5/ 173).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
لا يخفى كون الاحتمال الأول هو الأقوى والأظهر؛ لظاهر النص، فتأمل. البحر المحيط الثجاج (22/ 426).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في الفوائد التي اشتمل عليها حديث قصة ضباعة برواياته المختلفة:
منها: بيان مشروعية الاشتراط في الحج...
ومنها: أنه قد يستدل به على أن المشترط لذلك يحل بمجرد المرض والعجز، ولا يحتاج إلى إحلال، وقد قال الشافعية: إن اشترط التحلل بذلك فلا يحل إلا بالتحلُّل، وإن قال: إذا مرضتُ فأنا حلال، فهل يحتاج في هذه الصورة إلى تحلُّل، أو يصير حلالًا بنفس المرض، فيه وجهان لهم، الذي نص عليه الشافعي أنه يصير حلالًا بنفس المرض...
ومنها: أن المراد بالتحلُّل أن يصير نفسه حلالًا، فلو شرط أن ينقلب حجُّه عمرة عند المرض، فذكر الشافعية أنه أولى بالصحة من شرط التحلل، ونص عليه الشافعي، وإذا أجاز إبطال العبادة للعجز، فنقلها إلى عبادة أخرى أولى بالجواز...
ومنها: أن سبب الحديث إنما هو في التحلل بالمرض، لكن قوله: «حبستني» يصدق بالحبس بالمرض وبغيره من الأعذار كذهاب النفقة وفراغها، وضلال الطريق، والخطأ في العدد، وقد صرح الشافعية والحنابلة بأن هذه الأعذار كالمرض في جواز شرط التحلل بها، ومن الشافعية مَن خالف فيه...
ومنها: أن الحنابلة ذكروا أن هذا الشرط يؤثِّر في إسقاط الدم فيما إذا حبسه عدو، وقالت الشافعية: لا يسقط دم الإحصار بهذا الشرط؛ لأن التحلل بالإحصار جائز بلا شرط، فشرطه لاغٍ، ومنهم مَن حكى فيه خلافًا، والله تعالى أعلم.
عندي (الإتيوبي) أن ما قاله الحنابلة أرجح؛ لإطلاق حديث الاشتراط، فتأمل، والله تعالى أعلم.
ومنها: أنه استدل به الجمهور على أنه لا يجوز التحلل بالإحصار بالمرض من غير شرط؛ إذ لو جاز التحلل به لم يكن لاشتراطه معنى.
ومنها: أنه لا يجب القضاء عند التحلل بشرط، وبه صرح الشافعية، وغيرهم.
ومنها: أن المفهوم من لفظ الشرط أنه لا بد من مقارنته للإحرام، فإنه متى سبقه أو تأخر عنه لم يكن شرطًا، وقد صرح بذلك في قوله في حديث ابن عباس: «اشترطي عند إحرامك» وهو بهذا اللفظ في مصنف ابن أبي شيبة. البحر المحيط الثجاج (22/ 424- 426).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ويُستحب للمحرم الاشتراط إن كان خائفًا، وإلا فلا؛ جمعًا بين الأخبار. الفتاوى الكبرى (5/ 382).
وينظر رأي الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في حكم الاشتراط عند الإحرام(هنا)