«كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بالليلِ فيصلي عليه، ويَبْسُطُهُ بالنهارِ فيجلسُ عليه، فجعلَ الناسُ يَثُوبُون إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيصلون بصلاتِهِ حتى كثروا، فأقبلَ فقالَ: يا أيُّها الناسُ، خذوا من الأعمالِ ما تُطِيْقُون، فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإنَّ أحبَّ الأعمالَ إلى اللهِ ما دامَ وإنْ قلَّ».
رواه البخاري برقم: (5861) واللفظ له، ومسلم برقم: (782)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَحْتَجِرُ»:
بالحاء المهملة، والجيم بينهما فوقية آخره راء، أي: يتَّخذه كالحُجْرَة. إرشاد الساري، للقسطلاني (8/450).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«يَحْتَجِره» أي: يجعله لنفسه دون غيره، يقال: حَجَرْتُ الأرض واحْتَجَرْتُها إذا ضربت عليها مَنَارًا تمنعها به عن غيرك. النهاية (1/ 341).
«حَصِيرًا»:
الحصِيرُ: وَجْهُ الأَرْضِ، وَبِه سُمِّيَ ما يُفْرَشُ على الأرض حَصِيرًا؛ لكونه يلِي وَجْهَهَا. تاج العروس، لمرتضى الزبيدي (11/ 30).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الحصير: الذي يُبسَط في البيوت. النهاية، لابن الأثير (1/395).
«يَثُوبُون»:
«يَثُوبُون» بمثلَّثة وموحَّدة بينهما واو، أي: يَرْجِعُون. إرشاد الساري، للقسطلاني (8/450) والنهاية، لابن الأثير (1/227).
«تُطِيْقُون»:
أي: الذي تقدرون عليه، ولا تتكلفوا فوق ما تطيقونه فتعجزوا. عمدة القاري، للعيني (11/ 75).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«ما تطيقون» أي: ما لكم بالمداومة عليه طاقة. إكمال المعلم (3/ 147).
وقال المناوي -رحمه الله-:
من الطَّوْقُ، وهو ما يوضع في العُنق حِلْيَةً، فيكون ما يستطيعون من الأفعال طَوْقًا لهم في المعنى. فيض القدير (2/ 97).
«يَمَلّ»:
هو بفتح الميم...، والْمِلَالُ استثقال الشيء، ونفور النفس عنه بعد محبته. لمعات التنقيح، للدهلوي (3/348).
شرح الحديث
قوله: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَحْتَجِر حَصِيرًا بالليل فيصلي عليه»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«يحتجر» أي: يتخذ حُجْرَة لنفسه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 96).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«كان يحتجر حصيًرا بالليل» أي: يجعله لنفسه، ويمنع منه غيره. مصابيح الجامع (9/274).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أي: يتخذها كالحُجْرَة؛ لئلا يمرَّ عليه مارٌّ، ويتوفر خشوعه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 482).
وقال النووي -رحمه الله-:
ومعنى احْتَجَرَ حُجْرَةً أي: حوَّط موضعًا من المسجد بحصير؛ ليستره ليصلي فيه، ولا يمر بين يديه مارٌّ، ولا يَتَهَوَّشَ بغيره، ويتوفر خشوعه، وفراغ قلبه.
وفيه: جواز مثل هذا إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم، ولم يتخذه دائمًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحتجرها بالليل يصلي فيها، وينحتها بالنهار ويبسطها. شرح مسلم (6/ 69).
وقال الكرماني -رحمه الله- مُعلقًا:
أقول: لفظ الحديث لا يدل على أن احْتِجَارُه كان في المسجد، وكيف كان من المسجد ويلزم منه أن يكون تاركًا للأفضل الذي أَمَرَ الناس به حيث قال: «فصلوا في بيوتكم».
فإن قلتَ: صحَّ أنه كان في المسجد فما جوابك عنه؟
قلتُ: إما أن يقال: إنه إذا احتجَرَه كان كأنه بيتُه؛ لخصوصيته به، أو أن السبب في كونه أفضل: عدم شَوْبِهِ بالرياء، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُنَزَّهٌ عن الرياء سواء كان في بيته أم لا. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/102).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: يُعارِضُ حديث الباب ما رواه ابن أبي شيبة من طريق شريح بن هانئ أنه سأل عائشة: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي على الحصير، والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} الإسراء: 8؟
فقالت: لم يكن يصلي على الحصير.
قلتُ: هذا ضعيف لا يُقَاوِمُ ما في الصحيح، وأيضًا يمكن الجمع بأن يُحمل النفي على المداومة، وقال بعضهم: لكن يَخْدِشُ فيه ما ذكره شريح من الآية.
قلتُ: لا خَدْشَ فيه أصلًا؛ لأن معنى الآية: {حَصِيرًا} الإسراء: 8، أي: مَحْبَسًا، يقال للسجن: مَحْصَر وحَصِير. عمدة القاري (22/28).
قوله: «ويَبْسُطُه بالنهار فيجلس عليه»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«يبسطها بالنهار» جملة في محل رفعٍ على أنها صفة لِـ(حَصِيرَةٍ)، أي: يجعلها بساطًا يجلس عليها، والباء في قوله: «بالنهار» بمعنى (في) وكذا في قوله: «بالليل». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 482).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فيجلس عليه» أي: على الحصير. عمدة القاري (22/28).
قوله: «فجعل الناس يَثُوبُونَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«يثوبون» أي: يجتمعون. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 96).
وقال العيني -رحمه الله- مُعلقًا:
والأحسن أن يقال: يرجعون؛ لأنه مِنْ ثَابَ إذا رَجَعَ. عمدة القاري (22/28).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«فثَابُوا» أي: رجعوا إلى الصلاة مبادرين كذلك. إكمال المعلم (3/ 147).
قوله: «فيُصلون بصلاته حتى كثروا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فصلوا بصلاته» أي: بسبب صلاته، أو مع صلاته، فالباء سببية، أو بمعنى (مع). ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 483).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولم أرَ في شيء من طُرُقِهِ بيان عدد صلاته في تلك الليالي، لكن روى ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر قال: «صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان ثمان ركعات، ثم أَوْتَرَ، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا، ثم دخلنا، فقلنا: يا رسول الله» الحديث، فإن كانت القصة واحدة احتمل أن يكون جابر ممن جاء في الليلة الثالثة، فلذلك اقتصر على وصف ليلتين، وكذا ما وقع عند مسلم من حديث أنس «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في رمضان فجئتُ فقمتُ إلى جنبه، فجاء رجل فقام حتى كنَّا رهطًا، فلما أحس بنا تجوّز، ثم دخل رَحْلَه» الحديث، والظاهر أن هذا كان في قصة أخرى. فتح الباري (3/12-13).
قوله: «فَأَقْبَلَ فقال: يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فَأَقْبَلَ» أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-. عمدة القاري (22/28).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«خذوا من الأعمال» أي: الأوراد من الأذكار وسائر النوافل من قبيل الأفعال والأقوال. مرقاة المفاتيح (3/933).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ما تطيقون» أي: الذي تطيقون المداومة عليه، وحُذِفَ العائد للعلم به. مرعاة المفاتيح (4/241).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «ما تطيقون» أي: تطيقون الدوام عليه بلا ضرر. شرح مسلم (6/70-71).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «خذوا من الأعمال ما تطيقون» يعني: لا تحملوا على أنفسكم أورادًا كثيرة لا تقتدرون المداومة عليها، فإنكم حينئذٍ تعجزون عنها وتتركونها، وحينئذٍ تنقطع عنكم بركتها، ولكن افعلوا من الأوراد ما تطيقون الدوام عليه، فإن الله تعالى يحب الدوام على العمل. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 278).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«ما تطيقون» أي: اعملوا ما يسهل عليكم حتى يدوم، ويدوم بدوامه الثواب. لمعات التنقيح (3/348).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطَاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تَكَلُّفِ ما لا يُطَاق. فتح الباري (1/201).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ما تطيقون» هو من قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة: 286، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 79).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يحتمل معنيين:
أحدهما: الندب لنا إلى تَكَلُّفِ ما لنا به طاقة من العمل.
والثاني: نَهْيُنَا عن تَكَلُّفِ ما لا نطيق، والأمر بالاقتصار على ما نُطيقه، وهو الأَلْيَق بنفس الحديث. المنتقى شرح الموطأ (1/213).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
سبب وروده أي: هذا الحديث خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر. فتح الباري (1/201).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ويحتمل: أن يُحْمَلَ على جميع الأعمال الشرعية. إكمال المعلم (3/ 147).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
حَمْلُهُ على العموم هو الصحيح؛ لأنه ثبت في رواية للبخاري بلفظ: «عليكم ما تطيقون من الأعمال»، فهو ظاهر في إرادة العموم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/368).
قوله: «فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا»:
قال النووي -رحمه الله-:
قوله: «فإن الله لا يَمَلّ حتى تَمَلُّوا» هو بفتح الميم فيهما، وفي الرواية الأخرى: «لا يَسْأَمُ حتى تَسْأَمُوا» وهما بمعنى. شرح مسلم (6/71).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
«فإن الله لن يملّ حتى تملّوا» هو بفتح الميم في الموضعين، والْمِلَالُ استثقال الشيء، ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو مُحال على الله تعالى باتفاق. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (5/23-24).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«حتى تملّوا» وتتركوا عبادته، وقيل: معناه: لا ينقطع عنكم فضله حتى تملّوا سؤاله. شرح مصابيح السنة (2/ 171).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معناه: أن الله سبحانه لا يملّ أبدًا وإن مَلَلْتُم، وهذا كقول الشاعر الشَّنْفَرَى:
صَلِيتْ مني هُذيلٌ بِخِرْقٍ ** لا يملُّ الشرَّ حتى تملّوا.
يريد: أنه لا يملُّ إذا ملُّوا، ولو كان يملُّ عند مِلَالِهِم لم يكن له عليهم فضل، وقيل: معناه: أن الله لا يَمَلّ من الثواب ما لم تملُّوا من العمل، ومعنى يملّ: يترك؛ لأن مَن ملَّ شيئًا تركه وأعرض عنه. معالم السنن (1/ 280).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: الْمَلَلُ والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال في حق الله تعالى، فيجب تأويل الحديث.
قال المحققون: معناه: لا يعاملكم معاملة المالِّ فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبَسْطَ فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم.
وقيل: معناه: لا يملّ إذا مَلَلْتُم، قاله ابن قتيبة وغيره، وحكاه الخطابي وغيره، وأنشدوا فيه شعرًا.
قالوا: ومثاله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، معناه: لا ينقطع إذا انقطع خصومه، ولو كان معناه: ينقطع إذا انقطع خصومه لم يكن له فضل على غيره. شرح مسلم (6/71).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: الْمِلَالُ لا يصح على الله تعالى، فما وَجْهُه؟
قلتُ: الْمِلَالُ كناية عن عدم القبول، أي: فإن الله يقبل طاعتكم حتى تملّوا، فإنه لا يقبل ما يصدر منكم على سبيل الْمِلَالة، أو أَطْلَق الْمِلَال على طريقة الْمُشَاكَلة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 96).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإن الله لا يملّ حتى تملّوا» معناه: أنه تعالى لا يملّ أبدًا مَلَلْتُم أو لم تَمَلُّوا، فجرى مجرى قولهم: حتى يشيب الغراب، وتبيض القار، وقيل: معناه: لا يقطع عنكم فضله حتى تملُّوا سؤاله، فسُمِّي مَلَلًا على طريق الازدواج في الكلام نحو: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} الشورى: 40، وهو باب واسع كثير في القرآن. التنوير شرح الجامع الصغير (3/80).
وقال المازري -رحمه الله-:
الْمِلَالة التي بمعنى السآمة لا تجوز على الله سبحانه.
وقد اختُلف في تأويل هذا الحديث، فقيل: إنما ذلك على معنى المقابلة، أي: لا يدع الجزاءَ حتى تدَعُوا العمل.
وقيل: «حتى» ههنا بمعنى (الواو)، فيكون قد نفى عنه -جَلَّت قدرته- الْمَلَل، فيكون التقدير: لا يَمَلُّ وتَمَلُّون.
وقيل: «حتى» بمعنى: حين. المعلم بفوائد مسلم (1/457-458).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ليس في هذا الحديث إثبات الْمَلَلِ لله -عزَّ وجلَّ- صريحًا، بل هو من باب مفهوم المخالفة، وأما صريحه فنفي الملل عنه، فلا ينبغي أن نُثبت به صفة الملل، فالأَوْلى عندي قول بعضهم: إن «حتى» هنا بمعنى (الواو) وليست للغاية، فيكون المعنى: إن الله لا يمل وأنتم تملون، أو يكون المعنى: لا يمل إذا مللتم.
والمراد به: تشجيعهم على المداومة على الأعمال القليلة التي لا تنقطع، ولا تؤدي إلى الملل، حيث إن الله تعالى لا يلحقه ملل، فلا ينبغي للعبد أن يمل عن الإقبال عليه؛ إذ يؤدي مَلَلُهُ إلى إعراض الله عنه، فإنَّ مَن أعرض عن الله أعرض الله عنه؛ فقد أخرج الشيخان عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أَلَا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ فأما أحدهم فَأَوَى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاسْتَحْيَا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» متفق عليه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 486).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
قوله: «فو الله لا يمل الله حتى تملوا» مثل سائر الصفات، وله الكمال المطلق، وقول بعضهم: لا يقطع الثواب حتى تقطعوا، هذا من لازم الحديث، فالواجب إثباتها على ما يليق بالله. الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (1/24).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وهذا الملل الذي يُفهَم من ظاهر الحديث أن الله يتصف به، ليس كَمَلَلِنَا نحن؛ لأن مَلَلَنَا نحن ملل تعب وكسل، وأما ملل الله -عزَّ وجلَّ- فإنه صفة يختص به -جلَّ وعلا-، والله -سبحانه وتعالى- لا يلْحَقه تعب ولا يلحقه كسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} ق: 38، هذه السماوات العظيمة والأرض وما بينهما خلقها الله تعالى في ستة أيام: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، قال: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} ق: 38، يعني: ما تَعِبْنَا بخلقها. شرح رياض الصالحين (2/216).
قوله: «وإنَّ أحب الأعمال إلى الله»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإنَّ أحبَّ العمل إلى الله» أكثره ثوابًا. التنوير شرح الجامع الصغير (3/80).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«وإن أحب» محبّةُ الله إرادةُ إثابته، وقيل: المحبّةُ من اللهِ هي: إرادة حُبِّ الجزاء وكريم المآب، والبُغضُ منه: شدَّةُ العقاب وسوء المآب. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 501).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلقًا:
هذا تأويل لمعنى المحبة بلازمها، وهذا غير صحيح؛ لأنه يؤدي إلى نفي صفة المحبة عن الله تعالى بمعناها الحقيقي اللائق به -سبحانه وتعالى-.
فالصواب: إثباتها له، كما أثْبَتَتها النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة على المعنى اللائق به -سبحانه وتعالى-، كسائر صفاته العليَّة، من الرضا، والإرادة، والقدرة، والعلم، وغيرها من غير فرق.
ولا يلزم في ذلك تشبيهه بالمخلوقين؛ إذ صفاته تعالى لا تُشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته تعالى لا تُشبه ذواتهم، ولا فرق، وإنما يلزم التَّشْبيه لو أثبتناها على المعنى الذي تُفسَّر به إذا كانت للمخلوق -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا-، فتَبَصَّر ولا تَتَحَيَّر، واسْلُك سبيل السلف، تسلَم من الضلال والتَّلف. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 487).
قوله: «ما دام وإن قلَّ»:
قال النووي -رحمه الله-:
قوله: «ما دُووِمَ عليه» هكذا ضبطناه «دُووِمَ عليه» وكذا هو في معظم النُّسَخ «دُووِمَ» بواوين، ووقع في بعضها «دُوِّمَ» بواو واحدة، والصواب الأول. شرح مسلم (6/71).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «ما دام» أي: دوامًا عُرفيًّا؛ إذ حقيقة الدوام -وهو شمول جميع الأزمنة- غير مَقْدُوْرٍ. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/ 96).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقوله: «ما دام» أي: ما استمرَّ في حياة العامل، وليس المراد حقيقة الدوام التي هي شمول جميع الأزمنة. فتح الباري (3/16).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
لا تَنَافي بينهما من حيث إنَّ الدوام استغراق الأوقات، فلا يكون قليلًا؛ بل هو غير مقدور؛ لأن المراد بالدوام: المواظَبة العُرفية، وهي الإتيان بها في كل شهر، أو كل يوم بقدر ما يُطلق عليه عُرفًا اسم المداومة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 496).
وقال الباجي -رحمه الله-:
المداومة على ضربين:
أحدهما: بالنية.
والثاني: بتكرُّر العمل، فأما بالنية فعلى ضربين:
أحدهما: تكرُّرها قبل وقت العمل.
والثاني: تكرُّرها مع العجز عن العمل والعزم على الإتيان به متى أمكن، وأما تكرار العمل فهو أن تكون له نافلة صوم أو صلاة أو صدقة فيداومها، فكانت هذه النافلة أحب الأعمال إليه وإن قلَّت، ويراها أفضل من كثير النافلة التي لا يداوم عليها، ويحتمل أن يكون ذلك لمعنيين:
أحدهما: أنَّ يسير العمل الذي يَدُوم عليه صاحبُه يكون منه في جميع العمر أكثر من الكثير الذي يُفْعَل مرةً أو مرتين ثم يتركه ويترك العزم عليه، والعزم على العمل الصالح يُثاب عليه.
والثاني: أن العمل الذي يُدَاوَم عليه هو المشروع، وأنَّ ما تُوُغِّلَ فيه بعنف ثم قُطِعَ فإنه غير مشروع. المنتقى شرح الموطأ (1/310).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إنما أَحَبَّ الدائم لمعنيين:
أحدهما: أن الْمُقْبِلَ على الله -عزّ وجلّ- بالعمل إذا تركه من غير عذر كان كالمعرض بعد الوصل، فهو مُعرَّض للذم؛ ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه الحفظ، ولكنه أعرض بعد المواصلة، فلاقٍ به الوعيد، وكذلك يُكره أن يُؤْثِرَ الإنسان بمكانه من الصف الأول؛ لأنه كالراغب عن القُرَب إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا قال -عليه السلام- لعبد الله بن عمرو: «لا تكوننَّ مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل».
والثاني: أن مُدَاوم الخير مُلازم للخدمة، فكأنه يتردد إلى باب الطاعة كل وقت، فلا يُنسى من البِرِّ لتَرَدُّدِهِ، وليس كمن لازَمَ الباب يومًا دائمًا ثم انقطع شهرًا كاملًا. كشف المشكل (4/ 278).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«وإنَّ أحبَّ العمل إلى الله تعالى ما دام وإن قلَّ»؛ وذلك لأن الغرض من العمل ملاحظة جلال المعبود لا كثرة الأفعال، ألا ترى ما تقدم من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (9/ 346).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ولذا كان عمله -صلى الله عليه وسلم- دِيْمَة كما قالت عائشة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/80).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وإن قلَّ» لأنه يستمر بخلاف الكثير الشَّاق. إرشاد الساري (8/450).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
إنما كان العمل الذي يُداوَم عليه أحبَّ؛ لأن النفس تألف به، ويدوم بسببه الإقبالُ على الله تعالى؛ ولهذا يُنْكِرُ أهلُ التصوف ترك الأوراد، كما يُنكَرون ترك الفرائض. شرح المصابيح (2/ 171).
وقال الدهلوي -رحمه الله- مُعلقًا:
لكن ينبغي أن يُعلم أن المداومة على الورد ضربان: بالشخص وبالنوع، أما بالشخص فبِأَنْ يُواظِب ويداوِم على وِرْدٍ واحد بالشخص من صلاة أو صيام أو آية أو دعاء أو ذكر ويكرره كل يوم، وأما بالنوع فَبِأَنْ يقرأ كل يوم فردًا منها غير ما قرأ اليوم السابق أيًّا شاءه، وبهذا الطريق أيضًا يحصل المداومة، ويحصل تأثيره. لمعات التنقيح (3/ 348).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
مَن سلك الطريقَ المتوسطَ يَقدِر على المداومة والمواظبة، وأفضلُ الأعمال عند الله «أدومُها وإن قلَّ»، وإنْ بالَغَ في العمل وأَتعبَ نفسَه عجزَ عن المداومة على ذلك وانقطعَ عنه، بل ربما إذا بالَغَ وأقبلَ الناسُ عليه بوجوههم اغترَّ بنفسه، وتَدَاخَلَه أنه خيرٌ من غيره، فيصير أحمقَ مُعجَبًا بنفسه، متكبرًا بعمله. شرح المصابيح (5/ 448).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
مَثَلُ العمل الكثير الشَّاق المنقطِع مثل المطر الغزير الذي ينزل بكثرة كأفواه القِرَب في يوم واحد، بحيث يهدم البيوت، ويُفْسِد الزروع، ويقطع السُّبُل، ويَمُوتُ كثير من الناس والبهائم بِسِيُولِهِ، ثم ينقطع في اليوم الثاني، فإنه مضرة، لا تنتفع منه البلاد، ولا يستفيد منه العباد.
ومَثَلُ العمل القليل الدائم، كمثل المطر القليل الذي ينزل كل وقت بحسب الحاجة، فينبت الزرع، ويدِرُّ الضَّرْعُ، ويملأ الأودية بِمِيَاهِهِ، فينتفع به الناس والبهائم، فإنه نفعٌ محضٌ؛ لِنَفْعِهِ البلاد، وإغاثته العباد. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/370).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
قطرات من الماء تقع على الحجر على توالٍ فتؤثر فيه؛ وذلك القَدْرُ من الماء لو صُبَّ عليه دفعة واحدة لم يُؤثِّر؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الأعمال أدومها وإن قلَّ»، والأشياء تُسْتَبَانُ بأضداها، وإن كان النافع من العمل هو الدائم وإن قلَّ، فالكثير المنصرم قليل النفع في تنوير القلب وتطهيره. إحياء علوم الدين (4/ 32).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
إن القليل الدائم كثيرًا ما يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة، وفي المثل: إن الْمُنْبَتَّ لا أرضًا قَطَعَ ولا ظَهْرًا أَبْقَى. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (5/24).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وفيه: إشارة إلى ما كان -صلى الله عليه وسلم- عليه من الزهادة في الدنيا والإعراض عنها، والاكتفاء مِن متاعها بما لا بد منه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 102).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: تواضُعه ورضاه باليسير، وجلوسه على الحصير، وصلاته عليها ليَسُنَّ ذلك لأُمَّته. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/48).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
وفيه من الفقه -أيضًا-: ما قاله المهلب: جواز الائتمام بمن لم ينوِ أن يكون إمامًا في تلك الصلاة؛ لأن الناس ائتموا به -عليه السلام- وراء الحائط ولم يعقد النية معهم على الإمامة، وهو قول مالك والشافعي. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/618).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
ثم إنْ نوى الإمام إمامتهم بعد اقتدائهم حصلت له فضيلة الجماعة ولهم، وإن لم ينوها حصلت لهم فقط لا له؛ لأنه لم ينوها، والأعمال بالنيات. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 102).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: جواز النافلة في جماعة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/619).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: بيان ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الاجتهاد في العبادة، وقيام الليل...
ومنها: ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الحرص في تتبُّع أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ للاقتداء به. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 490).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه أيضًا: أنَّ فِعْلَ النوافل في البيت أفضل، وروى ابن القاسم عن مالك: إن التَّنفُّل في البيوت أحب إليَّ منه في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا للغرباء. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/619).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- ورأفته بأُمَّتِه؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط، والقلب منشرحًا فتتم العبادة، بخلاف مَن تعاطى من الأعمال ما يشق؛ فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه، أو يفعله بكلفة وبغير انشراح القلب، فيفوته خير عظيم، وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- مَن اعتاد عبادة ثم أفرط فقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الحديد:27، وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص على تركه قبول رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تخفيف العبادة ومجانبة التشديد. شرح مسلم (6/71).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه أيضًا: شفقته على أُمَّته خشية أن تُكْتَبَ عليهم صلاة الليل فيعجزوا عنها فترك الخروج؛ لئلا يدخل ذلك الفعل منه في حد الواجب عليهم من جهة الاقتداء فقط. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/619).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصًّا بالصلاة، بل هو عام في جميع أعمال البِرِّ. شرح مسلم (6/71).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ففي هذا: دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يعمل العبادة على وجهٍ مقتصدٍ، لا غلو ولا تفريط؛ حتى يتمكن من الاستمرار عليها، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ. شرح رياض الصالحين (2/215).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وفيه: أن الكبير إذا فعل شيئًا خلاف ما يتوقعه أتباعُه ذَكَرَ لهم عُذْرَه وحِكْمَتَه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 102).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: الحث على المداومة على العمل، وأنَّ قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق -سبحانه وتعالى-، ويُثْمِرُ القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. شرح مسلم (6/71).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: أن يُقدِّم الأهمَّ عند تَعَارُض المصلحة وخوف المفسدة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/619).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وفي الحديث: أن القليل من العمل بنشاطٍ أصلح من كثير لا ينشط ويُفضي إلى تركه كله أو بعضه، كما قال تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الحديد: 27، ولكن ينبغي أن يَعْتَاد الطالب ويجتهد ويُعوِّد النفس على كثرة العمل، فبعد التعويد يسهل العمل ويصير الكثير كالقليل، ولا يكون كأصحاب الدَّعَة والكسل يَمَلُّون بقليل من العمل ويتركونه، حتى من اعتاد هان عليه مثلًا مائة ركعة، وعشرة أجزاء، وأزيد وأزيد بعد ما كان يثقل عليه عشر ركعات، وتلاوة جزء منها، والطمع في ثواب الله ورضاه، والشوق إلى لقائه -عزّ وجلّ- يُهَوِّن ويُسَهِّل أكثر من ذلك، ومن الله التوفيق. لمعات التنقيح (3/349).