السبت 20 شوّال 1446 هـ | 19-04-2025 م

A a

 «الرُّؤيا الحسنةُ مِن الرَّجلِ الصَّالحِ جزءٌ مِن ستةٍ وأربعينَ جزءًا مِن النُّبوَّةِ».


 رواه البخاري برقم: (6983)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


..


غريب الحديث


«الرُّؤْيَا»:
هو ما يراه النائم في منامِه، تقول: رأيتُ رؤيةً، إذا عاينتَ ببصرك، ورأيتُ رأيًا إذا اعتقدت شيئًا في قلبك، ورأيتُ رؤيا إذا رأيتَ شيئًا في منامك، وقد تُستعمل الرؤيا مصدرًا في اليقظةِ، كما قال الراعي:
وكبَّرَ للرؤيا وهشَّ فؤاده *** وبشَّرَ نفسًا كان قبل يلومها.
والأبيات قبله تدلُّ على أنَّها رؤية اليقظةِ. القبس، لابن العربي (ص: 1135).
قال الزمخشري -رحمه الله-:
الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنَّها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث، كما قيل: القُربة والقُربَى. الكشاف (2/ 419).


شرح الحديث


قوله: «‌الرؤيا ‌الحسنة»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
يحتمل قوله: «الحسنة» و«الصالحة» أنْ يكون راجعًا إلى ‌حُسن ‌ظاهرها، ويحتمل أنْ يرجع إلى صحتها. إكمال المعلم (7/ 207).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «‌الرؤيا ‌الحسنة» يحتمل -والله أعلم- أنْ يريد به الصادقة، ويحتمل أنْ يريد به المبشِّرة. المنتقى (7/ 276).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «الحسنة» وهي إما باعتبار حُسن ظاهرها، أو حُسن تأويلها، وقسَّموا الرؤيا إلى حسنة ظاهرًا وباطنًا، كالمتكلم مع الأنبياء، أو ظاهرًا لا باطنًا، كسماع الملاهي، وإلى رديئة ظاهرًا وباطنًا، كلدغ الحية، أو ظاهرًا لا باطنًا، كذبح الولد. الكواكب الدراري (24/ 98).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«‌الرؤيا ‌الحسنة» أي: الصالحة. إرشاد الساري (10/ 123، 124).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الحسنة» وهي ما فيها بشارة، أو نذارة، أو تنبيه على تقصير أو غفول، أو نحو ذلك. فيض القدير (1/ 348).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«الرؤيا الحسنة» أي: بدل الصالحة، فالمراد منهما واحد؛ لأن الروايات يفسر بعضها بعضًا، والمراد الحسنة صورةً، والصالحة تأويلًا. دليل الفالحين (5/ 318).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قيَّد الرؤيا بالحسنة لإخراج أضغاث الأحلام. الكوثر الجاري (10/ 468).

قوله: «‌من ‌الرَّجل ‌الصالح»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: «‌الرؤيا ‌الحسنة من الرَّجل الصالح» إنما يريد عامة رؤيا الصالحين، وهي التي يُرجى صدقها؛ لأنه قد يجوز على الصالحين الأضغاث في رؤياهم، لكن لما كان الأغلب عليهم الخير والصدق، وقلة تحكم الشيطان عليهم في النوم أيضًا؛ لما جعل الله فيهم من الصلاح، وبقي سائر الناس غير الصالحين تحت تحكم الشيطان عليهم في النوم؛ مثل تحكمه عليهم في اليقظة في أغلب أمورهم، وإنْ كان قد يجوز منهم الصدق في اليقظة، فكذلك يجوز في رؤياهم صدق أيضًا. شرح صحيح البخاري (9/ 513).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«من الرَّجل الصالح» وكذا المرأة الصالحة غالبًا. إرشاد الساري (10/ 123، 124).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قيَّد الرَّجل بالصالح لإخراج الفاسق. الكوثر الجاري (10/ 468).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «‌الرؤيا ‌الحسنة من الرَّجل الصالح» هذا يقيد ما أطلق في غير هذه الرواية، كقوله: «رؤيا المؤمن جزء» ولم يقيدها بكونها حسنة، ولا بأن رائيها صالح، ووقع في حديث أبي سعيد: «الرؤيا الصالحة» وهو تفسير المراد بالحسنة. فتح الباري (12/ 362).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
لم يذكر في ذلك كافرًا ولا مبتدعًا، فأخرجنا لذلك ما يراه الكافر من هذا التقدير والتجريد؛ لما في الأخبار من صريح الشرط لرؤيا المؤمن، وأدخلنا ما يراه الكافر من صالح الرؤيا في خبره المطلق: «الرؤيا من الله»؛ إذ لم يشترط فيه مؤمنًا ولا غيره، فقلنا لذلك: ما صدق من منامات الكفار فهي من الله، ولم يقل كذا ولا كذا من النبوة، سيما أن الأشعري وابن الطيب يريان أن جميع ما يُرى في المنام من حق أو باطل خلق الله، فما كان منه صادقًا خلقه بحضور الملك، وإلا فبحضور الشيطان؛ فيضاف بذلك إليه.
فإنْ قلتَ: يجوز أن يسمى ما يراه الكافر صالحًا؟ قيل: نعم، وبشارة أيضًا، كانت الرؤيا له أو لغيره من المؤمنين؛ لقوله -عليه السلام-: «الرؤيا الصالحة يراها الرَّجل الصالح أو تُرى له» فاحتمل هذا الكلام أن يراها الكافر لغيره من المؤمنين، وهو صالح للمؤمنين، كما أن ما يراه الكافر بما يدل على هدايته وإيمانه فهو صالح له في عاقبته؛ وذلك حجة من الله عليه، وزجر له في منامه، وقد أسلفنا أول الإيمان في حديث عائشة -رضي الله عنها-: «أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة»، أنها الصادقة؛ لأنها صالح ما يرى في المنام من الأضغاث، وأباطيل الأحلام، وكما أنبأ الله الكفار في اليقظة بالرسل وبالمؤمنين من عباده -دون المشركين من أعدائه-، قامت الحجة على المشركين بذلك إلى يوم القيامة؛ ولذلك يجوز إنباؤهم في المنام مما يكون حُجَّة عليهم أيضًا. التوضيح (32/ 155، 156).

قوله: «جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال بعض الشُّراح: كذا هو في جميع الطرق، وليس في شيء منها بلفظ من الرسالة، بدل «من النبوة»، قال: وكأن السر فيه أن الرسالة تزيد على النبوة بتبليغ الأحكام للمكلفين بخلاف النبوة المجردة، فإنها اطلاع على بعض المغيبات. فتح الباري (12/ 374).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «جزء...» إلخ، حقيقة التجزِّي لا تُدرى، والروايات أيضًا مختلفة، والقَدْرُ الذي أُريد إفهامه هو أنَّ الرؤيا لها مناسبة بالنبوة، من حيث إنها اطلاع على الغيب بواسطة الملك إذا كانت صالحة. كفاية الحاجة شرح سنن ابن ماجه (2/ 447-448).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«‌جزء ‌من ‌ستة وأربعين جزءًا من النبوة» قيل: معناه: أن الرؤيا جزء من أجزاء عِلْمِ النبوة، والنبوة غير باقية، وعِلْمُها باقٍ، وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات: الرؤيا الصالحة». الميسر (3/ 1017).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» وصفها بأنها جزء من النبوة؛ لِمَا كان فيها من الإنباء بما يكون في المستقبل على وجه يصح، ويكون من عند الله -عز وجل-، وقد قال جماعة من أهل العلم: للرؤيا مَلَكًا وُكِّل بها، يَرى الرائي من ذلك ما فيه تنبيه على ما يكون. المنتقى (7/ 276).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام في اللغة، والمعنى: أن ‌الرؤيا إنباء صادق من الله، لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب. شرح صحيح البخاري (9/ 517).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «من النبوة» أي: في حق الأنبياء دون غيرهم، وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم، كما يوحى في اليقظة، وقيل: معناه: أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة، لا أنها جزء باقٍ من النبوة. الكواكب الدراري (24/ 98).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: لم عبَّر بلفظ النبوة دون لفظ الرسالة؟
أُجيب: بأنَّ السر فيه أنَّ الرسالة تزيد على النبوة بالتبليغ بخلاف النبوة المجردة؛ فإنها اطِّلَاع على بعض المغيبات، وكذلك الرؤيا. إرشاد الساري (10/ 124).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
ومعنى الحديث: تحقيق الرؤيا، وأنها مما كان الأنبياء يثبتونه ويحققونه، وأنها كانت جزءًا من أجزاء العلم الذي كان يأتيهم، والأنباء التي كانت ينزل بها الوحي عليهم، والله أعلم. أعلام الحديث (4/ 2319).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معنى هذا الكلام: تحقيق أمر الرؤيا، وتأكيده، وإنما كانت جزءًا من أجزاء النبوة في الأنبياء -صلوات الله عليهم- دون غيرهم، وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة. معالم السنن (4/ 138).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» إنَّما خص هذا العدد لأن عُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أكثر الروايات الصحيحة كان ثلاثًا وستين سنة، وكانت مدة نبوته منها ثلاثًا وعشرين سنة؛ لأنه بعث عند استيفاء الأربعين، وكان في أول الأمر يرى الوحي في المنام، ودام كذلك نصف سنة، ثم رأى الملك في اليقظة، فإذا نسبت مدة الوحي في النوم- وهي نصف سنة- إلى مدة نبوته، وهي ثلاث وعشرون سنة، كانت نصف جزء من ثلاثة وعشرين جزءًا؛ وذلك جزء واحد من ستة وأربعين جزءًا، وقد تعاضدت الروايات في أحاديث الرؤيا بهذا العدد، وجاء في بعضها «جزء من خمسة وأربعين جزءًا»، ووجه ذلك: أن عمره -صلى الله عليه وسلم- لم يكن قد استكمل ثلاثًا وستين، ومات في أثناء السنة الثالثة والستين، ونسبة نصف السنة إلى اثنتين وعشرين سنة وبعض الأخرى، نسبة جزء من خمسة وأربعين جزءًا، وفي بعض الروايات «جزء من أربعين» ويكون محمولًا على من روى أن عُمره كان ستين سنة، فيكون نسبة نصف سنة إلى عشرين سنة كنسبة جزء إلى أربعين.
ومنه الحديث: «الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة» أي: أن هذه الخِلال من شمائل الأنبياء، ومن جملة الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء معلوم من أجزاء أفعالهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها، وليس المعنى: أن النبوة تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة؛ فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله تعالى، ويجوز أن يكون أراد بالنبوة ها هنا ما جاءت به النبوة، ودعت إليه من الخيرات، أي: إن هذه الخلال جزء من خمسة وعشرين جزءًا مما جاءت به النبوة، ودعا إليه الأنبياء. النهاية (1/ 265-266).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وهذا لا يستلزم أنْ تكون جزءًا من حقيقة النبوة؛ لأنه محال ظاهر، بل المراد المشابهة من الاطلاع على المغيبات، وعالم الملكوت، ومَن قيَّده بستة وأربعين، فأكثرهم على أن ذلك لأن نبوَّته كانت ثلاثًا وعشرين، ستة أشهر منها بالمنام، وقيل غير ذلك، لا يصح شيء منها؛ لاختلاف الروايات في ذلك على عشرة أوجه، أقلها من ستة وعشرين، وأكثرها من ستة وسبعين.
وأيضًا لم يقيده بنبوته، بل أطلق النبوة، فالذي يجب المصير إليه أن هذا باعتبار الأشخاص، وقُرب حالهم من الأنبياء، فالذي يكون أقرب يكون من أرباب ستة وعشرين، وهكذا، ولا يلزم الوقوف أيضًا على ستة وسبعين؛ لأن مفهوم العدد لا يُعتبر في أمثاله، كقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} التوبة: 80، ليس معناه: أنه إن زاد بعض فأوَّلهم الأنبياء؛ فإن رؤياهم وحيٌ لا يمكن خلافه، ثم غير الأنبياء على قدر صدق أقوالهم، من كان أصدقهم كلامًا كان أصدقهم منامًا، إلى أدنى المؤمنين، فيكون صدقُ منامه نادرًا، فتكون رؤيا مثله جزءًا من ألف جزء من النبوة تقريبًا، والله أعلم. الكوثر الجاري (10/ 468-469).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» مجازًا لا حقيقة؛ لأن النبوة انقطعت بموته -صلى الله عليه وسلم-، وجزء النبوة لا يكون نبوة، كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة، نعم إن وقعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وقيل: إن وقعت من غيره -عليه السلام- فهي جزء من عِلْمِ النبوة؛ لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باقٍ، وقول مالك -رحمه الله- لما سُئل أَيُعَبِّرُ الرؤيا كل أحد؟ فقال: أَبِالنُّبُوَّة يُلعَب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يُلعب بالنبوة، أجيب عنه: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها لَمَّا أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم. إرشاد الساري (10/ 123).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فإن قيل: فما معنى اختلاف الأجزاء في ذلك في القلة والكثرة؟ قيل: وجدنا ‌الرؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما، وهو أن يرى الرَّجُل رؤيا جلية ظاهرة التأويل، مثل من رأى أنه يعطى شيئًا في المنام، فيعطى مثله بعينه في اليقظة، وهذا الضرب من ‌الرؤيا لا إغراق في تأويلها، ولا رمز في تعبيرها، والقسم الثاني ما يراهُ من المنامات المرموزة البعيدة المرام في التأويل، وهذا الضرب يعسر تأويله إلا الحذاق بالتعبير؛ لبُعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا القسم من السبعين جزءًا كانت ‌الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق، وآمن من وقوع الغلط في تأويلها، وإذا كثرت الأجزاء بَعُدَت بمقدار ذلك، وخفى تأويلها، والله أعلم بما أراد نبيه -صلى الله عليه وسلم-. شرح صحيح البخاري (9/ 517).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقد اختلفت في ذلك الآثار حتى بلغت إلى سبعين، وقيل: خمس وأربعون، وست وأربعون، وخمس وسبعون، قال علماؤنا: في ذلك تأويلات:
منها: أن هذه الرؤيا المنقسمة على هذه الأجزاء إنها رؤيا ذي النبوة، لا أنها نفس النبوة، واختلاف الأعداد فيها لأنها جُعلت بشارات، فأعطى من فضله جزءًا من سبعين جزءًا في الابتداء، ثم زاد من فضله حتى بلغت خمسًا وأربعين، وانتهى بعضهم إلى أن يقول: إن مدة النبي-صلى الله عليه وسلم- كانت ثلاثًا وعشرين سنة، وأن ستة أشهر منها كان يوحى إليه في المنام، وهذا يفتقر إلى نقل صحيح، ولو ثبت بالنقل ما أفادنا شيئًا في غرضنا، ولا صح حمل اللفظ عليه. القبس (ص:1138، 1139).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: قد يحتمل أنْ تكون هذه التجزئة من ‌طرق ‌الوحي، ومنه ما سمع من الله دون واسطة، كما قال: {مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} الشورى: 1، ومنه بواسطة الملَك، كما قال: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} الشورى: 51، ومنه ما يلقيه في القلب كما قال: {وَحْيًا} الشورى: 51، ثم منه ما يأتيه به الملَك على صورته، ومنه ما يأتيه به على صورة الآدمي، وقد يعرفه كما جاء في غير حديث، ومنه ما يتلقاه منه وهو لا يعرفه حتى يعرفه آخر كحديث: «ردوا عليّ الرَّجل»، ومنه ما يأتيه به في منامه بحقيقة كقوله: «الرجل مطبوب (أي: مسحور)»، ومنه ما يأتيه به بالمثال، وأحيانًا يسمع الصوت ويرى الضوء، وأحيانًا يغط ويأخذه به في الرُّحَضاء (العرق)، ومنه ما يأتيه كصلصلة الجرس، ومنه ما يلقيه روح القُدُس، إلى غير ذلك مما وقفنا عليه ومما لم نقف عليه، فتكون الرؤيا التي هي ضربُ مثالٍ جزءًا من ذلك العدد من أجزاء الوحي، والله أعلم. إكمال المعلم (7/ 214).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
اختلاف آثار هذا الباب في عدد أجزاء ‌الرؤيا من النبوة، ليس ذلك عندي باختلاف تضاد وتدافع -والله أعلم-؛ لأنه يحتمل أن تكون ‌الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على ستة وأربعين جزءًا، أو خمسة وأربعين جزءًا، أو أربعة وأربعين جزءًا، أو خمسين جزءًا، أو سبعين جزءًا، على حسب ما يكون الذي يراها؛ من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدِّين المتين، وحُسن اليقين، فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون ‌الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد -والله أعلم-، فمن خلَصت له نيته في عبادة ربه، ويقينه وصدق حديثه، كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون، والنبوة كذلك -والله أعلم-. التمهيد (1/ 520).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اختلفت الرواية فيه من ستة وعشرين إلى سبعين، وأكثرها في الصحيحين، وكلها مشهور فلا سبيل إلى أخذ أحدها، وطرح الباقي، كما قد فعل أبو عبد الله المازري، فإنَّه قد يكون بعض ما تَرَكَ أولى مما قَبِلَ، إذا بحثنا عن رجال أسانيدها، وربما ترجَّح عند غيره غير ما اختاره هو، فإذًا: الوجه الذي يتعيَّن المصير إليه أنْ يُقال: إن هذه الأحاديث -وإن اختلفت ألفاظها- متفقة على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة، فهذه شهادة صحيحة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بأنها وحي من الله تعالى، وأنها صادقة لا كذب فيها؛ ولذلك قال مالك وقد قيل له: أيُفَسِّر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أيُلعب بالوحي؟! وإذا كانت هكذا فتعيَّن على الرائي أنْ يعتني بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها؛ فإنَّها إما مبشرة له بخير، أو محذرة له من شر، فإنْ أدرك تأويلها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهليَّة ذلك، وهو اللبيب الحبيب. المفهم (6/ 14).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
إذا تقرَّر هذا فلا يضرنا الاضطراب الذي وقع في عدد تلك الأجزاء مع حصول المقصود من الخبر؛ غير أنَّ علماءنا قد راموا إزالة ذلك الاضطراب، وتأوَّلوه تأويلات...المفهم (6/15 -18).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد: أنه وقع بحسب الوقت الذي حدَّث فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، كان يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدَّث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك؛ وذلك وقت الهجرة، ولما أكمل عشرين حدث بأربعين، ولما أكمل اثنين وعشرين حدث بأربعة وأربعين، بعدها بخمسة وأربعين، ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته، وأما ما عدا ذلك من الروايات بعد الأربعين فضعيف، ورواية الخمسين يحتمل أن تكون لجبر الكسر، ورواية السبعين للمبالغة، وما عدا ذلك لم يثبت، وهذه مناسبة لم أر من تعرَّض لها.
ووقع في بعض الشروح مناسبة للسبعين ظاهرة التكلف، وهي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره: «أنا بشارة عيسى، ودعوة إبراهيم، ورأت أمي نورًا» فهذه ثلاثة أشياء تضرب في مدة نبوته، وهي ثلاثة وعشرون سنة، تضاف إلى أصل الرؤيا، فتبلغ سبعين، قلتُ: ويبقى في أصل المناسبة إشكال آخر، وهو أن المتبادر من الحديث إرادة تعظيم رؤيا المؤمن الصالح، والمناسبة المذكورة تقتضي قصر الخبر على صورة ما اتفق لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، كأنه قيل: كانت المدة التي أوحى الله إلى نبينا فيها في المنام جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من المدة التي أوحى الله إليه فيها في اليقظة، ولا يلزم من ذلك أن كل رؤيا لكل صالح تكون كذلك، ويؤيد إرادة التعميم الحديث الذي ذكره الخطابي في الهدي والسمت؛ فإنه ليس خاصًّا بنبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- أصلًا، وقد أنكر الشيخ أبو محمد ابن أبي جمرة التأويل المذكور، فقال: ليس فيه كبير فائدة، ولا ينبغي أن يُحمل كلام المؤيد بالفصاحة والبلاغة على هذا المعنى، ولعل قائله أراد أن يجعل بين النبوة والرؤيا نوع مناسبة فقط. فتح الباري (12/ 365).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
هذا عندي من الأحاديث المتشابهة التي نُؤمن بها، ونَكِلُ معناها المراد إلى قائله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نخوض في تعيين هذا الجزء من هذا العدد، ولا في حكمته خصوصًا. الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (5/ 284).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث: دليل على أنَّ الرؤيا الصالحة بُشرى من الله دون الرؤيا السيئة. الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 268).

وللاستفادة من الراوية الأخرى ينظر (هنا)


ابلاغ عن خطا