«مَنْ أرادَ الحجَّ فليتعجَّلْ؛ فإنَّه قدْ يمرضُ المريضُ، وتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وتَعْرِضُ الحاجةُ».
رواه أحمد برقم: (1834)، وأبو داود برقم: (1732)، وابن ماجه برقم: (2883)، والحاكم برقم: (1645)، من حديث ابن عباس عن الفضل، أو أحدهما عن الآخر -رضي الله عنهما-.
وفي لفظ لأحمد برقم: (2867): «تعجلوا إلى الحج -يعنى الفريضة- فإنّ أَحدكم لا يدري ما يَعرِضُ له».
صحيح الجامع برقم: (2957 ، 6004)، إرواء الغليل برقم: (990).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«وتَضِلُّ الضَّالَّةُ»:
الضالة لا يقع معناها إلا على الحيوان خاصة التي هي تضلُّ. غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 203).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
و«الضالة» الضائعة التي تضلُّ عن صاحبها، ضلَّ الشيء يضل ضلالة، فهو ضال: إذا ضاع وإذا هلك، والضالة اسم فاعله في الأصل، ثم استعمل الضالة في الحيوان الضائع، وكثر إطلاق ذلك عليه حتى صار كالمقصور عليه، وحتى صار إطلاقه على غيره كالمجاز المنقول عن أصله. الشافي، لابن الأثير (4/ 237).
«وتَعْرِضُ الحاجةُ»:
بكسر راءٍ، أي: تظهر. مجمع بحار الأنوار، للفتني(3/ 565).
شرح الحديث
قوله: «من أراد الحج فليتعجَّل»:
قال المظهري -رحمه الله-:
معناه: من وجب عليه الحج فليُعجِّل، وهذا أمر استحباب؛ لأن تأخير الحج جائز من وقت وجوبه إلى آخر العمر. المفاتيح (3/ 261).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «من أراد» أي: قدر على أداء الحج؛ لأن الإرادة مبدأ الفعل، والفعل مسبوق بالقدرة، فأطلق أحد سببي الفعل وأراد الآخر. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1945).
وقال الطيبي -رحمه الله- أيضًا:
معنى «فليتعجل» فليغتنم الفرصة إذا وجد الاستطاعة من القوت والزاد والراحلة، قبل أن يمنع مانع لم يقدر عليه. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1945).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«من أراد الحج» وكان مستطيعًا «فليتعجَّل» بفتح الياء والتاء وتشديد الجيم، استدل به على تعجيل الحج لمن وجب عليه بنفسه أو بغيره. شرح سنن أبي داود (8/ 209).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: من وجب الحج عليه واستطاع فليعجل إتيانه، والأمر للاستحباب؛ لأن تأخيره جائز بعد وجوبه إلى آخر عمره. شرح المصابيح (3/ 244، 245).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من أراد الحج» أي: ونحوه من العمرة، أو غيرها من العبادات. شرح مسند أبي حنيفة (1/ 297).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والأمر للندب؛ لأن الحج موسع. التيسير (2/ 393).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «من أراد الحج» أي: قدر على أدائه بوجود الاستطاعة. لمعات التنقيح (5/ 287).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «من أراد الحج فليتعجل» أي: يستحب له التعجيل؛ لما في التأخير من تعريضه. كفاية الحاجة (2/ 207).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من أراد الحج» قدر عليه بوجود شروطه «فليتعجل» يغنم الفرصة؛ لما يأتي في الحديث الآخر، فإنه إذا فات مع إمكانه قد لا يتمكن منه أبدًا، فيفوته خير كان قد يُسِّر له. التنوير (10/ 73).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«من أراد» منكم أيها المسلمون، وليس المراد به المخاطبون بخصوصهم، «الحج فليتعجل» فإن للتأخير آفات. التنوير (10/ 74).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فليتعجَّل» لأنه قد يعوقه عائق، ويعرض له مانع، فيفوته بذلك الحج، وهذا يدل على وجوبه على الفور. بذل المجهود (7/ 25).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «من أراد الحج فليتعجل»؛ خشية أن يمنعه مانع منه. المنهل العذب المورود (10/ 272).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«من أراد الحج» أي: من استطاع الحج، وقدر على أدائه، باستكمال شروط الاستطاعة، وأراد أداءه في أول سِنِيِّ الإمكان «فليتعجل» أي: فليفعله معجلًا في أول سِنِيِّ الإمكان استحبابًا؛ مسارعة إلى براءة الذمة من حقوق الله تعالى. مرشد ذوي الحجا والحاجة (17/ 17).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
الأمر في قوله: «فليعجِّل» للندب مستطيعًا كان المريد أو غيره؛ لأن فرض الحج على التراخي، وبه قال الشافعي والأكثرون؛ لأن فريضة الحج أُنزلت سنة خمس من الهجرة، وأخَّره رسول الله وأصحابه مع القدرة والاستطاعة إلى سنة عشر، وقال مالك والمزني وأبو يوسف: فَرْضُ الحج على الفور، ولا يجوز تأخيره لمن قدر عليه.
فإن قيل: إنَّما أخَّره رسول الله لاشتغاله بالحروب، وخوفه على المسلمين من المشركين.
قلنا: إنَّه اعتمر سنة سبعٍ عمرة القضاء، وفتح مكة سنة ثمان، وبعث أبا بكر سنة تسعٍ، فحج بالناس، ولو كان ممنوعًا من الحج لكان ممنوعًا من العمرة، ولو كان خائفًا على أصحابه لما أنفذهم مع أبي بكر سنة تسع.
قال الأصحاب: الحج عندنا على التراخي إلا أن يخشى العضب (المعضوب الذي خَبِلَت أطرافه بزمانة أصابته حتى منعته عن الحركة) أو هلاك المال؛ لأمارة يدل عليها، فيضيق، ويعصي بالتأخير. الأزهار مخطوط لوح (247).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وأُجيب (على الاستدلال بتأخُّر حج النبي) بأنَّه قد اختُلف في الوقت الذي فُرض فيه الحج، ومن جملة الأقوال: أنَّه فُرض في سنة عشر، فلا تأخير، ولو سُلِّم أنه فُرض قبل العاشر، فتراخيه -صلى الله عليه وسلم- إنما كان لكراهة الاختلاط في الحج بأهل الشرك؛ لأنهم كانوا يحجون ويطوفون بالبيت عراة، فلما طهر الله البيت الحرام منهم حج -صلى الله عليه وسلم-، فتراخيه لعذر، ومحل النزاع التراخي مع عدمه. نيل الأوطار (4/ 337-338).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والأصح عندنا (الحنفية) أن الحج واجب على الفور، وهو قول أبي يوسف ومالك -رحمهما الله-، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- ما يدل عليه، وهو ما روى ابن شجاع عنه: أن الرجل يجد ما يحج به وقصد التزوج، أنه يحج به، وقال محمد -رحمه الله-: وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول الشافعي أنه على التراخي، إلا أن يظن فواته لو أخَّره؛ لأن الحج وقته العمر؛ نظرًا إلى ظاهر الحال في بقاء الإنسان، فكان كالصلاة في وقتها، يجوز تأخيره إلى آخر العمر، كما يجوز تأخيرها إلى آخر وقتها، إلا أن جواز تأخيره مشروط عند محمد بأن لا يفوت، يعني لو مات ولم يحج أثم، ولأبي يوسف أن الحج في وقت معين من السَّنة والموت فيها ليس بنادر، فيضيق عليه للاحتياط، لا لانقطاع التوسع بالكلية، فلو حج في العام الثاني كان مؤدِّيًا باتفاقهما، ولو مات قبل العام الثاني كان آثمًا باتفاقهما، وثمرة الخلاف بينهما إنما تظهر في حق تفسيق المؤخّر وردِّ شهادته عند من يقول بالفور، وعدم ذلك عند من يقول بالتراخي، كذا حققه الشمني. مرقاة المفاتيح (5/ 1749).
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي -رحمه الله-:
الحج على الفور، إذا وجب لم يجز تأخيره، وبه قال أبو يوسف والمزني وداود، ولا يحفظ عن أبي حنيفة في ذلك شيء، وأصحابه يقولون: إن قوله مثل قول مالك، وعليه يناظرون.
وعند الشافعي: أنه يجب وجوبًا موسعًا، ويجوز للذي وجب عليه أن يفعله في السَّنة التي تجتمع فرائض الحج عليه، وله أن يؤخر سنة بعد سنة إلى أن يموت، ولا يكون عاصيًا بتأخيره.
وروي عن محمد بن الحسن رواية شاذة له على التراخي. عيون المسائل (ص: 256).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
اختلف الناس هل الحج مسترسل أو هو على الفور؟
فذهب جمهور البغداديين إلى حمله على الفور، ويضعف عندي، واضطربت الروايات عن مالك في مطلقات ذلك، والصحيح عنه من مذهبه: أنه لا يحكم فيه بفور ولا تراخٍ، وهو الحق. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 539).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
والحج فريضة على الأعيان الأحرار المستطيعين مرّة في العُمر، هذا ما أجمع المسلمون عليه، واختلفوا هل هو على الفور أو لا؟ واختلف فيه عن أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، فالذي يحكي العراقيون عن المذهب أنه على الفور، وهو قول أبي يوسف والمزني، وقال ابن خويز منداد: تحصيل مذهبنا أنه على التراخي، وهو قول محمد بن الحسن. إكمال المعلم (4/ 160).
وقال يحيى العمراني الشافعي -رحمه الله-:
إذا وُجدت شرائط وجوب الحج وجب عليه الحج، ويجوز له أداؤه على التراخي، والمستحب له أن يقدِّمه؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} البقرة: 148، هذا مذهبنا، وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: الحج يجب على الفور، فمتى أخَّر الحج عن أول سنة يمكنه الحج فيها أثم، وبه قال مالك وأحمد والمزني، وكان الكرخي يقول: هو مذهب أبي حنيفة، وليس بمشهور عنه. البيان (4/ 45، 46).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
يجب الحج عندنا (الشافعية) على التراخي، خلافًا للمزني، ووفاقًا للأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن، وابن عباس وأنس وجابر، وعطاء وطاوس.
وقال مالك في رواية وأبو يوسف: على الفور، وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نص لأبي حنيفة في ذلك، قال أبو يوسف: مذهبه يقتضي أنه على الفور، وهو الصحيح عندهم. التوضيح (11/ 11، 12).
وقال المحب الطبري -رحمه الله-:
قوله: «من أراد الحج فليتعجل»، فقوله: «فليتعجل» محمول على الندب لا محالة، ولا يجوز حمله على الوجوب؛ لأن الخطاب لا يخلو إما أن يكون لمن وجب عليه الحج، أو لمن لم يجب عليه، فإن كان الثاني فظاهر ما ذكرناه، وإن كان الأول وهو الأظهر بدليل الحديث الآخر، يعني الفريضة كان فيه دلالة على أن الخطاب الأول ما اقتضى الفورية، وإلا لزم التكرار لا لفائدة، مع قُبحه من حيث ربطه بالإرادة، فإنَّ من قال لعبده: افعل كذا الساعة على وجه الإلزام، ثم قال: إن أردت أن تفعل كذا فافعله الساعة، عُدَّ هذا مناقضًا للأول، وكل من قال: إنه على التراخي حمَل هذا على الاستحباب، ولا يلزم على ذلك تناقض، فإن من قال لعبده: افعل كذا في جميع النهار، ثم قال: إن أردت فعل هذا الواجب عليك على وجه الأولوية فافعله الساعة، كان هذا الكلام جاريًا على نهج الاستقامة، ولا يُعد مناقضًا للأول، فكان حمل الكلام الفصيح عليه أولى.
والذاهب إلى أن الحج على التراخي: الشافعي والثورِي والأوزاعي ومحمد بن الحسن: واحتجوا بأنَّ فريضة الحج أُنزلت سَنة ستٍّ على الصحيح والأشهر، وقيل: سنة تسع، وصححه عياض، وأخَّر -صلى الله عليه وسلم- الحج إلى سنة عشر، وأخَّرَ معه جمع من مياسير الصحابة، مثل عثمان وعبد الرحمن ونحوهما، وما يتكلف من عذر في حقه -صلى الله عليه وسلم- وإن كان خلاف الأصل والظاهر فهو معدوم في حقهم، ولو وجب عليهم على الفور لبيَّنه لهم -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، والعُذر بصد المشركين قد زال بالفتح في سنة ثمان، وما قيل: من أنَّ التأخير كان لئلا يرى منكرًا من حج المشركين وطواف المرأة، فذلك دليل على الجواز؛ إذ لو لم يجز التأخير لما كان هذا عذرًا في إسقاط واجبٍ تعيَّن، ثم ينتقض بمن تخلف من الصحابة، وليسوا بأفضل ممن بعثه، قال الشافعي: نزلت فريضة الحج على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة، وافتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة في شهر رمضان، وانصرف عنها في شوال، واستخلف عليها عتاب بن أسيد، فأقام الحج للمسلمين بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة قادر على أن يحج وأزواجه وعامة أصحابه، ثم بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر، فأقام الحج للناس سنة تسع، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قادر على الحج ولم يحج هو ولا أزواجه ولا عامة أصحابه، حتى حج سنة عشر، فاستدللنا على أن الحج مرة في العمر، أوله البلوغ، وآخره أن يأتي بها قبل موته.
وقال أبو يوسف ومالك وأحمد: يجب على الفور. القرى لقاصد أم القرى (ص:63-64).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور، ولم يجز له تأخيره، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي: يجب الحج وجوبًا موسعًا، وله تأخيره؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمَّر أبا بكر على الحج، وتخلَّف بالمدينة، لا محاربًا ولا مشغولًا بشيء، وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج؛ ولأنه إذا أخَّره ثم فعله في السَّنة الأخرى لم يكن قاضيًا له، دل على أن وجوبه على التراخي، ولنا قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} آل عمران: 97، وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} البقرة: 196، والأمر على الفور، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أراد الحج فليتعجَّل» رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، وفي رواية أحمد وابن ماجه: «فإنه قد يمرض المريض، وتضلُّ الضالة، وتعرض الحاجة» قال أحمد: ورواه الثوري ووكيع، عن أبي إسرائيل، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أخيه الفضل، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من ملك زادًا وراحلة تُبَلِّغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا» قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه مرضٌ حابس، أو سلطان جائر، أو حاجة ظاهرة، فليمُت على أي حال شاء، يهوديًّا أو نصرانيًّا» وعن عمر نحوه من قوله، وكذلك عن ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم-؛ ولأنه أحد أركان الإسلام، فكان واجبًا على الفور كالصيام؛ ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات؛ لأنه يؤخر إلى غير غاية، ولا يأثم بالموت قبل فعله؛ لكونه فَعَل ما يجوز له فعله، وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله، فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنما فتح مكة سنة ثمان، وإنما أخره سنة تسع، فيحتمل أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة، أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت، فأخَّر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي: «أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان»، ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى؛ لتكون حجته حجَّة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، ويصادف وقفته الجمعة، ويكمل الله دينه. المغني (5/ 36، 37).
وقال النووي -رحمه الله-:
مذهبنا أنه على التراخي، وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن، ونقله الماوردي عن ابن عباس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاوس -رضي الله تعالى عنهم-.
وقال مالك، وأبو يوسف: هو على الفور، وهو قول المزني، وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نصّ لأبي حنيفة في ذلك...ثم ذكر أدلة كل فريق وناقشها. المجموع، شرح المهذب(7/103)
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ومن الدليل على جواز تأخير الحج: إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخّره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج بعد أعوام من حين استطاعته، فقد أدى الحج الواجب عليه في وقته.
وليس عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه، ولا كمن أفسد حجَّه فلزمه قضاؤه.
فلما أجمعوا أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاضٍ لما كان وجب عليك، ولم تأتِ بالحج في وقته؛ علمنا أن وقت الحج موسَّع فيه، وأنه على التأخير والتراخي، لا على الفور. التمهيد (10/212)
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- بعد أن ساق كلام النووي وغيره، قال:
تبيّن مما ذُكر مِن الأدلّة أن الأرجح قول من قال: إن وجوب الحجّ على التراخي. واللَّه تعالى أعلم (10/٢١٣).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
والحج واجب على الفور عند أكثر العلماء. الفتاوى الكبرى (5/ 381).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وقد دلّ على الفور عند الاستطاعة الأحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادًا وراحلة، ولم يحج، وإنْ كان فيها مقال، فمجموع طُرقها منتهض. السيل الجرار (ص: 304).
قوله: «فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتَعْرِضُ الحاجة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فانه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة» هذا من قبيل المجاز باعتبار الأول؛ إذ المريض لا يمرض، بل الصحيح، والقصد الحث على الاهتمام بتعجيل الحج قبل الموانع. التيسير (2/ 393).
وقال السندي -رحمه الله-:
ومعنى: «يمرض المريض» أي: من قُدِّر له المرض يمرض، فيمنعه ذلك عن الحج. كفاية الحاجة (2/ 207).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنه قد يمرض المريض» مجاز، سَمَّى الْمُشَارف على المرض مريضًا؛ لأن كل صحيح فهو مُشارف على المرض، ومثله قوله: «وتضل الضالة» فسمى ما هو معرَّض للضلال والذهاب ضالة، «وتعرض الحاجة» فتمنع هذه الأشياء عن الأداء للحج، فتفوته الفرصة، ويكون غُصَّة، وهكذا كل طاعة يخاف أن يمنع شيئًا لأدائها لا ينبغي تأخيرها، فإنها قد لا تُدرك أبدًا، وقد أشار القرآن إلى هذا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} البقرة: 148، وقد يكون التأخير سببًا للعقوبة، بأن لا يوفَّق لأداء ما تيسر له من فعل الخير، وما دعي له منه، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الأنعام : 110، وكما قال: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} التوبة : 83. التنوير (10/ 74).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة» أي: التي تمنعه عن أداء النسك، ومعنى «يمرض المريض» أي: من قُدِّر له المرض يمرض، فيمنعه ذلك عن الحج. مرعاة المفاتيح (8/ 382).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
والفاء في قوله: «فإنه» علة للتعجيل، أي: وإنما أمر بالتعجيل لأنه «قد يمرض المريض» من باب ضرب، أي: قد يأخذه المرض في السَّنة الثانية، فيعجز عن أدائه بسبب المرض. والواو في قوله: «وتضل الضالة، وتعرض الحاجة» بمعنى (أو) في كل من الموضعين، وعَرَضَ من باب ضرب، وإنما أمر بالتعجل في أول سِنِيِّ الإمكان؛ لأنه قد يمرض في السنة الثانية، فيمنعه المرض من أداء الحج، أو «تضل الضالة»، أي: والراحلة التي يحج عليها، فيفوته الحج، أو تعرض له الحاجة، أي: أو تعرض وتأتي له الحاجة والضرورة التي تمنعه من الحج؛ كغصب ماله أو سرقته، أو منع الدولة من سفر الحج، أو كون الطريق مخوفًا من القطاع، أو غير ذلك. مرشد ذوي الحجا والحاجة (17/ 17 ، 18).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
القصد (من الحديث) الحث على الاهتمام بتعجيل الحج قبل العوارض والموانع.
وفيه دليل على أنَّ الحج واجب على الفور. مرعاة المفاتيح (8/ 383).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
في هذا دليل على أن الحج واجب على الفور، ويأثم المستطيع إذا أخره، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف وأحمد وبعض الشافعية، ويدل لهم أيضًا ما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعًا: «تعجلوا إلى الحج». المنهل العذب المورود (10/ 272).