قلتُ: يا رسول الله، ما النَّجاة ؟ قال: «أَمْلِكْ عليك لسانك، ولْيَسَعْكَ بيتُك، وابْكِ على خطيئتك».
رواه أحمد برقم: (22235)، والترمذي برقم: (2406)، من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1392)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (890).
غريب الحديث
«أَمْلِكْ»:
المـَلْك، والمِلْك: احتواء الشيء، والقدرة على الاستبداد به، مَلَكه يملِكه مَلْكًا، ومِلْكًا، ومُلْكًا. المحكم والمحيط الأعظم (7/54).
وقال المُظْهِري -رحمه الله-:
الإملاك: الشَّد والإحكام؛ يعني: اشدد لسانك. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 362).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
امْلِك بكسر الهمزة: أمر من مَلَك يملك؛ أي: احفظ عليك لسانك. شرح مصابيح السنة (5/247).
«ولْيَسَعْكَ»:
السَّعةُ: أَصلها وُسْعة فَحُذِفَتِ الْوَاوُ وَنُقِصَتْ. وَيُقَالُ: لِيَسَعْكَ بيتُك، مَعْنَاهُ القَرارُ. لسان العرب لابن منظور (8/ 393).
وقال الصديقي -رحمه الله-:
وليسعك بيتك أي: الزمه مشتغلًا بالله ومؤانسًا به خاليًا عن الأغيار. مجمع بحار الأنوار (5/ 655).
«خطيئتك»:
يُقال: أخطأ الرجل خطأً: إذا لم يُصِبْ الصواب، أو جرى منه الذَّنب وهو غير عامد، وخَطِئَ خَطِيئة إذا تعمد الذنب، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} النساء: 112. غريب الحديث، للخطابي (13/116).
وقال الراغب -رحمه الله-:
والخطيئة والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة أكثر ما تُقال فيما لا يكون مقصودًا إليه في نفسه، بل يكون القصد سببًا لِتَوَلُّدِ ذلك الفعل منه، كمن يرمي صيدًا فأصاب إنسانًا، أو شرب مُسكرًا فجنى جناية في سُكره. المفردات (ص: 151).
شرح الحديث
قوله: «قال: قلتُ: يا رسول الله: ما النجاة؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ما النجاة؟» أي: ما نجاة هذا الأمر حتى نتعلَّق به؟ أو ما الخلاص عن الآفات حتى أحترس به؟ مرقاة المفاتيح (7/3039).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «ما النجاة؟» أي: عن المعاصي. حاشية السندي على مسند أحمد (5/261).
قال الكنكوهي -رحمه الله-:
قوله: «ما النجاة؟» لَمَّا عَلِمَ من حال السائل إيمانه وإتيانه بالأركان لم يتعرَّض لذلك، وبيَّن أنَّ الكف عن المعاصي ملاك الأمر وجُلُّ القضية، ولما كانت المعاصي أكثرها باللسان خصَّصها بالذِّكر أولًا، ثم بيَّن أن مخالطة الناس تدعو إلى ارتكاب ما ينافي النجاة فمنعه، ثم عقَّب كل ذلك بالاستغفار؛ ليمحي ما بدر من الخطايا والسيئات. الكوكب الدري على جامع الترمذي (3/ 270).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «ما النجاة؟» أي: ما سببها المحصِّل لها؟ دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 346).
قوله: «أَمْلِكْ عليك لسانك»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«امْلِك» بكسر الهمزة: أَمرٌ مِنْ مَلَكَ يملك؛ أي: احفظ عليك لسانك؛ أي: ولا تتكلم إلا بما يكون لك لا عليك. شرح مصابيح السنة (5/247).
قال المظهري -رحمه الله-:
«أَمْلِكْ عليك لسانك» يعني: احفظ لسانك عما ليس فيه خير. المفاتيح (5/ 182).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«أَملك عليك لسانك» أي: لا تُجْرِه إلا بما يكون لك لا عليك، وعن بعضهم: أي: اجعل لسانك مملوكًا لك فيما عليك وَبَالُه وتبعته، وأَمْسِكْهُ عما يضرك، وأطلقه عما ينفعك. انتهى كلامه.
وهذا الجواب من باب أسلوب الحكيم، سأل عن حقيقة النجاة، فأجاب عن سببها؛ لأنه أهم بحاله وأولى، وكان من الظاهر أن يقول: حفظ اللسان، فأخرجه على سبيل الأمر الذي يقتضي الوجوب؛ مزيدًا للتقرير والاهتمام. الكاشف عن حقائق السنن (10/3123- 3124).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- متعقبًا الطيبي:
وما فيه من التكلف لا يخفى، بل من التعسف في حق الصحابي؛ فإنه جعل العدول عن معرفته حقيقة النجاة بالنسبة إليه أولى، فالصواب أن تقدير السؤال: ما سبب النجاة؟ بقرينة الجواب، وقد أشرنا فيما تقدم إلى تقدير آخر، والله أعلم. مرقاة المفاتيح (7/3039)
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أَمْلِكْ عليك لسانك» أي: احفظه وصُنْهُ؛ لعِظَم خَطَره، وكثرة ضرره. قال ذو النون -رضي الله عنه-: "أَصْوَنُ الناس لنفسه أملكهم للسانه". وقال ابن مسعود أو عمر "ما على الأرض أحوج إلى طول سجن من اللسان"... قال بعض الحكماء: "لا شيء أحق بالسجن من اللسان، وقد جعله خلف الشفتين والأسنان، ومع ذلك يكثر القول، ويفتح الأبواب". فيض القدير (2/197).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أَمْلِكْ عليك» يا من سألت مِنّا النجاة «لسانك»، بأنْ لا تحركه في معصية، بل ولا في فيما لا يعنيك؛ فإنَّ أعظم ما تُطلب استقامته بهذا القلب اللسان، فإنه الترجمان، وقد سبق أنَّ اللسان فاكهة الإنسان، وإذا تعود اللسان صعب عليه الصبر عنها، فبَعُد عليه النجاة منها؛ ولهذا تجد الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتورع عن استناده إلى وسادة حرير، أو قعوده عليه في نحو وليمة لحظة واحدة، ولسانه يفري في الأعراض غيبة ونميمة وتنقيصًا وإزراءًا، ويرمي الأفاضل بالجهل، ويتفكه بأعراضهم، ويقول على ما لا يعلم، وكثيرًا ممن نجده يتورع عن دقائق الحرام كقطرة خمر، ورأس إبرة من نجاسة، ولا يبالي بمعاشرة الْمُرد، والخلوة بهم، وما هنالك، وما هو إلا كأهل العراق السائلين ابن عمر عن دم البعوض، وقد قتلوا الحسين -رضي الله تعالى عنه-. فيض القدير (2/ 196).
قوله: «وليَسَعْكَ بيتك»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«وليسعك بيتك» إشارة إلى العزلة، وطلب السلامة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 253).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
«وليسعك» أمر مِن وَسعَ يَسَعُ، كناية عن القعود في بيته اشتغالًا بالطاعة. لمعات التنقيح (8/157).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«وليسعك بيتك» يعني: اسكن في بيتك، ولا تخرج منه إلا إلى أمر ضروري، ولا تجالس الناس؛ فإن في مجالسة أكثر الناس ضررًا. المفاتيح في شرح المصابيح (5/182).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «وليسعك بيتك» الأمر في الظاهر وارد على البيت، وفي الحقيقة على المخاطَب، أي: تعرَّض لما هو سبب للزوم البيت، من الاشتغال بالله، والمؤانسة بطاعته، والخلوة عن الأغيار. الكاشف عن حقائق السنن (10/3123- 3124).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وليسعك بيتك» الأمر للبيت، وفي الحقيقة لصاحبه: أي اشتغل بما هو سبب لزومه، وهو طاعة الله تعالى والاعتزال عن الأغيار. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 346).
وقال ابن الملك-رحمه الله-:
«وليسعك بيتك» أي: اسكن في بيتك، ولا تخرج منه إلا للضرورة، ولا تضجر من الجلوس في مسكنك، والاشتغال بشأنك، ودع ما لا يعنيك، ومخالطةَ من يشغلك عن دينك. شرح مصابيح السنة (5/247).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وليسعك بيتك» سيَّما في زمن الفتن. فيض القدير (2/ 197).
وقال النووي -رحمه الله-:
مذهب الشافعي، وأكثر العلماء: أنَّ الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن.
ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل.
وأجاب الجمهور عن هذا الحديث (حديث الاعتزال في شِعب من الشعاب) بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص.
وقد كانت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط، كشهود الجمعة والجماعة والجنائز، وعيادة المرضى، وحِلَق الذكر، وغير ذلك. شرح النووي على مسلم (13/ 34).
وقال ابن الحاج المالكي -رحمه الله-:
حُكي عن بعضهم لما انعزل في خلوته عن الناس، وانفرد بنفسه أنه قال: "وجدت لساني كلبًا عقورًا، قلَّ أن يسلم منه مَن خالطه، فحبست نفسي ليَسْلَمَ الناس من شره وآفته". المدخل (2/95).
قوله: «وابْكِ على خطيئتك»:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
عن مالك بن دينار قال: "البكاء على الخطيئة يحطُّ الخطايا كما تحطُّ الريح الورق اليابس". ذم الهوى (ص: 216).
وقال ابن المَلَك -رحمه الله-:
«وابْكِ على خطيئتك» أمر من الندم والتوبة.
وهذا أسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن النجاة، فأجاب -صلى الله عليه وسلم- بسببها. شرح مصابيح السنة (5/247).
وقال القاري -رحمه الله-:
«وابْكِ على خطيئتك» أي: ابْكِ إن تقدر، وإلا فتَبَاكَ نادمًا على معصيتك فيما سبق من أيام حياتك. مرقاة المفاتيح (7/3039).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«على خطيئتك» أي: ذنوبك، ضمَّن «بكى» معنى الندامة، وعدَّاه بـ«على» أي: اندم على خطيئتك باكيًا؛ فإنَّ جميع أعضائك تشهد عليك في عرصات القيامة، بلسان طلق ذلق تفضحك به على ملأ من الخلق {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النور: 24. فيض القدير (2/ 197).