الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

كنَّا وقوفًا عند النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعرفَة فقال: «يا أيُّها الناسُ، إنَّ على كلِّ أهلِ بيتٍ في كلِّ عامٍ ‌أُضحَيةً ‌وعَتِيرةً»، أتدرونَ ما العَتِيرةُ؟ هي التي يسمّيها الناسُ الرَّجَبِيِّةُ.


رواه أحمد برقم: (20731)، وأبو داود برقم: (2788)، والترمذي برقم: (1518)، والنسائي برقم: (4235)، وابن ماجه برقم: (3125) ، من حديث مِخْنَف بن سُلَيْم -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (4866)، مشكاة المصابيح برقم: (1478)، صحيح سنن أبي داود برقم: (2487).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«العَتِيرةُ»:
وهي شاةٌ كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم. الصحاح، للجوهري (ص: 3246).
وقال أبو عبيد -رحمه الله-:
وأما ‌العتيرة فإنها الرجبيَّة؛ وهي ذبيحة كانت تُذبح في رجب يَتقرب بها أهل الجاهلية، ثم جاء الإسلام فكان على ذلك حتى نُسخ بَعْدُ. غريب الحديث (1/ 195).

«الرَّجَبية»:
كانوا يذبحون في شهر رجب ذبيحةً وينسبونها إليه. النهاية، لابن الأثير (2/ 197).


شرح الحديث


قوله: «كنَّا وقوفًا عندَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعَرَفَةَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«كنا» معاشر الصحابة «وقوفًا» جمع واقف؛ وهو جمعٌ جاء على وزن المصدر؛ كقعود وجلوس، وهو خبر كان، و«عند» في قوله: «عند النبي -صلى الله عليه وسلم-» بمعنى: مع؛ أي: كنا واقفين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- «بعرفة» أي: في عرفة في حجة الوداع. مرشد ذوي الحجا والحاجة (18/ 317).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كنا وقوفًا» أي: واقفين، أو ذوي وقوف «مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفة» يعني: في حجة الوداع. مرقاة المفاتيح (3/ 1090).

قوله: «يا أيُّها الناسُ، إنَّ على كلِّ أهل بيتٍ في كلِّ عامٍ ‌أُضحيةً ‌وعَتِيرةً»:
قال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال» لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس، إن على ‌كل ‌أهل بيت» واحد وأسرته «في ‌كل ‌عام أضحية وعتيرة». مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (18/ 317).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«يا أيها الناس، إن على أَهْلِ كُلِّ بيت» هكذا في المجتبائية والمصرية والكانفورية بتقديم لفظ «أهل» على لفظ «كل»، وأما في نسخة العون ففيها: «على كل أهل بيت»، وهكذا في القادرية، وكذا في رواية أحمد في مسنده: «في كل عام أضحية وعتيرة». بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 528).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يا أيها الناس، إن على ‌كل ‌أهل بيت» أي: واجب عليهم «في ‌كل ‌عام» أي: سَنة «أضحية وعتيرة». مرقاة المفاتيح (3/ 1090).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «على ‌كل ‌أهل بيت في ‌كل ‌عام أضحية وعتيرة» الأضحية واجبة عند أبي حنيفة على مَن ملك نصابًا من المال المزكّى؛ بدليل هذا الحديث، وأما العتيرة فلا تجوز عنده كالشافعي وغيره. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 357).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إن على ‌كل ‌أهل بيت» مقتضاه أن الأضحية الواحدة تكفي عن تمام أهل البيت، ويوافقه ما رواه الترمذي عن أبي أيوب: "كان الرَّجُل يضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويُطْعِمُون حتى تباهى الناس فصارت كما ترى"، وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: لا تجزئ الشاة الواحدة إلا عن نفس واحدة، وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم. حاشية على سنن ابن ماجه (2/ 272).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
واشتراك أهل البيت في ذلك (أي: الأضحية) رخصة ورِفْق؛ فأما اشتراك الأجانب فلا يكون في إقامة السنن وإنما يكون في النوافل، وقد روى مسلم عن جابر: «نَحَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نسائه وذبح»، وإنما فعل ذلك إما بأن أَدْخَلَهم في أهل البيت وهم منه، وإما بأنه كان في التطوُّع لا في الفرائض والسنن، وإنما يكون الذبح عن الموجود لا عن المعدوم، والحمل في حيِّز العدم حتى يثبت وجوده بالولادة، إلا أنه إنْ وُلِدَ في اليوم الثالث شُرعت له الأضحية؛ لأنه زمانها، فأما إذا كان في البطن فلا يذكر في أهل البيت ولا يُفرد بضحية عنهم. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 646).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «إن على كل بيت» هذا الدليل على الإيجاب بالذي تدل عليه «على»، والجمهور على أنها سُنة في حق الموسر لا يأثم بتركها بلا عذر ولا قضاء عليه، وبه قال جماعة من الصحابة.
وقال أبو حنيفة والليث والأوزاعي: واجبة على الموسر، وقد بسطنا الأقوال والأدلة في سبل السلام واخترنا أنها سنة.
بل وقد أخرج الترمذي: أن رجلًا سأل ابن عمر عن الأضحية: أواجبة هي؟ قال: «ضحَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون»، فأعادها عليه فقال: أَتَعْقِل؟! «ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، ولكنها سُنة من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يعمل بها، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك. انتهى كلامه. التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/ 402- 403).
وقال السرخسي -رحمه الله-:
وهي (أي: الأضحية) واجبة على المياسير والمقيمين عندنا (الأحناف)...، وحُجَّتنا في ذلك: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِكَ وَانْحَرْ} الكوثر: 2، أي: وانحر الأضحية، والأمر يقتضي الوجوب، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ وجد سَعَةً ولم يضحِّ فلا يقربنَّ مصلانا»، وإلحاق الوعيد لا يكون إلا بترك الواجب، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «مَن ضحَّى قبل الصَّلاة فلْيُعِدْ، ومن لم يُضحِّ فليذبح على اسم الله تعالى»، والأمر يفيد الوجوب، وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ضحُّوا» أمر، وقوله: «فإنها سُنَّة أبيكم إبراهيم» أي: طريقته، فالسُّنَّة الطَّريقة في الدِّين؛ وذلك لا ينفي الوجوب، ولا حُجَّة في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ولم تُكْتُبْ عليكم»، فإنَّا نقول بأنها غير مكتوبة، بل هي واجبة، فالمكتوب ما يكون فرضًا يكْفُرُ جاحده، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخصوصًا بكون الأضحية مكتوبة عليه، كما قال، وتأويل حديث أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أنهما لا يضحِّيان في حال الإعسار؛ مخافة أن يراها الناس واجبة على المعسرين، أو في حال السَّفر. المبسوط (12/ 8-9).
وقال النووي -رحمه الله-:
واختلف العلماء في وجوب الأضحية على الموسر، فقال ‌جمهورهم: ‌هي ‌سُنَّة ‌في ‌حقِّه، إنْ تَرَكَها بلا عذر لم يأثم، ولم يلزمه القضاء، وممن قال بهذا: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود البدري وسعيد بن المسيب، وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني، وابن المنذر وداود، وغيرهم.
وقال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والليث: هي واجبة على الموسر، وبه قال بعض المالكية، وقال النخعي: واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى، وقال محمد بن الحسن: واجبة على المقيم بالأمصار، والمشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يُوجِبها على مُقيم يملك نصابًا، والله أعلم. شرح مسلم (13/ 110).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
والأضحية سُنة، لا يُستحب تركها لمن يقدر عليها، أكثر أهل العلم يرون الأضحية سُنة مؤكدة غير واجبة، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وبلال وأبي مسعود البدري -رضي الله عنهم-، وبه قال سويد بن غفلة، وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال ربيعة ومالك والثوري والأوزاعي والليث وأبو حنيفة: هي واجبة. المغني (13/ 360).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
الحق ما قاله الأَقَلُّون من كونها واجبة، ولكن هذا الوجوب مقيد بالسَّعة، فمن لا سَعة له، لا أضحية عليه. السيل الجرار (ص: 715).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وأما الأضحية فالأظهر وجوبها أيضًا؛ فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النُّسك العام في جميع الأمصار، والنُّسك مقرون بالصلاة في قوله: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام: 162، وقد قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الكوثر: 2، فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة. مجموع الفتاوى (23/ 162).

قوله: «أتدرون ما العَتِيرةُ؟ هي التي يسمّيها الناسُ الرَّجبِيِّةُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن عنده: «أتدرون» أي: هل تعلمون أيها الناس جواب سؤالي «ما العتيرة» -بفتح المهملة وكسر الفوقية وسكون التحتية بعدها راء- وهي ذبيحة كانوا يذبحونها في العَشر الأُوَل من رجب؛ كما قال في بيانها: «هي» أي: العتيرة: الشاة «التي يسميها الناس الرجبية» أي: الذبيحة المنسوبة إلى رجب؛ لوقوعها فيه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (18/ 318).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قلتُ: العتيرة تفسيرها في الحديث: أنها شاة تُذبح في رجب، وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث ويليق بحكم التَّدَيُّن، فأما العتيرة التي كان يَعْترها أهل الجاهلية فهي الذبيحة تُذبح للصنم، فيُصَبُّ دمُها على رأسه، والعَتَر بمعنى الذبح، ومنه قول الحارث بن حلزة:
عَنَنًا باطِلًا وَظُلمًا كَما تُعـ *** تَرُ عَن ‌حَجرَةِ ‌الرَبيضِ ‌الظَباءُ
أي: تُذبح. معالم السنن (2/ 226).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
والعتيرة هي الذبيحة التي تُذبح في أوائل رجب، وكان هذا في الجاهلية وكان في صدر الإسلام، ثم جاء ما يدل على منعه وعلى النهي عنه، وجاء في الحديث: «لا فَرَعَ ولا عتيرة»، والعتيرة فعيلة بمعنى مفعولة أي: معتورة، والمعنى: مذبوحة في رجب، ويقال لها: الرجبية، فالذين قالوا بالوجوب استدلوا بهذا الحديث، والحديث في إسناده من هو مجهول، فيكون ضعف الحديث بسببه.
ومن العلماء مَن قال: إن العتيرة باقية ولكنها على الاستحباب، ولم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه كان يفعلها إلا ما جاء عن سعيد بن جبير أو سعيد بن المسيب خاصة، وإلا فإن أهل العلم لا يقولون بها، والمشهور عن أهل العلم أنهم لا يقولون بها -أي العتيرة-، وأنها إما ثابتة ولكنها منسوخة، أو أن الأحاديث الواردة فيها غير ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحديث الذي معنا فيه شخص متكلَّم فيه، والألباني قد حسَّن هذا الحديث، وفيه هذا الشخص الذي لا يعرف. شرح سنن أبي داود (329/ 3).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
«والعَتِيْرَةُ» منسوخة بالأضحى عند الجميع، وهو ذبحٌ كانوا يذبحونه في رجب في الجاهلية، وكان في أول الإسلام ثم نُسِخ. الاستذكار (5/ 242).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أتدرون ما العتيرة؟ هي هذه التي يقول عنها الناس: الرجبية» بفتح الجيم، وكانوا يذبحونها في العَشر الأُوَل من رجب.
وقوله -عليه السلام- في العتيرة: «اذبحوا لله في أي شهر كان» أي: اذبحوا إن شئتُم واجعلوا الذبح لله في أي شهر كان، لا أنها في رجب بعينه.
وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمرو قال: أتيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات -أو قال: بمنى- وسأله رجل عن العتيرة قال: «مَن شاء عَتَرَ، ومَن شاء لم يَعْتِرْ»، وكانت الجاهلية إذا عَتَرَت تَذبح للأصنام وتَصب دمها على رأسها. شرح سنن أبي داود (12/ 132).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
العتيرة تفسيرها في الحديث: «أنها شاة تذبح في رجب» وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث، ويليق بحكم التدين، فأما ‌العتيرة التي كان يعترها أهل الجاهلية فهي الذبيحة تذبح للصنم، فيصب دمها على رأسه، والعتر بمعنى الذبح، ومنه قول الحارث بن حلزة:
عنتًا باطلًا وظلمًا كما *** تعتر عن حجرة الربيض الظباءُ.
أي: تذبح. معالم السنن (2/ 226).
وقال الخطابي -رحمه الله- أيضًا:
العتيرة النسيكة التي تعتر أي: تذبح، وكانوا يذبحونها في شهر رجب، ويسمونها الرجبية...، ثم نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك...، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا فرع ولا عتيرة». معالم السنن (4/ 284).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
كان ابن سيرين من بين سائر العلماء يذبح العتيرة في رجب، وكان يروي فيها شيئًا لا يصح، وأظنه حديث ابن عون، عن أبي رملة، عن مخنف بن سليم، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «على كل أهل بيت أضحية وعتيرة» ولا حجة فيه؛ لضعفه، ولو صح لكان حديث أبي هريرة ناسخًا له، والعلماء مجمعون على القول بحديث أبي هريرة. شرح صحيح البخاري (5/ 378).
قال البغوي -رحمه الله-:
الاتفاق على أن العتيرة غير واجبة...، وذهب الأكثرون إلى أنها منسوخة في رجب...، وسُئل القاسم بن محمد عن العتيرة؟ قال: ما حاجتك إلى ذبائح الجاهلية، وسُئل عطاء بن يسار عن العتيرة، فكرهها، وقال الحسن: ليس في الإسلام عتيرة، إنما كان ذلك في الجاهلية، كان أحدهم إذا صام رجبًا ذبح عتيرة. شرح السنة (4/ 350- 353).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وكان ابن سيرين من بين سائر العلماء ‌يذبح ‌العتيرة في رجب، وكان يروى فيها شيئًا لا يصح، وأظنه حديث ابن عون، عن أبي رملة، عن مخنف بن سليم، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «على كل أهل بيت أضحية وعتيرة» ولا حجة فيه؛ لضعفه، ولو صح لكان حديث أبي هريرة ناسخًا له (وهو قوله: لا فَرَع ولا عتيرة) والعلماء مجمعون على القول بحديث أبي هريرة. شرح صحيح البخاري (5/ 378).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
وهذا الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- «على كل أهل بيت أَضْحَاة وعتيرة» في بدء الإسلام تقرير لما كان في الجاهلية، وهو يقتضي ثبوتها بغير نذر، ثم نُسخ ذلك بعد؛ ولأن ‌العتيرة لو كانت هي المنذورة لم تكن منسوخة، فإن الإنسان لو نذر ذبح شاة في أي وقت كان لزمه الوفاء بنذره، والله أعلم، وروي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفَرَعة، من كل خمسين واحدة»، قال ابن المنذر: هذا حديث ثابت، ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا فَرَع، ولا عتيرة» متفق عليه، وهذا الحديث متأخر عن الأمر بها، فيكون ناسخًا، ودليل تأخره أمران: أحدهما: أن راويه أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام، فإن إسلامه في سنة فتح خيبر، وهي السنة السابعة من الهجرة، والثاني: أن الفَرَع والعتيرة كان فعلها أمرًا متقدمًا على الإسلام، فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نَسْخِه، واستمرار النسخ من غير رفع له، ولو قدَّرنا تقدم النهي على الأمر بها، لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها، وهذا خلاف الظاهر، إذا ثبت هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة، لا تحريم فعلها، ولا كراهته، فلو ذَبح إنسان ذبيحة في رجب، أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك، أو للصدقة به وإطعامه، لم يكن ذلك مكروهًا، والله تعالى أعلم. المغني (13/ 402- 404).
وقال أبو داود -رحمه الله- بعد إيراد الحديث:
«العتيرة» منسوخة. سنن أبي داود (4/ 416).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -رحمه الله- معلقًا:
وأبو داود -رحمه الله- ذكر بعده أنه منسوخ، ولكن يُشكل عليه إذا كان ثابتًا أن هذا في حجة الوداع في آخر الأمر، وليس هناك بين حجة الوداع وبين وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أشهر قليلة، فهذا يفيد أنه متأخر وليس بمتقدم، فالنسخ غير واضح، اللهم إلا أن يكون الناسخ جاء في الأشهر التي بعد الحج.
والقول بأنها كانت في الجاهلية وجاءت في أول الإسلام ثم نُسخت هو الأقرب؛ لكن كون الحديث يدل على التأخر وأن ذلك كان في حجة الوداع، فالذي يظهر -والله أعلم- أن الحديث غير ثابت من أجل الرَّجل الذي في إسناده وهو غير معروف. شرح سنن أبي داود (329/ 3).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
وهذا (الحديث) إن صح فالمراد به على طريق الاستحباب، فقد جمع بينها وبين العتيرة، والعتيرة غير واجبة بالإجماع. معرفة السنن والآثار (14/ 17).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
والصحيح عند أصحابنا وهو نص الشافعي استحباب الفَرَع (هو أول النِّتاج) والعتيرة، ونصَّ في حرملة على أنها إن تيسرت كل شهر كان حسنًا، قيل: الحديث منسوخ بقوله: «لا فَرَع ولا عتيرة»، وقيل: لا فَرَع واجبًا ولا عتيرة واجبة. شرح سنن أبي داود (12/ 132).
وقال النووي -رحمه الله-:
والصحيح عند أصحابنا وهو نص الشافعي: ‌استحباب ‌الفَرَع (هو أول النِّتاج) والعتيرة، وأجابوا عن حديث: «لا فَرَعَ ولا عتيرة» بثلاثة أوجه:
أحدها: جواب الشافعي السابق أن المراد نفي الوجوب، والثاني: أن المراد نفي ما كانوا يذبحون لأصنامهم، والثالث: أنهما ليسا كالأضحية في الاستحباب أو في ثواب إراقة الدم، فأما تفرقة اللحم على المساكين فبِرّ وصدقة، وقد نص الشافعي في سنن حرملة أنها إن تيسرت كل شهر كان حسنًا. شرح صحيح مسلم (13/ 137).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
روى النسائي وصححه الحاكم من حديث الحارث بن عمرو أنه لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع فقال رجل: يا رسول الله العتائر والفرائع، قال: «مَن شاء عَتَرَ ومَن شاء لم يَعْتِر، ومَن شاء فَرَعَ ومَن شاء لم يُفَرِّع»، وهذا صريح في عدم الوجوب، لكن لا ينفي الاستحباب ولا يثبته، فيؤخذ الاستحباب من حديث آخر، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي العشراء عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن العتيرة فحَسَّنها، وأخرج أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من طريق وكيع بن عديس عن عمه أبي رزين العقيلي قال: قلتُ: يا رسول الله إنا كنا نذبح ذبائح في رجب فنأكل ونُطعم مَن جاءنا، فقال: «لا بأس به» قال وكيع بن عديس: فلا أدعه، وجزم أبو عبيد بأن العتيرة تُستحب، وفي هذا تعقب على مَن قال: إن ابن سيرين تفرد بذلك، ونقل الطحاوي عن ابن عون أنه كان يفعله، ومال ابن المنذر إلى هذا وقال: كانت العرب تفعلهما، وفَعَلَهما بعض أهل الإسلام بالإذن، ثم نهى عنهما، والنهي لا يكون إلا عن شيء كان يُفعل، وما قال أحد: إنه نهى عنهما ثم أذن في فعلهما، ثم نقل عن العلماء تركهما إلا ابن سيرين، وكذا ذكر عياض أن الجمهور على النسخ، وبه جزم الحازمي وما تقدَّم نقله عن الشافعي يردُّ عليهم، وقد أخرج أبو داود والحاكم والبيهقي واللفظ له بسند صحيح عن عائشة: «أَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفَرَعة في كل خمسين واحدة».
قوله: «والعتيرة في رجب» في رواية الحميدي: والعتيرة: الشاة تُذبح عن أهل بيت في رجب، وقال أبو عبيد: العتيرة هي الرجبية ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في رجب يتقربون بها لأصنامهم، وقال غيره: العتيرة الْمُنْذَر، كانوا ينذرونه مَن بلغ ماله كذا أن يذبح مِن كل عشرة منها رأسًا في رجب، وذكر ابن سيده أن العتيرة أن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغ إبلي مائة عَتَرْتُ منها عتيرة، زاد في الصحاح: في رجب، ونقل أبو داود تقييدها بالعشر الأُوَل من رجب، ونقل النووي الاتفاق عليه وفيه نظر. فتح الباري (9/ 597- 598).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
ففي هذا الحديث ما قد عقلنا به أن أمر العتيرة رُدّ إلى الاختيار، ونفي الوجوب وأنه بر، مَن أخذ به فقد أحسن، ومَن كره لم يحرج. شرح مشكل الآثار (3/ 85- 87).

وينظر الرواية الأخرى في معرفة حكم الأضحية
(هنا)


ابلاغ عن خطا