«إنَّ العبدَ إذا سَبَقَتْ له مِن اللَّه -عزَّ وجلَّ- منزِلةٌ لم يَبْلُغْهَا بعملهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ في جسدهِ، أو في مالهِ، أو في ولدهِ ثُمَّ صَبَّرَهُ على ذلك حتى يُبْلِغَهُ المنزلةَ التي سَبَقَتْ له مِن الله تعالى».
رواه أحمد برقم: (22338)، وأبو داود برقم: (3090) واللفظ له، من حديث اللَّجْلَاجِ بن حكيم السُّلَمِي -رضي الله عنه-.
ورواه ابن حبان برقم: (2908)، والحاكم برقم: (1274)، وأبو يعلى برقم: (6095) بلفظ: «إنَّ الرَّجلَ لِتَكُونَ له عندَ اللَّهِ المنزِلَةُ، فما يَبْلُغُهَا بعملٍ، فلا يَزَالُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ بما يَكْرَهُ، حتَّى يُبَلِّغَهُ إيَّاها» من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1625)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2599)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (3409).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مَنْزِلَةٌ»:
أي: مَرْتَبة عالية في الجنة. مرقاة المفاتيح، للقاري (3/ 1143).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ العبدَ إذا سَبَقَتْ له مِن اللَّهِ منزِلَةٌ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إنَّ العبد إذا سَبَقَتْ له» أي: في عِلْمِ الله، أو في قضائه وقدره، «مِن الله منزلةٌ» أي: مرتبة عالية في الجنة. مرقاة المفاتيح (3/ 1143).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«إذا سبَقَت له من الله منزلةٌ» أي: إذا قدَّر الله له منزلة ودرجة في الجنة. شرح المصابيح (2/ 325).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إذا سبقت للعبد من الله منزلة» أي: إذا مَنَحَهُ في الأزل مرتبة متعالية في الآخرة. فيض القدير (1/ 371).
قوله: «لم يبلغها بعملِهِ»:
قال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «لم يبلغها» صفة «مَنْزِلة». لمعات التنقيح (4/ 49).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لم يبلغها» أي: ذلك العبد تلك المنزلة «بعمله» الصالح. شرح المصابيح (2/ 325).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لقُصُورِهِ عن إبلاغه إياها؛ لضعفه وقِلَّته، وسُمُوِّها ورِفْعَتِها. فيض القدير (1/ 371).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
لعجزه عن العمل الموصِل إليها. مرقاة المفاتيح (3/ 1143).
قوله: «ابْتَلَاهُ اللَّه في جسدِهِ»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«ابتلاه الله» أي: يصيبه بلاء. شرح المصابيح (2/ 325).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«في جسده» بالأسقام والآلام. فيض القدير (1/ 371).
قوله: «أو في مالِهِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
لفَقْدٍ أو غيره. فيض القدير (1/ 371).
قوله: «أو في ولَدِهِ»:
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أو» في الموضعين للتنويع، باعتبار الأوقات، أو باختلاف الأشخاص. مرقاة المفاتيح (3/ 1143).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أو في ولده» أو ولد ولده. شرح سنن أبي داود (13/ 273).
قوله: «ثم صَبَّرَهُ على ذلك»:
قال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«صبَّره» بالتشديد، أي: حَمَلَه على الصبر، ورزقه الصبر. لمعات التنقيح (4/ 49).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«صبَّره» بشدِّ الموحَّدة، بضبط المؤلف (يعني: السيوطي) أي: أَلْهَمَه الصبر. فيض القدير (1/ 371).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«صبَّره» بالتشديد، أي: رَزَقَه الصبر «على ذلك»، مُستفادٌ من قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} النحل: 127. مرقاة المفاتيح (3/ 1143).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«على ذلك» أي: ما ابتلاه. فيض القدير (1/ 371).
قوله: «حتَّى يُبْلغهُ المنزِلةَ التي سَبَقَتْ له مِن اللَّه تعالى»:
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«حتى» هنا يجوز أنْ تكون للغاية، وأنْ تكون بمعنى (كي). الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1351).
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«حتى يُبلغه المنزلة» الرفيعة «التي سبقت له من الله -عزَّ وجلَّ-» على تبليغه الله المنازل العالية في الجنة التي سبقت له في عِلم الله تعالى من السعادة. شرح سنن أبي داود (13/ 273).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«التي سبَقَت له من الله -عز وجل-» أي: التي استَوْجَبَها بالقضاء الأزلي، واستحقَّها بالحكم القديم الإلهي.
وبالحقيقة التعويل إنما هو على ذلك السبق، فمَن سبق في علمه أنه سعيد فهو سعيد، وعكسه بعكسه، والخاتمة ناشئة عن السابقة، روى البيهقي والحاكم «أنَّ موسى مرَّ برجُل في مُتعبَّد له، ثم مر به بعد وقد مَزَّقَت السِّبَاع لحمه، فرأْسٌ مُلْقى، وفخذٌ مُلقى، وكَبِدٌ مُلْقى، فقال: يا رب، كان يطيعك فابتليتَه بهذا، فأوحى الله إليه أنه سألني درجة لم يبلغها بعمله، فابتليتُه لأُبَلِّغه تلك الدرجة» انتهى. فيض القدير (1/ 371).
وقال المظهري -رحمه الله-:
إذا قدَّر الله تعالى لعبد منزلةً ودرجة رفيعة، ولم يقدِر ذلك العبد أنْ يبلغ تلك المنزلة بالعمل الصالح، أصابه الله تعالى ببلاء، ورزَقَه صبرًا على ذلك البلاء، حتى يبلغ تلك المنزلة بما حصل له من ثواب ذلك البلاء، وصَبَر عليه. المفاتيح (2/ 409).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
هذا من علامات السعادة: أنْ يشكر عند السراء، وأنْ يصبر عند الضراء، وهو مثل الذي تقدم (يعني: الحديث الذي قبله) في كونه يُبتلَى فيَصْبر، وهناك أحاديث كثيرة في كون الإنسان تُرفع درجتُه بسبب الأمراض والأسقام، وتُكفَّر ذنوبه إذا صبر على ذلك، فيرفعه الله تعالى بذلك درجات، ويحط عنه الخطايا والسيئات. شرح سنن أبي داود (361/ 5).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فيه: إشعار بأنَّ للبلاء خاصيةً في نيل الثواب ليس للطاعة، وإنْ حلَّت مثلها؛ ولذلك كان من نصيب الأنبياء أشد البلاء. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1351).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وبه يُعلم أنَّه قد يكون من ثواب الصبر على البلاء ما لا يبلغه عمل الطاعات، ولعل هذا من جملة الأسباب التي ميَّزت الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل بأشديَّة البلاء على غيرهم. فتح الإله (5/460).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فيه: دليل على أنَّ الطاعات سبب للدرجات، قيل: ودخول الجنة بفضل الله تعالى، وإيمان العبد، والخلود بالنية. مرقاة المفاتيح (3/ 1143).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والمقصد بالحديث: الإعلام بفضل البلاء، وأنه مظنة لرفع درجات العبد، وإن قلَّ عملُه، وإلا فقد يُعطي الله من شاء ما شاء من رفيع المنازل، وإنْ لم يعمل بالكليَّة، بل له تعذيب الطائع، وإثابة العاصي، ولا يُسْأَل عما يَفعل.
وقد استدل بهذا في المفهوم وغيره على أنَّ مجرد حصول المرض أو غيره مما يترتب عليه التكفير لا يكفي إلا إنْ انضم إليه الصبر.
ورُدَّ بأنَّ الأحاديث الواردة بالتقييد إما ضعيفة فلا يُحتج بها، أو مقيَّدة بثواب مخصوص، كما في هذا الحديث، فاعتبار الصبر فيه إنما هو لحصول ذلك الثواب الخاص. فيض القدير (1/ 371).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
فيه: إثبات القَدَر والتقدير، واعتبار العمل والبلوغ إلى الرفعة والمنزلة بالعمل الصالح.
(و) فيه: إجلال أمر الصبر على البلاء، ورفعه على سائر الطاعات.
وفيه: أنَّ الصبر بعون الله وتوفيقه، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} النحل: 127، وهو كَسْبٌ وتقديرٌ. الأزهار مخطوط لوح (192) و(193).