«اللَّهمَّ اجْعَلْ بالمدينةِ ضِعْفَيْ ما جعلْتَ بمكةَ مِن البركة».
رواه البخاري برقم: (1885)، ومسلم برقم: (1369)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ضِعْفَيْ»:
ضِعْفُ الشيء: مِثْلُه، وضِعْفَاه: مِثْلَاه. النهاية، لابن الأثير (3/ 89).
قال الأزهري -رحمه الله-:
الضِّعْفُ في كلام العرب: الْمِثْلُ إلى ما زاد، وليس بمقصور على مِثْلَيْنِ...، فأقلُّ الضِّعْف محصورٌ وهو المِثْل، وأكثره غير محصور. تهذيب اللغة (1/ 304-305).
شرح الحديث
قوله: «اللَّهمَّ اجْعَلْ بالمدينةِ ضِعْفَيْ ما جَعَلْتَ بمكَّةَ مِن البركةِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ضِعْفَيْ»
أي: اللهم اجعل بالمدينة مِثْلَيْ «ما جعلت بمكة من البركة». فيض القدير (2/ 150).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ضِعْفَيْ» أي: مِثْلَيْهِ؛ بناءً على أن ضِعْفَ الشيء مثله، وهو ما عليه أهل اللغة، وأما في العُرْف فضِعْفُ الشيء: مِثْلَاهُ، وضِعْفَاه: ثلاثة أمثاله، وعليه جرى الفقهاء في الإقرار والوصية. منحة الباري (4/ 327).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«البركة» أي: كثرة الخير. الكواكب الدراري (9/ 71).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
البركة: تكون بمعنى: النماء والزيادة، وتكون بمعنى: الثبات واللزوم.
فقيل: يحتمل أنْ تكون هذه البركة دِينيَّة بما تتعلَّق بهذه المقادير من حقوق الله في الزكوات والكفَّارات، فيكون هنا بمعنى: الثبات والبقاء بها، للحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها.
وتكون دنيوية مِن تكثير المكيل والقَدْرِ بهذه الأكيال حتى يجزئ منه ويكفي ما لا يجزئ من غيره في غير المدينة ومكانتها، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها، أو إلى كثرة ما يُكال بها مِن غلَّاتهم وثمارهم، أو يكون للزيادة فيما يكال بها؛ لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه؛ لما فَتَحَ الله عليهم ووسَّع من فضله لهم، وملَّكهم من بلاد الخصب والريف من الشام والعراق ومصر، حتى كثر الحمل إلى المدينة، واتسع عيشهم، وانتقلوا عن ذلك إلى حال آخر، ورغدٍ سائغ، حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه غير ذلك، فانتقلوا عن مقاديرهم في عيشهم المعلوم، من مُدِّ النبي -عليه السلام- إلى المد الهاشمي، فزادوا في مُدِّهم مثل نصفه أو ثلثه، أو مثله على الخلاف في مقداره، في هذا كله ظهور إجابة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم وقبولها. إكمال المعلم (4/ 488).
وقال النووي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
الظاهر من هذا كله: أنَّ البركة في نفس المكيل في المدينة، بحيث يكفي الْمُد فيها لمن لا يكفيه في غيرها، والله أعلم. المنهاج (9/ 142).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لا يلزم أنْ يكون ذلك (أي: البركة) فيها دائمًا، ولا في كل شخص، بل تتحقَّق إجابة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا وجد ذلك في أزمان، أو في غالب أشخاص، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 480).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا الذي قاله القرطبي -رحمه الله- فيه نظر لا يخفى؛ لأن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- للمدينة بهذه البركة إنما هو على وجه العموم لها، فلا ينبغي تقييده بوقت دون وقت، فتفطَّن. البحر المحيط الثجاج (24/ 544).
وقال محمد الأُبي -رحمه الله-:
ومعنى ضِعْف ما بمكة: أنَّ المراد ما أشْبَعَ بغير مكة رجلًا أَشْبَعَ بمكة رجلين، وبالمدينة ثلاثة، وحكى الشيخ (ابن عرفة) عن أبيه -وكان من المجاورين- أنَّه قال: كان يَقُوتُني بالمدينة نصف ما يَقُوتني بمكة، وهذا هو الأظهر من الحديث، أعني: أنَّ البركة إنما هي في الاقتيات ، وذكر ابن العربي أنها باعتبار الثواب. إكمال إكمال المعلم (3/452).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
فهي (يعني: البركة) لا تقتصر على المكاييل، بل تعمُّ الموازين والمقاييس والمعدودات، وغيرها. فتح المنعم (5/ 447).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
هو مُجمل فسَّره الحديث الآخر: «اللهم بارك لنا في صاعنا ومُدِّنا»، فلا يقال: إن مقتضى إطلاق البركة أنْ يكون ثواب صلاة المدينة ضِعْفَيْ ثواب الصلاة بمكة، أو المراد عموم البركة، لكن خُصت الصلاة ونحوها بدليل خارجي. إرشاد الساري (3/ 340).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: مقتضاه: أنْ يكون ثواب صلاة بالمدينة ضِعْفَيْ ثواب الصلاة بمكة.
قلتُ: لفظ البركة مجمل في بركة الدنيا والدِّين، فبيَّنهما بقوله: «اللهم بارك لنا في صاعنا ومُدِّنا» أنَّ المراد البركة الدنيوية، أو خص الصلاة ونحوها بالدليل الخارجي. الكواكب الدراري (9/ 71).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يحتمل: أنْ يريد ما هو أعم من ذلك، لكن يُستثنى من ذلك ما خرج بدليل، كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة. فتح الباري (4/ 98).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
لا شك أن مثل هذه البركة تعود إلى أمور الدنيا وهذا ظاهر، وقد تعود إلى أمور الآخرة، وقد يتيسر للإنسان من التَّعبد في المدينة أكثر مما يتيسر له من التعبد بمكة، والعالِم يتيسر له من التحديث والتأليف والتعليم ما لم يتيسر له بمكة، فالبركة ظاهرة في المدينة. شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (27/ 19).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَيْ ما جعلتَ بمكة من البركة» أي: مِثْلَيْهِ في الأقوات، وهو لا ينافي كون مكة أفضل منها باعتبار مضاعفة الحسنات، فإنَّ الأول ارتفاق حسي دنيوي، والثاني أخروي معنوي. مرقاة المفاتيح (5/ 1885).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
استدل بعض الناس على أنَّ المدينة أفضل من مكة بدعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمدينة بضعف دعائه لمكة.
وقال آخرون ممن يرى أنَّ مكة أفضل من المدينة: لو كان تضعيف الدعاء للمدينة دليلًا على فضلها على مكة، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد كرَّر الدعاء للشام واليمن مرات، وهذا لا يقوله مسلم، روى ابن عمر أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالها ثلاثًا».
وهذا اعتراض غير لازم؛ لأن الأمَّة مُجْمِعَة أن مكة أفضل من الشام واليمن وجميع الأرض غير المدينة، فلما تقرر هذا لم يكن تكرير الدعاء للشام واليمن موجبًا لفضلهما على مكة؛ لأنه لم يقصد بالدعاء لهما التفضيل على مكة، وإنَّما قصد التفضيل لهما على نجد، وإنما كان يصح هذا الاعتراض لو قرن بالدعاء للشام واليمن ثلاث مرات الدعاء لمكة أقل من ذلك، وإنما في حديث ابن عمر الشام واليمن أفضل من نجد خاصة؛ لتكريره الدعاء للشام واليمن دون نجد، فكذلك تكريره الدعاء للمدينة دون مكة، فوجب فضلها على مكة، والله أعلم. شرح صحيح البخاري (4/ 554-555).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قال القاضي أبو محمد (ابن نصر المالكي): في هذا دليل على فضل المدينة على مكة، قال: لأن تضعيف الدعاء لها إنما هو لفضلها على ما قُصِرَ عنها، (قلتُ): والذي عندي أنَّ وجه الدليل من ذلك: أنَّ إبراهيم -عليه السلام- دعا لأهل مكة بما يختص بدنياهم، فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} البقرة: 126، وقال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} إبراهيم: 37، وأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهل المدينة بمثل ذلك ومثله معه، فيحتمل أن يريد به وبدعاء آخر معه، وهو لأمر آخرتهم، فتكون الحسنات تُضاعف للمدينة بمثل ما تضاعف بمكة، وإنما معنى فضيلة إحدى البقعتين على الأخرى في تضعيف الحسنات، وغفران السيئات.
ويحتمل أنْ يُريد: أنَّ إبراهيم أيضًا دعا لأهل مكة بأمر آخرتهم، وعلم هو -صلى الله عليه وسلم- بمثل ذلك وبمثله معه، فيعود إلى مثل ما قدمنا ذكره، ويحتمل أنْ يُريد أنَّ إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهل مكة في ثمراتهم ببركة قد أجاب الله دعاءه فيه، وأنه -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهل المدينة في ثمراتهم أيضًا بمثل ذلك ومثله معه، فلا يكون هذا دليلًا على فضل المدينة على مكة في أمر الآخرة، وإنَّما يدل ذلك على أنَّ البركة في ثمارهم، مثل البركة في ثمار مكة، إما لقُرْبِ تناولها، أو لكثرتها، أو لفضلها، أو للبركة في الاقتيات بها، أو ليوصل مَن يقتات بها من المدينة إلى مِثْلَي ما يتوصل به من يقتات في مكة بثمارها، والله أعلم. المنتقى شرح الموطأ (7/ 188).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قال ابن المنير-رحمه الله-:
ومن أعظم فضائل المدينة عندي: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ بالله مِن الحَوْرِ بعد الكَوْرِ -أي: من النقصان بعد الزيادة-، فلو كانت مكة أفضل من المدينة، والمدينة آخر المسْكَنَين للزم النقصان بعد الزيادة، والأمر على الضد، إنما كان -عليه السلام- يزيد فضله عند الله ولا ينقص، فدل على أنَّ المدينة أزيد فضلًا. مصابيح الجامع (4/ 304-305).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: الاستدلال به على تفضيل المدينة على مكة ظاهر؟
قلتُ: نعم ظاهر من هذه الجهة، ولكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية على الإطلاق. عمدة القاري (10/ 247).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
قلتُ: الحق أنَّ هذا الحديث واضح في تفضيل المدينة على مكة، إلا إذا قال المعارِض: إنَّ دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تُستجب؛ لأنها إذا كانت مستجابة كان معلومًا بالبديهة أنَّ البركة شاملة لأمور الدِّين والدنيا، فالبركة لغة: النماء والزيادة والسعادة، وقد قال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} هود: 73، فلا يمكن أنْ يُقال: إنَّ البركة خاصة بالْمُدِّ والأقوات، فأول ما تدخل فيه بركة المدينة النماء في عبادتها، وزيادة ثوابها على غيرها، وسعادة أهلها بها، وبهذا يحصل فضل المدينة على مكة، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم. كوثر المعاني الدراري (14/ 251).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
هذا (يعني: الحديث) لا حجة فيه في فضل المدينة على مكة، وإنَّما فيه الدعاء للمدينة بالبركة، ونعم، هي -والله- مباركة، وإنما دعا إبراهيم لمكة بما أخبر به تعالى؛ إذ يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} إبراهيم: 37، ولا شك في أنَّ الثمار بالمدينة أكثر مما بمكة. المحلى بالآثار (5/ 325).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَيْ ما بمكة من البركة» يدل على الفضيلة لا الأفضلية، وقد صح في فضيلة مكة أحاديث أيضًا، منها خبر: «والله إنكِ لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله»، وخبر: «ما أَطْيَبَكِ وأحبَّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكَنْتُ غيرك»، ومنها خبر أنه -عليه السلام- قال لهم في حجة الوداع: «أيّ بلد تعلمونه أعظم حرمة؟» قالوا: لا إلا بلدنا، الحديث، وفي رواية: أن ابن عمر وجابرًا يشهدان أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل الناس: «أي بلد أعظم حرمة؟» فأجابوا بأنَّه مكة، وهذا إجماع من الصحابة أنَّها أفضل البلاد، وأقرهم -عليه السلام-. مرقاة المفاتيح (2/ 588).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
مكة أفضل (أي: من المدينة)؛ لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحَزْوَرَةِ: «والله إنكِ لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما خرجتُ» قال الترمذي: حديث صحيح، وفي رواية: «إنكِ لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله»، فقد ثبت أنها خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله، وهذا صريح في فضلها.
وأما الحديث الذي يُروى: «أَخْرَجْتَنِي مِن أحبِّ البقاع إليَّ، فأَسْكِنِّي أحب البقاع إليك» فهذا حديث موضوع كذب، لم يروه أحد من أهل العلم، والله أعلم. مجموع الفتاوى (27/ 36).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
اجتمعوا على أنَّ موضع قبره -عليه السلام- أفضل بقاع الأرض، وأنَّ مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، ثم اختلفوا في أيّهما أفضل ما عدا موضع قبره -عليه السلام-، فذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيِّين إلى تفضيل المدينة، وجعلوا الاستثناء على تفضيل الصلاة بألف على سائر المساجد إلا المسجد الحرام فبأقل مِن ألف، على ما تقدم عنهم، واحتجوا بما قال عمر: «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه»، فيأتي فضل مسجد الرسول -عليه السلام- بتسعمائة، وعلى غيره بألف، وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة، وهو قول ابن وهب وابن حبيب من أصحابنا (المالكية)، وحكاه الساجي عن الشافعي، وحملوا الاستثناء على ظاهره، إلا المسجد الحرام فالصلاة فيه أفضل. إكمال المعلم (4/ 511).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
أما التربة التي دُفن فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أعلم أحدًا من الناس قال: إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى؛ إلا القاضي عياض، فذكر ذلك إجماعًا، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه، ولا حجة عليه، بل بدن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من المساجد، وأما ما فيه خُلِقَ، أو ما فيه دُفِنَ فلا يلزم إذا كان هو أفضل أنْ يكون ما منه خُلِقَ أفضل. مجموع الفتاوى (27/ 37).